ليس الصراع بين المكونات المدنية والفصائل المسلحة هو الكارثة الكبرى، ولكن ما هو أكبر من ذلك نقل صراعاتهم التافهة هذه إلى ساحة قوى الثورة الحقيقية في لجان المقاومة بالأحياء. بنفس أساليب شراء الولاءات التقليدية الرخيصة التي برعت فيها الأحزاب ومارسها عليها النظام الإسلاموي، وشق صفوفها وتفتيت وحدتها، وزراعة الفتن بين مكوناتها ومحاولات الاستقطاب الغبية بين صفوفها، مما ينذر بتفتيت الجسم الثوري الحقيقي والوحيد الذي يحفظ توازن هذه السفينة التي توشك على الغرق. (2) لقد تسربت الأخبار عن بعض محاولات الشراء التي تم كشفها. وسواء صدقت تلك الأخبار أم لم تصدق وكانت محض تخرصات من قوى الثورة المضادة، فإن هذ الصراعات والنزاعات الفارغة والحروب الأهلية داخل جسم المكون المدني كفيلة – فيما يمكنك أن تتوقع – بإلقاء ظلالها السلبية على وضوح الرؤية الشبابية بضبابية كثيفة، وزعزعة صفوف لجان المقاومة المتماسكة. ومنذ وقت ليس بالقصير أخذت بعض الأصوات بين هذه القوى تتعالى وهي تتابع الخلافات في صفوف الحاضنة السياسية بمختلف مكوناتها، وترى عجز الحكومة عن حسم أهم الملفات (السلام والتفكيك والعدالة)، ورفع معاناة المعيشة عن كاهل المواطنين. متسائلة عن جدوى هذه السلطة بكل مستوياتها المدنية والعسكرية. هل فكر أحد من هؤلاء المتصارعين في إمكانية استغلال أي قوى مضادة – من الداخل أو الخارج – لهذه الحالة من الحيرة والارتباك بين صفوف شباب اللجان لتوظيفها في خلق تيارات تخدم مخطط إجهاض الثورة وتفتيت البلاد؟. بمعنى أكثر وضوحاً وعموموية: ترى هل كان المكون المدني بشقيه – الحكومة والحاضنة السياسية بكل أحزابها وتنظيماتها ومنظماتها المدنية والمسلحة – على وعي بالمخاطر التي لم تعد بحاجة لمايكروسكوب لرؤيتها، وهم ينخرطون بكليتهم في صراعاتهم الفارغة هذي؟. (3) - ألا يرون فلول النظام وتلك الأسلحة التي لا يعلم أحد هوية من يحملونها وأهداف من يحملونها، وهي تمعن قتلاً في المدنيين بدارفور وفي الشرق، أم عميت أبصارهم؟. - ألم يزعجهم، ولو لوهلة، السؤال عن من يغذي هذه المعارك القبلية، ومن بيده روموت حركتها؟. - ألم يتساءلوا، ولو لحظة، لماذا يحتفظ الجيش والأجهزة الأمنية والشرطية بهذه المليارات من الأموال والشركات التي لا تخضع لرقابة الجهاز الرقابي ولا تمر عبر الخزانة العامة للدولة، ولا تملك وزارة المالية حق التصرف فيها أو الصرف منها على خطط الوزارة، بينما هذه الأجهزة والمؤسسات العسكرية والأمنية والشرطية تأخذ حقها "على داير المليم" من خزينة الدولة كمرتبات وتسليح ومخصصات لأفرادها؟. ألم يخطر بذهنهم لحظة أن يستردوا هذه الأموال والشركات لفرض منطق "الدولة" على كل المؤسسات؟. كل حديث عن خصوصية المؤسسات العسكرية والأمنية والشرطية هو محض "كلام فارغ" من كل معنى. ولو كان ثمة خصوصية لأي مؤسسة في الدولة أو لأي فئة لكان أحرى بها المؤسسات التعليمية ومدرسي مرحلة الأساس خاصة، لأنهم الفئة المناط بها إعداد الأجيال التي يعول عليها في بناء مستقبل هذا الوطن، والشرطي الذي يحفظ الأمن في الشارع على مدار ساعات اليوم. - ألم تستوقفهم في غمرة صراعاتهم هذه أن المكون العسكري، في هذه الشراكة العرجاء هو الوحيد المتحد والمتماسك في السلطة (أم ثلاث رؤوس) هذه؟. (4) - ألم يسترع انتباههم أن قوات الدعم السريع تكاد تكون هي الفصيل العسكري الوحيد الذي يعمل ويبلي حسناً في خدمة أهداف الثورة من خلال سجله في محاربة التهريب وضبط المهربين والمُهَرَبَات، وآخرها ما حدث الجمعة الماضية حيث أفلحت قوات الدعم السريع بولاية غرب دارفور (متحرك استعادة الحق) من استرداد (1970) رأس من الضأن منهوبه من مناطق (بلل والطويل وأبوعرديب ووادي ماعون) شمال مدينة الجنينة حاضرة ولاية غرب دارفور. أو مبادرات الدعم السريع بالمساهمة في الخدمة العامة بنقل المواطنين على عرباته، وتقديم بعض الخدمات اللوجستية والتموين للقطاع الطبي في مواجهة جائحة كرونا؟. ألم يسألوا أنفسهم عن دلالات هذه "الهمة" وكيفية التعامل معها؟. - وما هي الحكمة في أن يظل رموز النظام البائد " طلقاء يتمتعون بحرية العمل على إجهاض الثورة على هذا النحو، ولا يلقى القبض على أحدهم حتى يتجاسر ويقود مظاهرة؟. ألا تعلمون أن هناك قوى إقليمية تتربص بالثورة وتسعى لإجهاضها، حتى ولو لم تبادر بإعلان العداء السافر للسودان على نحو مباشر؟. هل يحتاج أحد منكم لأن نقول له: إنكم تقودون السودان للهاوية التي لم يبلغ حضيضها حتى مع البشير وعصابته المتأسلمة؟. (5) حسناً، الآن نقولها لكم: - بسب الوثيقة المعابة، والشراكة غير المتوازنة، وضعف الحكومة، وتشاكس مكونات حاضنتها المدنية، وغموض نوايا الحركات المسلحة، وتدخل بعض الأصابع الخارجية في توجيه مسار الشأن السوداني الداخلي. وقد وصل هذا التدخل قمة تطاوله ووقاحته بمشاركة بعض الأجانب في المظاهرات الاحتجاجية على الإصلاحات القانونية في السودان، فإن البلد بسبب تراكم كل هذه (البلاوي) في طريقه إلى الهاوية. ولكن على الأجهزة الأمنية أن تجيبنا على الأسئلة حول الأجانب المتظاهرين احتجاجاً على الإصلاحات القانونية: - من هم؟ من أين جاؤوا؟ ومن أجل ماذا هم في السودان؟ وما مدى مشروعية وقانونية إقامتهم في السودان؟. وهل أجهزتنا على علم بهؤلاء أم أنها تفاجأت مثلتنا بهم؟. وأهم من كل ذلك: من حشَدِهُم وقام بتجنيدهم وتحريضهم وزودهم باللافتات التي تصف الإصلاحات القانونية بأنها تبيح الدعارة والخمور؟!. (6) خلاصة الأمر كما يعكسه المشهد السياسي الآن: أيها السادة والسيدات، نحن مخترقون من داخلنا حتى النخاع. ومكوناتنا ومؤسساتنا وغير مكوناتنا مخترقة أيضاً من الخارج بلا هوادة. فهل أنتم على وعي بهذه المخاطر؟. (الله أعلم). ولكن، وقياساً بأدائكم هذا الذي نشهد، فإنكم أبعد من أن تعدوا للأمر عدته من خطط وبرامج تدرأ عن السودان الخطر. فأن يسقط أكثر من 120 مواطنا قتلى في أقل من أسبوع، وفي بلد يتفاوض فيه حملة السلاح من الحركات الثورية مع مجلس السيادة والحكومة المدنية والجيش والأمن على السلام ويصرحون كل يوم بأنهم على وشك التوقيع على اتفاق نهائي، لأمر يحتاج إلى "فهامة" ودرس عصر ومقويات ذهنية. لأن السؤال الذي لن تجد له إجابة هو: - هل الذين يقتلون الناس هؤلاء هم فصائل من ذات القوى التي تتفاوض من أجل السلام؟. * فعلى ماذا التفاوض إذن؟. - أم أنهم كما قال الدعم السريع: "طرف ثالث"؟. - ومن هؤلاء الطرف الثالث؟. هل هم طرف داخلي تم تجاهله، ولم تشمله المفاوضات وتجاوزته؟. * وإذا كان كذلك لماذا تم تجاوزه وإقصاءه؟. - أم أنه طرف خارجي من دول الجوار؟. * إذن أين الجيش والأمن والشرطة من هذا الاختراق الذي يصل إلى بطن الوادي ولا يجد من يتصدى له؟. خاصة وأن مشاركة المؤسسة العسكرية في السلطة الانتقالية كانت، كما قالوا، لتأمين البلد!. أم أن تأمين البلد يقتصر على الطرق التي تؤدي للقيادة العامة؟!. (7) بالطبع ليس من المنطق ولا من العدل أن يُوصم هؤلاء السادة والسيدات بالعمالة والخيانة وما إلى ذلك من تهم وادعاءات وصفات، ولكن دعنا نعزي ذلك إما إلى الجهل والغفلة أو إلى سوء تقدير الحسابات، أو – وهذا أسوأ – إلى غلبة التفكير المنحرف وتغليب المصالح الذاتية الضيقة. أما فيما يخص الأصابع الخارجية ومعادلها الداخلي من العمالة والخيانة الوطنية، فأمر لا نميل إلى التعويل عليه كثيراً حين نحلل جذور أزمتنا الوطنية مع هذه الأحزاب والفصائل والمنظمات. لأن الأجنبي لا يستطيع أن يزرع الفتنة، وإنما قصارى جهده أن يتعهد بذورها المدفونة في التربة الوطنية بالعناية والسقاية والتغذية لتثمر. وما لم يوجد مشترٍ في الأصل بيننا، لن يجد تاجر الفتنة ما يبيعه لنا. وتستطيع أن تجمل المسألة برمتها في افتقار قادة العمل السياسي والمدني إلى أهم عاملين، بدونهما لا يمكن أن تتحقق أي نهضة، وهما: الرؤية الكلية الشاملة للسودان، والشعور بالمسؤولية. إذ تنتفي مع الرؤية الكلية الشاملة، الرؤية االضيِّقة والتجزيئية للكيان السوداني، ويحل مكانها سياسياً الوحدة الوطنية، كما يحل مكانها اجتماعياً التسامح وقبول الآخر، والاحتفاء بالتنوع والاختلاف... والديمقراطية والسلام. وتنتفي الغفلة واللامبالاة مع المسؤولية، ويحل مكانها الجدية والشفافية والانضباط الاتي والتخطيط ... والتنمية والعدالة في توزيعها. ومما يؤسف له غياب هذين العاملين في فكر ووجدان قادتنا حتى الآن، رغم ثلاث ثورات سلميات في منتهى الرقي والتحضر. فهل "الثالثة واقعة" ونحن إلى انهيار وضياع ؟. تابع. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.