أقام منبر التجاني الطيب ندوة مهمة بولاية فرجينيا بالولايات المتحدةالأمريكية، استضاف فيها الأستاذ صديق عبد الهادي، ليتحدث عن كتابه الموسوم ب" بعض قضايا الاقتصاد السياسي لمشروع الجزيرة"، واعتمد في دراسة الحالة على "مشروع الجزيرة" ، احد اكبر المشاريع الزراعية المروية علي مستوي القارة الافريقية. خرج البحث في ظروف مواتية، خاصة مع سقوط نظام عمر البشير والذي أنشأ نظاماً سياسيًا ساهم في تسريع وتيرة الانهيار الاقتصادي في السودان. فمشروع الجزيرة تحديدا، يظل مثالا حيّاً على فشل القوي السياسية –بكافة اطيافها الفكرية- في التوافق على السياسات العامة التي تؤطّر العلاقة ما بين الدولة والسوق من ناحية، وما بين الدولة والمجتمع من الناحية الأخرى. تناول البحث عملية الإقصاء الممأسس الذي انتهجته النخب السياسية المتعاقبة في حق مجتمع" الكنابي"، ممثّلاً ملكية الأرض، قضايا العمال الزراعيين، و النظام الرأسمالي و علاقات الإنتاج داخل منظومة المشاريع الزراعية. كذلك، استعرض الكتاب النهج الاستعماري للدولة ممثلة في جملة القوانين التي تتعلق بنزع الأراضي من الأفراد و اعادة تمليكها للمستثمرين مع منحهم الحق في حرية التصرف. علي المنوال نفسه، فبالرغم من القوة الاقتصادية الهائلة للمشروعات المرويّة، و دور العمال الزراعيين الملموس في النهضة الزراعية، إلا أن ذلك لم ينعكس علي أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية، فاغلب الكنابي إتّسمت بتفشي الفقر وتدني الخدمات الصحية والتعليمية. و علي الرغم من أن ولاية الجزيرة تشكّل الحاضنة الرئيسية للاستنارة في السودان، إلا أن مجتمع الكنابي عاني من نسبة أمّية عالية. و لم يختلف الحال بالنسبة للأوضاع الصحية، التي ازدادت سوءًا مع تردّي الخدمات التي تقدمها إدارة المشروع، و التي أهملت العمال الزراعيين و لم تشملهم بالقدر الكافي في خططها الخدمية.. و عطفاً علي التوصيات التي نتجت عن مؤتمر الكنابي، و الذي انعقد مؤخرا بالخرطوم، انتقد الكاتب توصية المؤتمر بالعمل علي إلحاق هذه القضايا و غيرها بملف السلام المنعقد ما بين قوي الحريّة و التغيير و حركات الكفاح المسلّح بمدينة جوبا، عاصمة جنوب السودان، و ذلك لخصوصية وضع العمال الزراعيين باعتبارهم مكوّن إجتماعي ذا مساهمة اقتصادية ملموسة، الأمر الذي يحتّم التعامل مع قضاياهم عبر اصلاح السياسات العامة التي تتعلّق بالاقتصاد السياسي للدولة، و ليس عبر مفاوضات الحرب و السلام. في حقيقة الأمر فإن نقل قضايا الكنابي لملف السلام من شأنه أن يعبّد الطريق لظاهرة أكثر تعقيدا و هي السياسة العرقية Ethnic Politics، خاصة في الدول التي تتميز بالتنوع العرقي. علي سبيل المثال، فعلي الرغم من النهضة التنموية الملموسة في دولة إثيوبيا، الّا ان النظام القائم علي الفدرالية الإثنيّة مازال يشكل عبئا كبيرا علي الديمقراطية و الاستقرار السياسي. فكل الإصلاحات السياسية التي يتبناها النظام الحاكم تمر وجوبا عبر عدسة التمايز الإثني، الأمر الذي يفاقم من النعرات العرقية و العنصرية.. و تطرق البحث ايضا للطبيعة الاقتصادية لنظام البشير في السودان، تلك التي أشبه ما تكون بالنماذج المافيوية، التي تعتمد الفساد والجريمة وسائل فعّالة لمراكمة رأس المال، وأشار لأنّ نظام البشير قد فتح المجال للرأسمالية الطفيلية التي احدثت زلزلة اقتصادية بابتلاعها للرأسمالية الوطنية-و التي ارتبط تطورها الطبيعي تاريخيا بتطور الاقتصاد في البلاد. وقد تطرق المفكّر الفرنسي باولو ڤيريلو لهذا الأمر في كتابه الفلسفي السياسة و السرعة، حيث أشار المؤلف للارتباط الوثيق ما بين المال و القوة، حيث يتراكم الرأسمال بصورة مطردة مع تزايد النفوذ السياسي و العسكري. ولم يختلف الأمر كثيرا في السودان، فالاقتصاد الطفيلي لنظام الاخوان المسلمين ترتب عليه نظام سياسي اعتمد العنف والارهاب للاستئثار بمفاصل الدولة، وامتصاص مواردها عبر دولة موازية تمتلك المال والسلاح والمورد البشري. ارتكز الكاتب علي المنهج الماركسي والذي يقوم على تحليل علاقات الإنتاج والتفاوت الطبقي، بينما لم يتطرق البحث الي علاقات الإنتاج ما بين المزارعين والعمال الزراعيين، ولا الي التفاوت الطبقي ما بين ملاّك الأراضي ومجتمع الكنابي، وهي بلا شك صورة مصغرة لعلاقة المنهج الاقتصادي للإسلام السياسي مع ملّاك الأراضي الزراعية. كذلك، لم يتطرق الكتاب في تأسيسه النظري لتطور النموذج الرأسمالي والذي تجاوز اقتصاد السوق التقليدي لاقتصاد المعرفة او ما يعرف باقتصاد كاليفورنيا، والذي تغيرت فيه انماط الإنتاج و تشابكت فيه العلائق الاقتصادية ما بين المنتج و المستهلك. أيضا أغفل البحث البعد الاجتماعي-السياسي لمشروع الجزيرة، تحديدا المكوّن الإثني للسلطة السياسية للدولة، وادارة المشروع، والطبقة المالكة لوسائل الإنتاج. فتحليل المكون الاجتماعي-السياسي من شأنه ان يوضّح أحد الأزمات الرئيسية التي مازالت تواجه بناء الدولة السودانية، وهي أزمة الهوية، والتي انعكست في السياسات الاقتصادية التي تمنح امتيازات مادية لفئات مجتمعية بعينها. فالدولة السودانية منذ الاستقلال كانت دولة متحيّزة بامتياز لفئات مجتمعية تتميّز بهوية (اسلامو-عروبية) ذات تراتبية أثنية. وهو الامر الذي انعكس على نظام الحكم الذي أنتج نظاما سياسيا هو الأقرب لنظام الفصل العنصري بجنوب أفريقيا. أشار البحث لأهمية المشاركة في صياغة السياسات العامة، فإشراك المزارعين والعمال الزراعيين -علي حد سواء- في عملية صياغة القرارات و إرساء مبادئ الحوكمة الرشيدة بالمشاريع الزراعية، من شأنه أن يجعل السودان سلة غذاء العالم، بحق و حقيقة. هيثم كرار باحث في قضايا الحكم والتنمية- واشنطن عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. البريد الالكتروني: