التحولات التي ضربت البنية السياسية على مدى عشرين عاما ، بفعل ممارسات الإنقاذ السياسوية الإسلاموية تبدو اليوم كما لو كانت النسق العام للنشاط السياسي ؛ وعلى ضوء هذه الحقيقة ربما أمكننا اليوم التأمل ليس فقط في صورة ما يجري الترويج له كنشاط سياسي ، وإنما في ذلك النسق الخفي لماوراء (الخير والشر) الذي يتجلى في العناوين بحسب الشعارات الحدية التي يروجها طرفا السلطة المتنازعين على سباق الرئاسة في الخرطوم : (المؤتمر الوطني الحركة الشعبية) ذلك أن ما يعني المتابع المحايد في هذا السوق الانتخابي ليس فقط الظواهر التي تضخها شعارات الحملة الانتخابية لهذا الفريق أو ذاك ، وإنما تلك القوانين الخفية والشروط التي تجعل من العملية السياسية في هذا البلد أفقا مسدودا للكثير من الأسباب . فحين يصرح الرئيس عمر البشير عن عدم الرغبة في أصوات (المخمورين) لا يمكن تفسير ذلك ضمن سباق سياسي دون أن يعكس رؤية طهورية هي خارج سياق السياسة تماما ، وعلى الضد من المعنى الزمني للسياسة بوصفها إدارة سلمية محايدة للشروط الموضوعية للبشر . ذلك أن مثل هذه التصورات الطهورية هي في صورة أخرى تقابل إستراتيجية المؤتمر الوطني في إفساد السياسة عبر تغيير أدواتها وبنياتها وآلياتها الموضوعية رغم ما أصابها من وهن وترحيلها إلى الكيانات القبلية والعشائرية . والحال أن هذه الإستراتجية في الحقيقة تنطوي على خطورة بنيوية معيقة لطبيعتها وذات ارتدادات عكسية مدمرة . وفي كلا الحالتين حين يتم الحديث عن السياسة بلغة طهورية من ناحية ، وحين يتم تفريغ أدواتها من العناصر الموضوعية من ناحية ثانية ، يصبح إدخال السياسة في القبيلة هو إفساد للقبيلة والسياسة في وقت واحد . هكذا تبدو الساحة السياسية عرضة للكثير من التهييج للنزعات البدائية التي تعكس وعيها السياسوي ضمن الإحساس الخام القريب بالقبيلة ، وإحساس كهذا في طبيعته المتصلة بالقبيلة لا يعرف اللون الرمادي الذي هو منطقة السياسة بامتياز بل ينجر في تلوين علاقات السياسة النسبية بعناوين السواد والبياض و الصديق والعدو ضمن الولاء المطلق ؟!! ولعل هذا ما يفسر لنا في نهاية المطاف أن الصراع الذي طفا على هامش التسخين على دوائر انتخابات الولاة في بداية الحملة الانتخابية ، في كسلا والنيل الأزرق والمناقل والبحر الأحمر ، كان صراعا داخل المؤتمر الوطني نفسه ، وهذه هي النتيجة والأثر الارتدادي لتعاطي السياسة بأدوات القبيلة والعشيرة والمنطقة . لقد كانت هذه الحال هي المرحلة الأخيرة التي استدعت ظهورها في جسم المؤتمر الوطني نفسه بعد أن أدمن التعاطي معها في صراعاته مع الخصوم سواء مع الأحزاب التقليدية أو مع حركات الهامش (دارفور الشرق) . الأخطر من ذلك كله أن هذه النسقية المغلقة لبنية النشاط السياسي هي ما عاد أداة التعريف الحصري للسياسة في وعي الأجيال الجديدة التي نشأت خلال العشرين عاما في ظل حكم الإنقاذ ، بعيدا عن السياسة بمعناها التقليدي . بيد أن العطب أيضا يلحق البنى السياسية للأحزاب التقليدية إذ يفسر بصورة ما ذلك النسق الخفي لطبيعتها الطائفية المسيسة . وبالرغم من الحراك والتململ الذي يبدو هلاميا في أوساط الشعب كحركة الشباب الأخيرة (قرفنا) فإن ما يعزز احتمال الانسداد في الأفق السياسي لا يندرج في خانة التشاؤم التي يمكن أن يتصورها البعض في هذه الكتابة ، وإنما يندرج ذلك الانسداد أيضا في أن ثمة قوانين موضوعية تحكم النشاط الإنساني مهما بدا هذا النشاط فوضويا وخارجا عن الضبط في سياقات تختبر شروطه الخفية ، وبالتالي فإن القراءة السياسية بصورة ما ، ليست فقط هي ذلك التحليل السريع للوقائع المتسارعة والأحداث المتحولة ؛ وإنما أيضا ذلك التحديق وراء تلك الوقائع المتناسخة ومحاولة الغوص عميقا في مرجعياتها ودينامياتها التي تعود للكثير من البنى والمنظومات المتغلغة في المجتمع والتاريخ والبيئة ، وهي بلا شك أهم البنى التي ينتجها التخلف وتعيد إنتاجه في نفس الوقت . لذلك فإن الحراك النسقي الذي بطبيعته لا يفضي إلى نتائج حاسمة وإيجابية في العملية السياسية كحالة متقدمة من التعاطي السياسي ضمن كيانية وطنية ناجزة ؛ سيظل في خلفية موسيقى الضجيج التي يضخها ذلك السباق المحموم نحو مسافات الفراغ الطويل دون أن يخلف أثرا أو نتيجة إيجابية ؛ أن لم يخلف المزيد من الاحتقان والقابلية للضغوط التي يمكن أن تنفجر في أي لحظة . إن الحراك النسقي بالإضافة إلى كونه من نتائج التاريخ السياسوي للإنقاذ ضمن مسيرة التفتيت والتطييف للبنى السياسية ، بطريقة منظمة ؛ هو أيضا من البنيات التي تتوفر في الواقع الاجتماعي والتاريخي للسودان ، مما يعني أن طرفا من هذا الحراك النسقي يجد تعبيره بصورة ما في الواقع السياسي والاجتماعي لجنوب السودان ، ومن ثم قابلية انعكاسه في الأداء السياسي للحركة الشعبية ؛ وهذا ما سنحاول الحديث عنه في مقال آخر . صحيفة الأخبار السودانية الثلاثاء 9/3/2010