بعكس كل المحاولات التي تسعي لتعريف العلمانية فإن هذه المقالة ليست معنية بالبحث عن تعرف جامع مانع للعلمانية ، ولا هي كذلك تسعي لمحاولة البحث والتقصي في الجذور الفلسفية لها. فكاتب المقال لا يخشى الخوض في غمار المعمعان الفلسفي والنظري والتاريخي للمصطلح ومدلولاته عند العديد من المدارس الفكرية التي نادت بها ، ذلك بالنسبة له كيل يسير. غير أن الخوض في تلك الدهاليز تقود الي غير المبتغى. لذلك فإن هذه المقالة تهدف للنظر للعلمانية بطريقة مختلفة عن محاولات الكتاب العلمانيين العرب الذين تصدوا لمهمة شرح وعضونة العلمانية في السياقات الفكرية والسياسية العربية، فقد انزلقوا و انزلق معهم معظم القراء والمتابعين الي جدالات لا نهائية بدرجة أخرجت العلمانية عن القصد الكلي الذي تسعي لتجسيده في الواقع، فتحولوا في حومة الصراع الفكري مع خصومهم لمواقع الدفاع عن أنفسهم وأفكارهم بدرجة ظلمتهم وظلمت الفكرة الكلية لموضوعة العلمانية. وجعلتها أشبه بحالة مذهبية عقائدية. لذلك لن ينساق الحديث هنا لتعريف ولا تنظيرات فلسفية إلا بالقدر الذي يوصل الفكرة باقصر الطرق. العلمانية التي يجاوب عليها هذا المقال تتأسس علي لاءين Two NOs (لا تستعدي الدين. ولا تستدعيه) بمعني أن العلمانية هنا لا تعادي الدين - اي دين - فهي تعترف بما تحمله الأديان من طاقات روحية ومكامن ثرة لتمام الأخلاق. كما تعترف به كونه اقنوماً معرفيا يلج في الغيبات ويفسرها وذلك مناط إهتمامه. كما أن العلمانية لا تستدعي الدين ابستمولوجيا ليجيب من مكامن مخزونه علي أسئلة الواقع الملحة في مختلف تجلياته ان كان في الإقتصاد أو السياسة أو العلاقات الدولية وضروب الحياة الدنيا في الواقع الآني Here & now. إذا كان عدم استعداء الدين مفهوم ومطلوب ويقرب من الهدف الساعي للإجابة علي سؤال العلمانية الكبير ، ويصك لها بخاتم البراءة شهادة من التهم التي طالما اتهمت بها بوصفها محاولة لإقصاء الدين عن الحياة. فما هو الهدف من عدم إستدعاء الدين؟. الاجابة علي هذا السؤال تيسر مهمة عسيرة تشكل فيها عادة الفهوم، وتقود الي المنزلقات التي سبق التطرق لها. ولكي لايحدث ذلك لابد من التركيز علي السياق السوداني والسوداني البحت من خلال تحليل تجربة حكم الإسلاميين الأخير. (تنبيه يستخدم الكاتب هنا مصطلح إسلاميين بشكل واعي و مدروس عوضا عن المصطلحات المخاتلة والمنجورة بلا معني كمصكلح اسلامويون) لقد حكم الإسلاميون السودان منذ العام 1989 والي 2019م وبغض النظر عن الصيغة الخسيسة وغير الأخلاقية التي استولوا بها علي الحكم ، فقد تميز هذا الحكم بإستدعاء كثيف لكل ما هو ديني. فماذا كانت النتيجة؟. كانت ثورة شعبية شاملة عبرت عن الرفض القاطع لهذا الحكم ومنطلقاته وأشكاله ورموزه السياسية ومرجعياته الفكرية. وقد كان إصرار السودانيون عظيم في رفض هذه التجربة التي استدعت الدين وقادت به عمليات تعبئة لمشروع كبير هو مشروع الاسلمة Islamization او المشروع الحضاري في الإقتصاد و القوانين والإعلام والفنون والتعليم والتجارة والعلاقات الخارجية وكل أوجه الحياة، وقاد به أهله - الإسلاميون - حربا ضروسا علي " الكفار" في جنوب السودان. فقد أخذ هذا الحكم يستدعي الدين بوصف أن ما يجري هو جهاد في سبيل الله. كما استدعي الدين لإتمام المهمة الرسولية التي تطلع الإسلاميون لها وهي "إعادة صياغة الشخصية السودانية". وليس صحيح القول الذي يردده المعارضون أن الإسلام بريئ مما كان يفعله الإسلاميون. ذلك أن إستدعاء الدين في السياسة والحكم لا يقود في ظل الدولة القومية الا لانتاج مثل هذا النموذج. وكل من يقول بغير ذلك يضمر في نفسه تصورا لممارسة الدين بذات كيفية الإسلاميين ولن تكون احسن حالا ولا أقل بشاعة من تجربتهم. والدليل علي ذلك بسيط وهو أن مُنظر الحركة الإسلامية وعراب نظامها الدكتور حسن الترابي هو شخص مفكر ومستنير وعالم لا يشق له غبار وذو ملكات وقدرات لا ترقى للشك ، بل إن أطروحاته التي أوردها في كتابه ( تجديد الفقه الإسلامي) تضعه بين مصاف كبار مفكري لاهوت التحرير Liberation theology. غير أن تجربته في الحكم ما كان لها أن تفرز إلا ما افرزته من حروب كان يقود التعبئة إليها هو شخصيا، وجسدت لنظام حكم كرست فيه (بالبيعة) الحكم لديكتاتور فرد، صوروه كحاكم بأمر الله. وما لبث الديكتاتور أن احاط نفسه بعلماء الدين وهم علماء ثقاة في الدين من الذين يفتون في كل شئ ولهم القدرة علي تخريج وتأصيل كل أمر من الدين. ولم يستطيعوا أن يروا في حكم الفرد ذلك منقصة للدين ، بل العكس فقد استانس الحاكم الإسلامي بهم الي اخر رمق عنده. لذلك فإن إستدعاء الدين لن يقيم تجربة أفضل من تلك التي شهدها السودان علي يد الإسلاميين. ليظل المخرج واحد وهو ضرورة عدم إستدعاء الدين. قد لا يفوت علي الكثير من المتابعين أن الدكتور حسن الترابي كان في كل استدعاءاته للدين يركز علي مقولات مهمة في هذا السياق مستمدة من جذور فكر الاخوان المسلمين مجملها (الإسلام هو الحل). (ربط قيم الدين بالحياة). وان (الإسلام هو دين ودولة). وان ( البيعة لازمة من لزوام تمام الدين). هذه المقولات علي عمومياتها هي ما أسس عليها الترابي تجربة حكم الإسلاميين. وهي للمتأمل كلها مقولات تبحث عن فاعل. والفاعل هنا بالضرورة هو من يقوم بامتلاك الحقيقة المطلقة لكونه القيم علي الدين اي الإسلاميون. وما يلاحظ انه لم ينهض ولا واحد من علماء الدين الثقاة لمعارضته لأنهم يعتقدون في نفس تلك الشعارات وبذات عمق وصدق إيمان الترابي. والدليل علي ذلك أن الثورة التي اندلعت ضد حكم الإسلاميين قد قدمت عرضا مغريا في ذروة اندلاعها لواحد من هؤلاء العلماء وهو الشيخ عبد الحي يوسف الذي ناشده أحد المصلين أن يقوم من منبره عندما كان يخطب خطبته الراتبة أن يقود الناس لقول(لا) في وجه السلطان الجائر إلا أن الشيخ احجم عن ذلك وأعرض ونأي بنفسه من معارضة الحاكم الإسلامي وذلك طبقا لموقف ديني يقضي بعدم جواز الخروج علي الحاكم. غير أن المفارقة قد أتت من داخل المساجد نفسها عندما كان المد الثوري في أوجه ، فقد كان الثوار ينزلون كل إمام مسجد من المنبر يخزل من الثورة ويمجد الحاكم، ولم يكن في ذلك رفض للدين من حيث هو، ولكن كان تعبيرا واضحا وحاسما في ضرورة عدم إستدعاء الدين للدفاع عن حُكم حَكموا عليه بالسقوط وبشعار رمزي ارتعدت له فرائص الإسلاميين وكل من والاهم كان ذلك الشعار هو (أي كوز ندوسو دوس). والمعروف أن مصطلح كوز يطلق علي الإسلاميين الذين كانوا في السلطة. والدوس هنا دوس رمزي ويقابل مستويات العنف التي كان يجابه بها النظام الإسلامي جموع الشعب الثائر الذي عبر عن قنوطه من تجربة الإسلاميين بهذا الرفض القاطع والنهائي. وهو رفض إن شاء البعض فهمه علي أنه إقصاء فهو كذلك ليس فقط لأنه رد فعل طبيعي، وإنما لأن الإقصاء كائن في الأصل في ثنايا تفكير الإسلاميين. وإن شاء البعض الآخر اعتباره بأنه رفض لمشروع رؤية الإسلاميين في ترجمة شعار الإسلام دين ودولة يكون ذلك هو عين الصواب. إن الاجابة علي سؤال العلمانية الكبير يبدو سهلا من خلال سياق تحليل تجربة الإسلاميين في الحكم. فهي تجربة وبما اتسمت به من ظلم وتنكيل واضطهاد وفساد مالي واداري مشهود، ما كان لها إلا أن تكون كذلك لأن الذين قاموا عليها هم بشر يحملون كل الغرائز البشرية التي ما أن تتسلح بالدين، حتي تنشر في الأرض الفساد بأسمه. وهي تجربة ليس لها أن تتكرر لأن من يريد تكرارها لن يكون أكثر طهرا من الإسلاميين. د.محمد عبد الحميد عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.