احتفل السودانيون أمس بإعلان المجلس العسكري وقادة الحركة الاحتجاجية التوقيع على اتفاق من شأنه أن يمهد لبدء مرحلة انتقالية يفترض أن تنتقل بعدها البلاد إلى حكم مدني ديمقراطي يؤمن الاستقرار السياسي ويعمل على حل الإشكاليات الاقتصادية الصعبة التي تعاني منها البلاد منذ انفصال الجنوب الغني بالنفط عام 2011 عن الشمال وما تبعها من سياسات فاشلة لنظام حكم عمر البشير. يجب الاعتراف، بداية، أن الاتفاق لا يعبّر عن تفضيل أعضاء «المجلس العسكري» (وخصوصا الطرف الذي يمثله الفريق أول محمد حمدان دقلو المشهور بحميدتي) للتسوية السياسية على النزاع أو «بعد نظره»، بل يدل بالأحرى على فشله في القضاء على الانتفاضة السودانية، وهو ما يفرض على القوى السياسية السودانية الحذر، خلال السنوات الثلاث المقبلة (التي تشكل مدة المرحلة الانتقالية)، من احتمالات التلاعب بالاتفاق أو حتى الانقضاض عليه. يعتبر الاتفاق أيضاً فشلا لعواصم الثورة المضادة في الرياض وأبو ظبي والقاهرة التي حاولت نسخ السيناريو المصريّ في السودان، باستخدام ثلاث وسائل، الأولى هي تقديم مساعدات مالية وعينية لدعم عناصر الجيش السوداني و»قوات الدعم السريع» وشراء ولائها، والثانية هي إرسال شخصيات سياسية وأمنية لمراقبة أداء «المجلس العسكري»، والضغط عليه باتجاه استخدام أسلوب البطش، والثالثة عبر استدعاء جهات محسوبة على المعارضة والتأثير عليها. كان رد الجماهير السياسية السودانية، على «المجلس العسكري»، هو المزيد من التصميم على المجابهة والتمسك بإعلان قوى الحرية والتغيير و«تجمع المهنيين السودانيين»، وقدّمت الضغوط الدولية، سواء الأوروبية والأمريكية أو الأفريقية، المظلة السياسية المهمة لمواجهة ضغوط الإمارات والسعودية ومصر. يمثّل الاتفاق مثالا عربيّا على قدرة النخب السياسية المعارضة على مواجهة خطط النظام العربيّ لوأد الثورات، ولكنّه ما كان ليحصل لولا مرور الثورات العربية بمرحلتين سبقتاه، الأولى هي مرحلة الانتفاضات التي عمّت تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن والبحرين، والثانية هي مرحلة الثورة المضادة التي أدّت للانقلاب العسكري في مصر وحركة الجنرال خليفة حفتر في ليبيا وخلق اضطرابات في تونس وتدخل عسكري في البحرين واليمن، واستدعاء لقوى من خارج المنطقة وشن النظام حرب تدمير وتجويف سكاني هائل في سوريا. يعتبر ما حصل في السودان، بهذا المعنى، حصيلة للمرحلتين الأولى والثانية، فهو يجمع بين المثال التونسي الذي توصلت فيه القوى السياسية إلى تسوية بمساعدة من الجيش، ومثال المرحلة الأولى من الثورة المصرية حين تراجع الجيش إلى الخلف وسمح بإجراء انتخابات نيابية ورئاسية ديمقراطية، كما أنه يعكس إدراكاً من المؤسسة العسكرية السودانية للعواقب المدمرة للخيار الدمويّ الذي اتبعه معمر القذافي وعلي صالح وبشار الأسد… ولاحقا عبد الفتاح السيسي. هي لحظة تاريخية إذن للسودان تحمّل نخبته السياسية، مثلما هو حال النخبة السياسية في تونس، مسؤولية كبرى لإثبات أن الدكتاتورية ليست المآل الحتمي للشعوب العربية. ///////////////////