على إمتداد سنوات حكمه المتطاولة، سعى البشير ونظامه الإسلاموي الآفل، إلى اللعب بالتناقضات، والاستفادة القصوى من الخلافات وصراعات المصالح الاقليمية والدولية، غض النظر عن نسبة واحتمالية جلب هذا النوع من محاولات التذاكي السياسي لمتاعب تحتاج سنوات لاصلاحها، الا ان مثل هذه الألاعيب قد تكون مباحة بمحدودية، وفي ظل أوضاع أقل حدة مما هو داير الأن على الصعيدين الاقليمي والدولي. فالبشير الذي بدأ عهده بمعاداة بلدان الخليج العربي، على أيام احتلال العراق للكويت، سرعان ما عاد إليها كأن شيئا لم يكن في مسيرة تلك العلاقة القديمة والمتجذرة! وكان البشير يحتفظ بعلاقة جيدة مع النظام العراقي، وفي الوقت نفسه تمد الجبهة الاسلامية القومية الحزب الحاكم صلاتها بعلاقات قوية مع نظام الملالي بايران. وسار النظام على هذا النحو مع محور قطرتركيا ومحور السعودية الاماراتالبحرين مصر، وذات اللعبة مارسها نظام البشير مع كل من اثيوبيا ومصر، رغم خلافه البين في أغلب الأوقات مع النظام المصري، وسعي الثاني لاحتوائه بسبب التاثيرات المتوقعة من قيام سد النهضة باثيوبيا، ومخاوف مصر الرسمية بسبب قضايا الأمن القومي ، حيث تعاملت معه الدبلوماسية المصرية كأمر وواقع لابد منه! من جهة أخرى تعلم اثيوبيا أن النظام السوداني السابق، يجيد تحريك الملفات الخطيرة خصوصا تلك المرتبطة بالمجموعات الإثنية الاثيوبية ثلاثية (الامهرا – الارومو – التقراي)، وقد سعت اثيوبيا أيضا إلى احتوائه. السودان الجديد، كما يطرح أهله عقب ثورة (19) ديسمبر، سودان مختلف الوجهة والتوجه، إذ إن الحكومة المدنية الصاعدة، حثيثة السعي لتحويل دولة التمكين الإسلاموي إلى دولة كل الشعب، ورغم انشغالها بملفات الداخل شديدة التعقيد، إلا أنها افصحت بقوة ووضوح، إن سياستها الخارجية لا تستوي إلا على سيقان المصالح السودانية وحدها، وقد صدحت علنا قائلة السودان أولاً. تتباين مواقف مصر واثيوبيا بشكل كبير في لعبة المصالح، وتصل إلى مستوى التعارض فيما يينهما، لكنهما تتفقان دون إخفاء، على السعي لاستقطاب السودان إلى جانبيهما كُل منفردة في مواجهة الأخرى. جرى هذا على أيام النظام السوداني السابق ولا زال، وسيشتد مقبل الشهور القادمة، كل ما تصاعد بناء وتشييد سد النهضة الاثيوبي، فكيف قابلت الدولتين التغييرات الجديدة في السودان؟ وما مدى تأثير مواقف كل منهما اثناء وبعد الثورة علي مستقبل العلاقة مع السودان؟ إلى وقت قريب من تصاعد حركة الاحتجاجات في ديسمبر الماضي، وتحولها إلى انتفاضة كاسحة، سعت كل من اثيوبيا ومصر، إلى الابتعاد عن التدخل المباشر في ما يجري في السودان، وكلاهما كان يتمنى صعود حلفاء محتملين، الى الحكم حالة سقوط النظام الإسلاموي. لأسباب مختلفة، كانت اثيوبيا الأسرع، في الاقتراب من التنظيمات الرسمية للاحتجاجات، عبر علاقاتها وتحركاتها السياسية النشطة، وتحريك أداوتها الدبلوماسية عبر الاتحاد الافريقي، ومنظمة الايقاد، ومع تصاعد الإنتفاضة، واستشعارا منها لكفاح السودانيين الطويل من أجل الحرية والديمقراطية، سبقت اثيوبيا مصر، بل جميع دول العالم، وأرسلت مبعوثا لها تم اختياره بعناية فائقة السفير"محمود درير"، فهو من اقليم الصومال الاثيوبي "أوغادين"، ذي الصلة الوثيقة بالإنسان والوجدان السوداني لأسباب تاريخية، وهو رجل متجذر الوعي والفهم بالثقافات الأفريقية والعربية، فقد عاش في العراق ودرس في سوريا، ويجيد عددا كبيرا من اللغات من بينها العربية، وعمل سفيرا لبلده في مصر، وقد شيد علاقات وثيقة مع السودانيين بالقاهرة، وحين بدأ دخلته إلى السودان بدأها مع الحلفاء المفترضين لمصر! وكانت القاهرة، قبل ذلك، وفى ظل حكم نظام البشير، قد اتخذت قرارات احدثت تأثيرات سلبية لدى اغلب السودانيين، ابرزها إغلاق مكتب الحركة الشعبية لتحرير السودان، ثم الغاء الموتمر العام للجبهة الوطنية العريضة، وختمت تلك القرارات قبل (4) أشهر من أنطلاق الانتفاضة السودانية، برفض دخول السيد الصادق المهدي، اخر رئيس وزراء سوداني منتخب، وهو رئيس الأغلبية النيابية، في اخر انتخابات ديمقراطية جرت في السودان! الموقف المصري الرسمي، تراءى للسودانيين، إبان الانتفاضة وما بعدها، إلى أنه موقف متماهي مع نظام البشير، ويبدو أن أجهزة الأمن والمخابرات، بقيادة صلاح قوش عبر زيارته المتكررة قد اقنعت مصر الرسمية بقوة إمساك البشير بالسلطة، وهو عكس الواقع تماما لمن يعرف السودان، ومعلوم ان رهان مصر هو رهان التعامل مع الأمر الواقع، بينما رهان اثيوبيا كان على المستقبل، وهي تتابع الأمر السياسي وتطوراته بدقة، وقد اعتادت علي ذلك من أيام الراحل "ملس زيناوي". الزيارات المتبادلة، بين الأجهزة الامنية، في السودان ومصر، أضرت بصورة مصر في السودان، وقد ابدى الكثير من الفاعلين السودانيين فى الحقل السياسي دهشتهم، من الموقف المصري، الذى عبرت عنه الدبلوماسية الرسمية، كونه موقفا محايدا، وإن كان الحياد مستغربا، لأن الشعب السوداني، ظل طوال ثلاثة عقود يكافح نظاما أصوليا عقديا عقاديا اخوانيا، لطالما قامت الانتفاضة الشعبية في مصر ضده، حيث لم يحتمل شعب مصر فكرة أن يحكمه الاخوان المسلمين مدة عام واحد، لإيقان المواطن المصري أن الاخوان المسلمين سيحيلون بلدهم إلى خراب، فكيف تتعامل مصر الرسمية، وليدة ثورة (30 يونيو) مع نظام هي على النقيض منه تماما؟! زيارة سامح شكري وزير الخارجية، وعباس كامل مدير المخابرات، إلى الخرطوم إبان اشتعال الانتفاضة، وفي يومها التاسع، وبعد اتساع نطاق التظاهرات في مدن سودانية مختلفة، بددت الأمل في نفوس السودانيين من احتمال نصرة من قبل الأشقاء، بل امتد فقدان ليشمل غالبية الدول العربية، والبصيص الوحيد وقتها مجسدا في احتمال موقف مساند من دولة الامارات العربية المتحدة للإنتفاضة، بالنظر للخلافات الجذرية مع تنظيم الاخوان المسلمين، لكن ما رسخ في العقل والوجدان السوداني، ان الخيار المفضل لغالبية الدولة العربية، هي ان يحكم السودان شخص من المؤسسة العسكرية، بل ان بعضها يفضل حكم المليشيات شبه العسكرية على اقامة نظام ديمقراطي تعددي في السودان!! بالعودة الى موقف القاهرة، نجد ان مصر استقبلت الفريق "عوض ابنعوف" نائب البشير وبرفقته مدير جهاز الأمن والمخابرات الوطني" صلاح قوش"، وتم استقبالهما في الثالث عشر من مارس 2019، أثناء الانتفاضة، فى وقت وصل فيه عدد شهداء الإنتفاضة الجارية وقتها، إلى قرابة ال (50) شهيدا وشهيدة، كل ذلك حفز الثورة والثوار، إلى التفاعل أكثر مع كل ما هو اثيوبي، ودفعهم بقوة للإبتعاد عن مجرد تصور، أنه بالإمكان أن يتأتى أي سند عربي، حيث كانت الدولة العربية الأخرى، تعتمد في تفاعلاتها مع السودان وقضاياه، علي مد وجذر العلاقته مع مصر. الاسترسال في ذكر التفاصيل المحيطة بالانتفاضة السودانية، يتأتى من اليقين في أن السياسية الخارجية للحكومة الإنتقالية، ستكون بالضرورة أولوياتها هي مصالح السودان، وإذا اجبرتها الظروف الإقليمية من ناحية الخيارات والانحيازات، فإنها ستكون عرضة لمطالب وضغط الثوار واتجاهاتهم، إما أن تكون الأقرب إلى اثيوبيا، إما أن تحيد وتنأى بنفسها عن الانشغال بالنزاع بين مصر واثيوبيا، في موضوع سد النهضة، وتكرس جهودها للإشتغال بمعالجة قضايا الداخل مدة حكمها القصيرة. على الرغم من إبتعاد كل من مصر واثيوبيا، عن تحديد ماذا تريدان من الخرطوم، على وجه الدقة والتحديد، لضمان مصالحهما مع السودان، إلا ان عموم السودانيون يدركون ذلك جيدا، لا سيما القوى السياسية الصاعدة، وعلى وجه الخصوص الحكومة الإنتقالية، ويدرك أكثر من غيره السيد عبد الله حمدوك، رئيس مجلس الوزراء، بحكم تخصصه، ومسيرته العملية في اللجنة الإقتصادية لأفريقيا الدولية التابعة للأمم المتحدة. اكبر ما يقلق مصر، هو إكمال بناء وتشييد سد النهضة، دون الوصول إلى أتفاق حول سنوات ملء بحيرة السد، إذ من المتوقع، أن تؤثر عمليات الملء على كميات المياه المتدفقة من الهضبة الاثيوبية إلى مجرى النهر، وهي مخاوف منطقية لبلد يسد النيل (90) من احتياجاتها المختلفة، في الزراعة والصناعة والاستخدام الأدمي للشراب، فتدني منسوب النيل، لا شك يؤثر على حياة السكان في مصر، وعلى أنشطة عديدة، وفي مناطق مختلفة، بل ينعكس، على مجمل النشاط الاقتصادي في مصر، القلق الثاني لمصر، هو الخوف من تسلل عناصر تنتمي إلى الحركة الاخوانية الإرهابية - المصنفة إرهابية وفقا للقانون المصري – عبر حدود السودان، وتسعى مصر ايضا إلى ضمان انسياب السلع والخدمات، وعمليات الصادر والوارد والتبادل التجاري مع السودان، ووصل حجم مجمل العملية التبادلية بين البلدين، إلى مليار دولار امريكي، والميزان التجاري لصالح مصر، ويصل حجم الاستثمارات المصرية، حسب "مكتب التمثيل التجاري المصري بالسودان، إلى (10) مليار ومائة مليون دولار، في كافة المجالات، بينما يقترب حجم الاستثمارات السودانية من ال (6) مليار دولار، وترغب مصر في الحصول على المزيد، من واردات اللحوم إما بالاستيراد، أوالحصول على فرص استثمارية في ذات المجال، اضافة الي الفول السوداني والمواد الخام لصناعة الزيوت والجلود. بالمقابل يقل حجم التبادل التجاري بين السودان واثيوبيا، بالمقارنة مع مصر، إذ تلعب الظروف الطبيعية والمناخية، والظروف السياسية المتشابهة في البلدين، دور كبير فى جعل فرص الاقتصاديات متشابهة إلى حد كبير، وإن تميز السودان بثرائه من ناحية المنتجات الزراعية والحيوانية، واثيوبيا شبه مكتفية في هذا الجانب، ولا حاجة لها إلى المنتجات الحيوانية. رئيس الوزراء الاثيوبي "أبي أحمد " الذى قوبل بترحاب كبير من السودانيين اثناءوبعد الإنتفاضة، ركز كثيرا على أهمية السودان للقارة الأفريقية، وردد ذلك في أكثر من مناسبة وخطاب، وقال بذلك ايضا المبعوث الاثيوبي "محمود درير"، حيث عبر ان أهمية السودان لأفريقيا في سد النقص الغذائي، مما يشىء بأن اثيوبيا، تفكر طرح مشروعات مشتركة مع السودان، وعلى الرغم من وفرة المياه باثيوبيا الا أن الأراضي الصالحة للزراعة وللانتاج الزراعي الغذائي، لا تقارن بما يتوفر للسودان. ولا تخفي اثيوبيا مسعاها، إلى أن يكون السودان دائما معها، لا سيما في قضية سد النهضة. إذا الدولتين حاجتهما إلى السودان واضحة، ويبقي على السودان أن يحدد ما يريده من كل طرف، وفي الغالب لا يفصح التفكير الحزبي السوداني، عن تصوراته لمصالح السودان اى تلك المرتبطة بقضايا الأرض، والحدود، والزراعة ،والانتاج الزراعي، والأمن الغذائي، والمائي، بالذات تلك المصالح المرتبطة بدول اقليمية تتلاقي أو تتعارض، خصوصا مع مصر واثيوبيا كثيفتي السكان. البديل والأمل والمستقبل بإمكان السودان، ومن واقع التجارب الاقليمية والدولية الكبيرة، التي أطلع عليها رئيس مجلس وزراء الحكومة الانتقالية شرقا وغربا، أن يطرح بدائل تكون بمثابة "مشروع البديل من أجل المستقبل"، هذا الأمر ممكن وضروري وحيوي في حالتنا، وبديله الخيار العدمي. اُشدد يالقول أنه أمر ممكن، وفيه حل لمشاكل السودان ومصر واثيوبيا، على أن يرتكز أولاً على حل الخلافات الحدودية بشكل حضاري وجذري، ثم يبين المشروع كيفية إدارة الموارد على نحو يحقق مصالح الجميع، وأن يقوم على قاعدة تعاون وأسعة تشمل الزراعة والإنتاج الزراعي المرتبطان بالأمن الغذائي وبالصناعة، وأن يشمل المشروع مجالات الطاقة المختلفة الكهرباء، الشمسية، الرياح، والغاز والمياه، والخدمات الصحية والتعليمية، ومشروعات البنى الأساسية، من طرق، وموانئ، وسكك حديدية، ومطارات، وكباري، ومشروعات السدود لأجل تخزين المياه وتجميعها، وقيام أنهار صناعية، على ان تضمن أطروحة التعاون الثلاثي هذه تضمن حرية انتقال البشر والسلع والخدمات، بلا قيود، وربط كل ذلك بعملية التحولات السياسية المطلوبة شعبيا، وفى مقدمتها الديمقراطية والحكم الرشيد، مثل هذا الطرح تم بوتائر بطيئة، استغرقت سنوات في تجربة الاتحاد من أجل الفحم، وتخلق عنها الاتحاد الأوربي الحالي، فهل يطرح السودان مثل هذا المشروع ليشمل اثيوبيا ومصر، ويصبح نواة لإتحاد عموم أفريقيا؟ إن الصراعات الخفية والمعلنة، لتحقيق مصالح الدولة الوطنية، دون النظر الى الاعتبارات الاقليمية، لن تفيد الدولة الوطنية نفسها، كما ان التنمية التي تقام علي الاضرار بالاخرين، أو على حساب بلد آخر، لن تفيد في المديين القريب والبعيد، ولا تخلق سواء التشاكس والنزاعات، ولا تولد سواء الصراعات. *صحفي سوداني
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.