وزير سابق: 3 أهداف وراء الحرب في السودان    الامارات .. الشينة منكورة    معتصم اقرع: لو لم يوجد كيزان لاخترعوهم    الصين تفرض حياة تقشف على الموظفين العموميين    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    شركة توزيع الكهرباء تعتذر عن القطوعات وتناشد بالترشيد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    مصادر: البرهان قد يزور مصر قريباً    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إقصاء الزعيم!    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    الجيش يقصف مواقع الدعم في جبرة واللاجئين تدعو إلى وضع حد فوري لأعمال العنف العبثية    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    أحلام تدعو بالشفاء العاجل لخادم الحرمين الشريفين    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جمال محمد أحمد: عبقرية الإنسان وعبقرية الزمان وعبقرية المكان .. بقلم: شوقى أبو الريش
نشر في سودانيل يوم 21 - 08 - 2020

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

حي العمارات بالخرطوم كان يعتبر من أرقى الأحياء في العاصمة المثلثة من ناحية الشكل والمضمون. فشكلاً تجد فيه عبقرية المعمار وتناسق المباني وجمال البيوت والبنية التحتية المكتملة من شوارع مسفلتة ومرقمة أرقاماً فردية وأرصفة أسمنتية وأشجار ظليلة وتصريف صحى ومناطق تجارية منفصلة إلخ... ومضموناً من ناحية السكان فهم خليط مستنير من المتعلمين من كبار موظفي الدولة والتجار ورجال الأعمال. تاريخياً هذا الحي الراقى أنجز في عهد حكومة الفريق إبراهيم عبود العسكرية في بداية الستينيات من القرن الماضي. ومن سخريات القدر أن ذلك الإنجاز تزامن مع توقيع نفس العسكر إتفاقية مياه السد العالي التي أغرقت ودمرت مدينة وادي حلفا الجميلة بأكملها مقابل ثمن بخس. ويا للحسرة فالدمار الآن قد طال حي العمارات أيضاً من عسكر آخرين... ولذلك فهذا الحي لم يعد ذلك الحي الراقي الهادىء الجميل الذي عهدناه في الماضي.. لقد إنقلبت الصورة والواقع رأساً على عقب. فنرى اليوم ميادينه الخضراء أصبحت أرضاً قاحلة ومرتعاً للقمامة المحروقة والروائح الكريهة. أما شوارعه المسفلتة فقد إختفت تماماً من الوجود وحلت محلها الحجارة والأنقاض وركام المبانى والحفر العميقة التي غطتها مياه الصرف الصحى النتنة. أما بيوتها الجميلة بحدائقها وطيورها الغناء فقد تغيرت معالمها تماماً وشوهت بإختلاط المحلات التجارية (من شقق وبقالات ومطاعم ومقاهى وستات الشاي..) مع الأحياء السكنية. أما المضمون فحدث ولا حرج. خلاصة القول أن ذلك الحي الراقى الجاذب للأنظار أصبح اليوم حياً متخلفاً وطارداً نتيجة للإهمال المتعمد من جانب الحكومات اللاحقة.
ذكرت هذه المقدمة لأوصف لكم موقع بيت بعينه في حي العمارات والذى كان لا يحتاج مني لوصف إذا بقى ماضي حي العمارات الجميل كما هو. فإذا دخلت شارع 21 في حي العمارات من ناحية المطار ستجد على شمالك في الشارع مطعم باب اليمن وأمامك شارع 21 مغطى بمياه المجارى وتحت المياه حفر عميقة لا تراها بعينك حتى تقاطع ذلك الشارع مع الشارع الذى تقع فيه مبنى مؤسسة التنمية السودانية بالطرف الآخر.. وعليه لسلامتك وسلامة مركبتك أوصيك أن تجد موقفاً لسيارتك أمام المطعم اليمنى ثم تسير على قدميك قدماً على الطرف الشمالى محازياً الحائط فى شارع 21. وعلى بعد بضعة أمتار سوف تجد على شمالك حطام مستشفى شوامخ تليه بقالة صغيرة أو كنتين يفتح ويقفل بمزاج صاحبه بعد أن فقد كل زبائنه من مرضى ومراجعى مستشفى شوامخ.. و على بعد بضعة أمتار من هذه البقالة ستجد بيت كبير أمامه سبيل مياه لله يحمل 4 أزيار فخار نظيفة تفوح منها رائحة المسك في كل وقت. وفى كل زير سوف تجد "كوز" ألمنيوم نظيف معلق لكنه يجلس على الغطاء الخشبى المدور لفوهة الزير المغطى بالشاش. وإذا نظرت أمامك، تاركاً السبيل خلفك، سيجذب نظرك بيت كبير به حدائق خضراء وأشجار النخيل الباسقة وإذا تقدمت إلى البوابة أمامك فعلى شمال الباب ستجد لافتة صغيرة كُتِبَ عليها جمال محمد أحمد وعلى يمينه لافتة أخرى بنفس الحجم كتب عليها سرة شرق... تقف هناك وقبل ما تشرب تقول سلام وتعيد سلام على رجال بلادنا وشموخ بلادنا ثم إشرب من ذلك السبيل لله وخذ بركات الشيخة الحاجة فاطمة حسن من رعت ذلك السبيل بنفسها على مدى أكثر من خمسين عاماً.
هذا البيت الذى وصفتُ إجتمعت فيه عبقريات ثلاث. الأولى عبقرية الإنسان المتمثلة في شخص الأديب والدبلوماسي الأستاذ جمال محمد أحمد، نوبى المنبت، سودانى الوطن، أفريقى الهوى، عربى اللسان، وفى شخص شريكة دربه إبنة عمه الحاجة فاطمة حسن أحمد.
الثانية عبقرية الزمان المتمثلة في تلك الحقبة الحافلة بكل قيم الإنسانية من أمانة وصدق ووفاء وتفانٍ ونكران ذات فكل منهما كان يحمل تلك الصفات بدرجات متفاوتة جعلت كل منهما يبرز في إتجاه معين.
والثالثة عبقرية المكان قرية "سرة شرق"- ) باللغة النوبية تنطق "سيرين متو" وتكتب بأحرف اللغة النوبية (ⲥⲉⲣⲣⲉⲛ ⲙⲁⲧⲧo لوحة صغيرة في حجمها على الباب ولكنها تحمل في طياتها معانٍ كثيرة.. ولد فيها الأستاذ الأديب جمال محمد أحمد وفيها ولدت الحاجة فاطمة حسن أحمد..
كتب الكثيرون عن الأديب والمؤرخ والدبلوماسى الأستاذ/ جمال محمد أحمد. كتب عن سيرته وأدبه عمالقة فى الأدب والشعر والسياسة.. أخص منهم الأديب والروائى المعروف الطيب صالح والأديب العلاّمة الدكتور عبد الله الطيب والأديب والدبلوماسى منصور خالد والشاعر الكبير محمد الفيتورى والدبلوماسي والشاعر الكبير محمد المكى إبراهيم وكذلك كتب عن سيرته الكاتب الكبير عثمان محمد الحسن والبروف على المك والبروف صلاح الدين المليك وكتب عنه صديقه الأستاذ محمد عمر بشير وكذلك الدبلوماسي الكاتب السفير جمال محمد إبراهيم وكثيرون لا يسع المجال هنا لذكرهم. ولذلك فمهما كتبتُ لن أستطيع أن أجارى ما كتبه عنه أساطين الأدب والسياسة ولن أضيف شيئاً عما دونه العمالقة من الكُتّاب والشعراء والنقاد. وعليه سوف أتناول في هذا المقال لحظات من واقع معاش في مسيرة الحياة مع الأديب والدبلوماسي الأستاذ جمال محمد أحمد و رفيقة دربه الحاجة فاطمة حسن أحمد.
وُلِدَ الإثنان وكانت نشأتهما الأولى في قرية "سرة شرق". تلك قرية صغيرة تقع في شمال مدينة وادي حلفا تحدها قرية "دبيرة" جنوباً وقرية "فرص" شمالاً على الحدود مع مصر. قرية سكانها قليلون كانوا يعيشون على زراعة ما يطعمون فى قراريط من الأرض في جروف النيل بعد موسم الدميرة . بالإضافة إلى تربية الأغنام والأبقار والطيور فى معظم البيوت ثم محصول النخيل النقدى في موسم الحصاد وهو موسم فرح فى القرية يزداد فيه النشاط التجارى والأجتماعى حيث يصادف حضور المغتربون فى مصر لقضاء الإجازة الصيفية مع أسرهم و فيها تكثر اللمات والزيجات.
كانت المدارس مركزية في سوق الخميس بمنطقة الحصا في قرية "دبيرة" وهى تبعد أكثر من خمسة عشر كيلومترات في إتجاه جنوب "سرة شرق"، وكان الصبي جمال يرتدف شقيقه الأصغر محجوب على حمار جدهم إلى المدرسة في سوق الخميس. أما البنات فلم يتح لهن التعليم إلا مؤخراً فى عام 1938 عندما أفتتحت أول مدرسة للبنات أيضاً في منطقة سوق الخميس في دبيرة بمجهود كبير وتشجيع من العمدة وناظر الخط المرحوم "صالحين عيسى" وكانت أول ناظرة للمدرسة والدتى المرحومة الحاجة "هانم حسن أباظة". للأسف كانت هناك أجيال كثيرة من بنات القرى قد فاتهن قطار التعليم حيث كن قد تزوجن عند إفتتاح المدرسة في سوق الخميس ومن ضمنهن إبنة عمه فاطمة حسن. البنات مثيلاتها قبل المدرسة كن يعملن فى رعى البهائم وترتيب البيوت وحمل المياه من الآبار إلى البيوت والطحين وما إلى ذلك من الخدمات المنزلية الروتينية، فكان إنشاء المدرسة في سوق الخميس نقلة نوعية للبنات في المنطقة من خدمة البيوت إلى رحاب العلم والعمل.
ما كانت تربية الأبناء في سرة شرق مقصورة على الأبوين بل كانت مسؤولية كل رجال القرية. فى هذه الحياة القروية البسيطة ترعرع ونشأ جمال وتشبع بأسلوب الحياة فيها التي خلقت فيه روح العمل والمسؤولية والجدية.. تلك الحياة تملكته وساهمت في تكوين شخصيته ووجدانه، ولذلك خلدها في كتابه "أساطير من سرة شرق" وهى مجموعة من القصص النادرة ربما حصلت في قديم الزمان أو كانت أساطير من نسج الخيال. أما إبنة عمه فاطمة، بنت القرية، فكانت تلعب مع قريناتها وتتعلم خدمة المنزل تجهيزاً للزواج فى سن مبكرة كما جرت العادة فى القرى. وبعد أن فارقت القرية ظلت ببساطة حياة سرة شرق ولم تغيرها حياة مدينة الخرطوم أو المدن الكبيرة الأخرى التي عاشت فيها فيما بعد في معظم دول العالم، تقوم الليل والنهار وتطعم المساكين وتعمر بيوت الله بالذكر والقرآن. وعندما إنتقلا إلى حياة المدن وعاشا فيها بكل أشكالها ظلا قرويان في بساطتهما وحنوهما وعاشا في المدينة وكأنهما ولدا وترعرعا فيها.
بهذه الخلفية المختصرة سوف أنقل لكم، بدون ترتيب زمنى، قليلاً من تجاربي المتواضعة فى المسيرة التى بدأت أولى خطواتها من سرة شرق.
تجربتي الأولى.. لقد كنت من المحظوظين حين ألُحقت لأول مره بالعمل بديوان شؤون الخدمة العامة عام 1972 عن طريق لجنة توظيف الخريجين بوزارة الخدمة العامة آنذاك. وكان الديوان من أكثر المصالح الحكومية المرغوبة لطالبي العمل من الخريجين بسبب مقولة السودانيين " الفي إيدوا القلم ما بكتب نفسه شقي" وهى حقيقة لا يتناطح فيها عنزان. وكان رئيسي المباشر الأستاذ "عبد الله أحمد بكر" مدَّ الله في عمره. الشاهد من تلك المقدمة أن وزارة الخارجية أعلنت عن رغبتها في تعيين سكرتيرين ثوانى من كوادر الخريجين الذين يعملون في الحكومة. فقدمت طلبى لتلك الوظيفة وشجعنى رئيسى الصديق الأستاذ عبد الله أحمد بكر بإعتبار أنها وظيفة أحسن في المستقبل .. وهمس في أذنى جانباً آخر بأن الدبلوماسى الأستاذ جمال محمد أحمد في يده الأمر في وزارة الخارجية. إستمعت إليه لكن شغل بالى ذلك الجزء الأخير ربما لأنه لم يحين الوقت بعد أو لعدم معرفتى بشخصية الأديب الدبلوماسي الفذ الأستاذ جمال محمد أحمد آنذاك أو ربما لثقة في نفسي، وهذا أضعف الإيمان.
بعد كل الإمتحانات التحريرية تبقت لى المعاينة النظرية الأخيرة. وقبل المعاينة بيوم جاءنى بالمنزل مغتبطاً صديقى المرحوم "سيد على بك"، وتربطه صلة قرابة بالأستاذ الأديب جمال محمد أحمد ويزوره من وقت لآخر لإهتماماته الأدبية والثقافية والإعلامية. حضر خصيصاً لأصحبه لمقابلة الأديب الدبلوماسى الأستاذ جمال محمد أحمد قبل أن أذهب للمعاينة فرفضت ذلك كلياً لأسباب كثيرة، إلا أنه أقنعنى بأنه أخذ موعد مسبق معه فذهبت معه حتى لا أكون سبباً في إحراجه. خرجنا سوياً ومن أولها بى رهبة ونبضات قلبى متسارعة كانت تزداد كلما إقتربت من "سرة شرق".. وبعد المدخل أمام صالون مرتب كبير إستقبلنا الأديب الدبلوماسي الأستاذ جمال محمد أحمد أحسن إستقبال. وبعد الترحاب، وما بين دهشتي، أمسكني من يدي وكأني صديقه رغم أنها كانت أول مرة أراه فيها وجهاً لوجه. وسار ممسكاً بيدي حتى دخلنا مكتبة كبيرة بعد صالون منزله.. كانت مسكته بيدى هو السحر الذى ذوب كل الفوارق وأزال عني رهبة الانسان ورهبة المكان ثم جلسنا في تلك المكتبة يحدثنا عن التعليم ودور الجامعة تجاه الخريجين. كان حديثاً علمياً عذباً شدني إليه أسلوبه وعلمه الواسع ولغته العربية الفصحى تارة والدارجة تارة أخرى. ومع طيب المكان وحلاوة الجلسة الحميمية نسينا الموضوع الذى أتينا من أجله.. وإذ نحن نهمّ بالخروج سألني العم جمال عرضاً عن أعضاء لجنة المعاينة فذكرتُ له الأسماء: (السيد فضل عبيد وكيل وزارة الخارجية والدكتور حسبو سليمان طبيب الأمراض النفسية والعصبية وشخص ثالث من قدامى السفراء لا أذكر إسمه الآن). وبمجرد أن إنتهيت من الإجابة على سؤاله كان قد وصل بسرعة إلى النتيجة وقال لى بوجه تكسوه إبتسامة عريضة وآمال: "إنهم منصفون – إذا أبعدت عنهم السياسة اللعينة - على بركة الله". كانت إجابة دبلوماسية لم تدركها عقولنا آنذاك. ودعناه عند باب المكتبة وخرجنا ومعي صديقي سيد بدون إنطباع إيجابي عن موضوع المعاينة غير أنني كنت أكثر من سعيد وفخور ، أزهو كما الطاؤوس، بمقابلة الأديب الدبلوماسي الأستاذ جمال محمد أحمد لأول مرة وإحتوائه لشخصي الضعيف دون سابق معرفة ولحديثه العذب الجذاب ومعاملته البسيطة التي طمأنتني و أزالت عنى الخوف والحياء وهذه هي الدبلوماسية وعلم النفس والفراسة بعينها.
صدق حدس الأديب والدبلوماسى الأستاذ جمال محمد أحمد حين لعن السياسة.. فبعد النجاح في مرحلة المعاينة أسقط إسمى وأسماء عدد من الزملاء في المرحلة الأخيرة( أخص منهم تحديداً الأستاذ "محمد الحسن محيسى" لأنه كان أول دفعة ال 700 ممتحن) بواسطة جهاز أمن نميرى بإعتبار أننا كنا حزبيين في الجامعة. وهكذا أسدل الستار على تلك المحاولة لكني كنت وما زلت غير آسف عليها فقد خرجت منها بفوائد جمة أهمها معرفة ذلك الرجل القامة عن قرب وهذا وحده يكفي.
التجربة الثانية.. إلتقى الدبلوماسي الأديب جمال محمد أحمد بالشاعر نزار قباني وتعرف عليه عندما كان يعمل دبلوماسياً في العراق وبلاد الشام. وكان ديدنه أن يعرّف الكتاب والشعراء من البلاد العربية بالسودان وأهله. وكان يحث أبناءه وبناته على إجادة اللغة العربية بقراءة الكتب وقراءة القرآن التي أيضاً تثرى اللغة العربية. وفى ذلك قال عنه صديقه الكاتب والدبلوماسى الأستاذ منصور خالد" لا غرو في أن ينتهي الأمر بجمال النوبي المستعرب لأن يكون واحداً من جهابذة تلك اللغة عندما أضحى عضواً في مَجْمَعْ اللغة العربية".
فى عام 1973 وجه الأديب والدبلوماسي الأستاذ جمال محمد أحمد. دعوة للشاعر نزار قباني لزيارة السودان وبالفعل حضر الشاعر نزار وحلّ ضيفاً عليه.. وبدلاً من دعوة الشعراء والأدباء التقليدين لمقابلة الشاعر نزار كلف أبناءه عادل وعارف وعاطف بدعوة أصدقائهم وزملائهم من الشباب للقاء الشاعر نزار قبانى في منزله. وفى المساء رحب الأستاذ الأديب جمال بالشاعر أمام عدد كبير من الشباب وطلاب جامعة الخرطوم وجلسا في حوار ثنائى طويل إمتد لأكثر من ثلاث ساعات ألقى فيها الشاعر نزار عدد من قصائده في الحب والمرأة والحرب.. وتفاعل معه الحضور من الشباب ورددوا معه أشعاره، وهنا قال قولته المشهورة عن السودانيين "القاهرة تكتب وبيروت تطبع والخرطوم تقرأ". ومن تلك الزيارة وعشقه للسودان وأهله تكررت زيارات الشاعر نزار للسودان خاصة في مهرجانات الثقافة السنوية آنذاك. وفى حبه للسودان عبر بغزليات نثرية حين قال "هذا الذى يحدث لى و لشعري في السودان شيء خرافي ..شيء لا يحدث إلا في الحلم ولا في الأساطير..شيء يشرفني ويسعدني ويبكيني ... أنا أبكي دائماً حين يتحول الشعر إلى معبد والناس إلى مصلين .. أبكي دائماً حين لا يجد الناس مكاناً يجلسون فيه فيجلسون على أهداب عيوني .. أبكي دائماً حين تختلط حدودي بحدود الناس فلا أكاد أعرف من منا الشاعر ومن منا المستمع .. أبكي دائماً حين يصبح الناس جزءاً من أوراقي جزءاً من صوتي جزءاً من ثيابي".
التجربة الثالثة..منذ عام 1976 صارت علاقتي أكثر قرباً بأسرة الأديب الدبلوماسي الأستاذ جمال محمد أحمد وصرت أعرف عن قرب ملامح شخصيته وكيف تم التمازج بين سرة شرق وجامعة أكسفورد فما أبعد الشقة !!. فقد إنطلق الصبي جمال من سرة شرق ووادي حلفا بعد أن نال تعليمه الأولي والأوسط إلى كلية غردون التذكارية وتخرج مدرساً فى عام 1935 وعمل بالمدرسة الأهلية بأمدرمان ثم معهد بخت الرضا بالدويم. وفى عام 1939 كان فى طليعة المعلمين الذين أرسلوا لبريطانيا لمزيد من العلم والتجارب فنال درجة الماجستير فى التعليم من جامعة إكستر عام 1946 وعاد لينشىء مكتب النشر في نفس العام والتي أصدرت مجلة الصبيان، وهى كانت أول مجلة عربية تصدر بصورة راتبة للأطفال فى العالم العربى، أسسها الأستاذ عوض ساتى وكان يحررها الأديب الدبلوماسى الأستاذ جمال محمد أحمد والصحفى المخضرم الأستاذ بشير محمد سعيد، وكان يزيّنها، برسوماته الكاريكاتيرية وبشخصية "عمك تنقو " الميثولوجية التربوية الفكاهية، الرسام التشكيلى وفنان موسيقى الجاز شرحبيل أحمد، أمد الله فى عمره.
فى بداية عام 1952 أبتعث إلى بريطانيا ونال درجة الماجستير من جامعة أكسفورد العتيقة عام 1954 وكانت أطروحته "الجذور الفكرية للحركة الوطنية المصرية" وعاد إلى السودان عميداً للطلاب بكلية الخرطوم الجامعية التي أصبحت جامعة الخرطوم فيما بعد. عند إستقلال السودان فى 1956 وقيام وزارة الخارجية إختار أن يدلف إلى مجال الدبلوماسية فعين سفيراً مقيماً للسودان فى العراق وسفيراً غير مقيم فى سوريا ولبنان والأردن وتركيا ثم عمل سفيراً فى عدد من الدول وتدرج فى عدة مناصب في وزارة الخارجية حتى أصبح وكيلاً ثم وزيراً لها.
بالرغم من ثقل الحياة وكثرة مسؤولياتها، أثناء عمله بوزارة الخارجية وبعد أن تركها، لم يتقاعد بل ظل كدأبه يمارس نشاطه العام فى مجال الأدب والعلم والصحافة والنشر والدبلوماسية، فكان يحضر الإجتماعات الدورية للمجمع اللغوى العربى الذى كان عضواَ بارزاً فيه، كما سبقت الإشارة. وأيضاً كان يشارك فى مؤتمرات جامعة الدول العربية فى القاهرة. ورغم كثرة المهام والمسؤوليات والأضواء فقد عاش رجلاً قروياً لا يحمل هموم الدنيا والمال.. فهو من جيل شربوا ماء الدميرة، وطلعوا النخلة وأكلوا الدفيق والكابيدة، ومن ركبوا الحمار إلى المدرسة، ومن إستحموا في النيل، وركبوا الساقية وحفروا الحقول وشقوا الجداول ولم تستهويه كثيراً حياة المدن بالمقارنة. ولذلك كان يقول ساخراً أن أشقاءه الإثنين رجلى الأعمال محجوب وسيد كانا ينامان وعيونهما نصف مفتوحة ينتظران شروق الشمس بفارغ الصبر ليسعيا وراء الدنيا والأعمال وهو ينام ملء جفونه مرتاح البال..كانت خزنته الحديدية فى البيت عبارة عن مكان لحفظ القرآن والتوراة والإنجيل وجميع الكتب السماوية وبعض من كتبه وأوراقه الهامة وكان يحتفظ بمفتاح هذه الخزنة عند الحاجة فاطمه. وفى يوم من أيام الإحتياج للخزنة أبى المفتاح أن يؤدى دوره المعهود رغم محاولات الحاجة فاطمة، فضجرت الحاجة من هذه المهمة وقالت له ساخرةً "الناس بتحفظ الدهب والمال فى الخزنة يا جمال !!" فقال لها ضاحكاً بلغة نوبية " لكن خزنتنا بطمئن أكثر يا حجة" وتناول كتابه وعاد شاكراً إلى مكتبته.
التجربة الرابعة..الأسرة...ما كان بعيداً أن يقترن الأديب الدبلوماسي الأستاذ جمال محمد أحمد بإبنة عمه فاطمة حسن فى سرة شرق. كانت صغيرة السن عندما تزوجها، بها جمال الحور وبعض من خصال الملائكة، نقية السريرة، صافية القلب، لونها ذهبى وصوتها شجي، عاشت معه فى إنسجام تام ومودة رغم فارق الثقافة والرؤيا، فهى إنجذبت إلى الدين والعبادة والزهد دون عصبية، شدتها جذورها من أولياء الله الصالحين/ الشيخ أحمد الأزهرى بقبته الخضراء فى "دبيرة" والشيخ/ سليمان أحمد صديق بسرة شرق والشيخ الولى/ صالح ريا أو (صالح قرجاوى ) أو (صالح محمد على حميد) الرجل الذى تعددت أسماؤه كصفاته الطيبة.
أما الأديب الدبلوماسي الأستاذ جمال محمد أحمد، فمثل أسرة والده "آل صديق" بسرة شرق، إختار جانب الإعتدال فى كل شىء متصالحاً مع نفسه ومتآلفاً مع الكل لم يرض بعصبية القبيلة أو مال لمذهب أو فرقة، ورغم علمه وتجاربه وحكمته الفائقة إلا أنه كان ديمقراطياً فى كل قراراته كأب (وخير مثال لذلك قبوله إقتران إبنته الكبرى السيدة/عايدة من السفير مصطفى مدنى، طيب الله ثراه، فى زمانٍ لم يكن ذلك الأمر مقبولاً إجتماعياً كما الآن). و كانت تلك محنة - والمقام هو مقام فرح - وقفت الحاجة فاطمة بجانبه واثقة فى حكمته ومساندة له برؤيتها وبصيرتها وخلفيتها. كان القرآن الكريم هو أفضل الكتب عند الأديب الدبلوماسى الاستاذ جمال محمد أحمد وكان يعكف على قراءته كثيراً ويتبحر في معانيه بل يعتبره مرجعاً له فى كثير من الأمور الدنيوية ولذلك كان يحث أولاده وبناته على حفظ القرآن وفهم معانيه.
كانا شخصيتان مكملتان لبعضهما، جابا معاً كثيراً من دول العالم بحكم العمل وإلتقت الحاجة فاطمة معه بملوك وبزعماء في العالم منهم ملكة بريطانيا والإمبراطور هيلاسلاسى والرئيس عبد الكريم قاسم والرئيس جمال عبد الناصر وغيرهم من الرؤساء و زارت عدداً من المزارات الدينية لم يزرها أحد مجتمعة.. منها بيت المقدس، كربلاء والنجف، إكسوم باثيوبيا، بئر يوسف بالقلعة أما الحج فقد حجت عشرات المرات.
ظلت الحاجة فاطمة لها مكانة خاصة في قلب الأديب والدبلوماسي الأستاذ جمال محمد أحمد فكانت ملهمة له في كثير مما كتب وعندما كتب كتابه "أساطير عن سرة شرق" في العاصمة الأمريكية واشنطن كانت صاحبة الفضل الأكبر فقد حكت له الكثير من الأساطير والقصص التي كانت في ذاكرتها الوقادة، تارة باللغة العربية وكثيراً باللغة النوبية، وكانت تغنى له بصوتها الجميل إذا كان المقام مقام غناء فى الأسطورة. كانت مخلصة بما تفعل وتحكى له بكل حواسها ومشاعرها وهو يستمتع بقصصها أثناء ما يدون. لقد شاركته في كتابة وإنتاج هذا الكتاب الممتع والذى زين بريشة الفنان المبدع الدبلوماسى صالح مشمون. وبعد صدور الكتاب وصف الكاتب والأديب جمال محمد أحمد زوجته بأنها " أحسن من يروي قصة ولو عرفت كيف تكتب لكانت "جراهام قرين" العرب في طريقة وصفها وروايتها للحكاية". هذه شهادة قيّمة ونادرة. فمن عادته، كما قال عنه صديقه الروائى الكبير الطيب صالح، "لا يثني عليك ثناءً صرفاً ولا يثني عليك وجهاَ لوجه ولكن عن طريق شخص آخر" ولذلك أهدى لها الكتاب وفي صفحته الأولى كتب "إلى بنت عمي وسيدتي زوجتي".
أختصر حديثاً قد يطول، أفضال الحاجة فاطمة المقابلة كثيرة..رعته وسهرت على راحته وحملت عنه مسؤوليات البيت والتربية فما كان عنده وقتٌ كثيرٌ لذلك. ألهمته فى كتاباته وشاركته وأنجبت له الأولاد والبنات النجباء وإجتهدا سوياً فى تعليمهم فى أفضل الجامعات.
علاقته بأبنائه وبناته كانت علاقة صداقة مبنية على الصراحة والإنفتاح، يعاملهم معاملة الند للند مهما كانت أعمارهم، يمازحهم ويلاطفهم، بشوشاً على الدوام، لا يفرض رأىاً بل كان عموماً يحترم شخصية المتلقى وحسن الظن بقدراته ودائماً يشجعهم على الإقدام فيما يرون. أسلوب تربية معاصر فى ذلك الزمان. ولتغرّبهم عنه للدراسة والعمل كان يبعث لهم بين الحين والآخر رسائل فى منتهى الصراحة والأدب اللغوى والحكمة فكانوا يشعرون بقراءتها أنه حاضراً بينهم. وإذا رجعت لكتابه "سالى فو حمر"، وهي مجموعة حكايات أفريقية، أولاً ستجد الإهداء إلى أبنائه عارف وعاطف تعبيراً عن إشارة حب وعرفان لكل أبنائه وبناته. وثانياً الكتاب عبارة عن رسالة أو دعوة لأبنائه، وهم في سنٍ صغيرة، لإحياء الحضارة العربية والإسلامية المهددة بالغزو من الحضارة المسيحية الصناعية وثالثاً المحافظة على اللغة العربية وفتح نافذة يطلان منها على العقل الأفريقى ومكتسباته من الحضارة العربية التى إندثرت فى أفريقيا بسبب غزو المستعمر الأوربى.
التجربة الخامسة.. في عام 1986 دعا الأستاذ الأديب جمال محمد أحمد، بصفته أول رئيس لإتحاد الكتاب السودانيين، الشاعرة والأديبة الكويتية الدكتورة الشيخة سعاد الصباح. ولمن لا يعرفها فهى زوجة نائب أمير الكويت الشيخ عبدالله مبارك الصباح، شاعرة وكاتبة وناقدة كويتية، من أهم الشخصيات الأدبية المعاصرة في العالم العربى، في رصيدها عدد من الكتابات الأدبية والتاريخية والإقتصادية ونالت كثيراً من الجوائز والشهادات، تحمل درجة الدكتوراة في الاقتصاد والعلوم السياسية و أسست "دار سعاد الصباح للنشر والتوزيع" عام 1985. لبت الشاعرة الشيخة الدكتورة/ سعاد الصباح الدعوة ووصلت مطار الخرطوم بطائرتها الخاصة. وفى أوئل المساء حضرت إلى منزل الأديب الدبلوماسي الأستاذ جمال محمد أحمد في سرة شرق - العمارات و كنت من المستقبلين . وكان قد أعد لها حفل إستقبال حاشد تلاه حفل عشاء فاخر في المنزل حضره عدد كبير من الأدباء والشعراء والنقاد من إتحاد الكتاب السودانيين.
وفى اليوم التالى شرفت الشاعرة الشيخة الدكتورة/ سعاد الصباح ليلة شعرية أقيمت في معهد الدراسات الأفريقية الآسيوية بجامعة الخرطوم، نظمهاالأديب الدبلوماسي الأستاذ جمال محمد أحمد بالتعاون مع صديقه الأستاذ محمد عمر بشير مدير المعهد. فكانت ليلة أشبه بليالي سوق عكاظ حيث ألقت الشاعرة الشيخة الدكتورة/ سعاد الصباح على مدى ساعات شعراً عذباً من دواوينها الكثيرة "ومضات باكرة ولحظات من عمرى وأمنية وإليك يا ولدى وفتافيت امرأة" ومن هذا الديوان قصيدة "كن صديقي" التي تنادي فيها بتحرير المرأة ونهضتها في الكويت وغنتها الفنانة اللبنانية "ماجدة الرومي" وقد ختمتها بتلك الأبيات:
لماذا الرجل الشرقي ينسى حين يلقى إمرأة نصف الكلام
ولماذا لا يرى فيها سوى قطعة حلوى وزغاليل الحمام
ولماذا يقطف التفاح من أشجارها ثم ينام
وقد تفاعل مع إلقائها ومعاني قصائدها كل الحضور الذين لم يسعهم المكان فتسلق البعض إلى الأسقف المجاورة والأشجار ليسمعوها فوصفتهم الشاعرة أنهم "كعناقيد العنب على الشجرة وأن كل الشعب السودانى شاعر".
ودّعت الشاعرة الشيخة الدكتورة/ سعاد الصباح الجمهور والمكان وهى متأثرة بحفاوة الإستقبال وحسن والوداع وقالت وفى حلقها غصة وتخنقها العبرة: "تحية إلى السودان وأهله الذى أحب ففي هذا الوطن الآن آلاف المبدعين الذين ننتظر أصواتهم .. ولكم المودة والشكر".
وفى زيارتها تلك ومن حبها للأدباء والكتاب السودانيين والجمهور تبرعت الشاعرة الشيخة الدكتورة سعاد الصباح بمبلغ أربعين ألف دولار لإتحاد الكتاب السودانيين والتي ساهمت في إنجاز كثير من برامج الإتحاد.
التجربة السادسة ... كانت علاقة الأديب الدبلوماسي الأستاذ جمال محمد أحمد بإخوانه الإثنين وأخته الوحيدة علاقة أبوة أكثر علاقة من أخوة، فهو الذى أشرف على تربيتهم، مع والدتهم، بعد رحيل والدهم وهم فى سن الطفولة والصبا. ولذلك كانا يعزّانه ويوقرانه، ولا تغيب شمس يوم واحد قبل أن يلتقوا ثلاثتهم فى منزله، لقاءات ببروتوكولاتها، لكنها لا تطول.
لا تسير الأمور فى الدنيا كما نريد.. ففى يونيو 1986 تأثر الأديب الدبلوماسي الأستاذ جمال تأثراً شديداً بالرحيل المفاجيء لشقيقه الأصغر المرحوم محجوب محمد أحمد، رجل الأعمال المعروف وأحد مؤسسي الصناعة في السودان، وكتب في ذلك بلغة فريدة،"لغة جمال" كما سماها البروف على المك، وبمفردات لم تزخر بها المعاجم رثاءً في شقيقه محجوب ليلقيها في ليلة أربعينه التي كانت قد تحددت. لكن فى الصباح الباكر للأربعينية أسلمت روح الأديب الدبلوماسي الأستاذ جمال محمد أحمد إلى بارئها وهو على فراش نومه ووجهه ينبض بالحياة وفى يده المرثية. عمت الأحزان البيت وحل سرادق العزاء محل ليلة التأبين و ظلت المرثية حبيسة جدران مكتبته.
تلك المرثية، التي كتبها نثراً شعرياً، كانت وما زالت قطعة أدبية عالية الثقافة والأدب والحكمة بل درة من رحيق الأدب لا تقل جمالاً عما قالته الخنساء في رثاء أخيها صخراً و أعظم من مرثية إبن الرومى لإبنه. كانت خطبة وداع وخارطة طريق أعدها من قبل أربعين يوماً. إستهلها واصفاَ شقيقه محجوب وطموحاته قائلاً " ما كنت مفتوناً بشقيقي محجوب أخريات عمرنا معاً .. توقع منى إذن أن أصدق كلام عنه وقد رحل. حديث القريب عن القريب البعيد عبرة وثمرة، فيه حديث العاطفة لا تنمو كالعقل، تخضر برفقة أو زمان. تجىء دنياك معك. ما حيلتك في بعضك؟ وفيه حديث الرؤية ذوو البصيرة لا تخفى عليهم صفات رجل كمحجوب، مكوناته ومقوماته.. أولى تلك الصفات كان يأبى أن يكون الثاني وما قنع بالأول، كان يعرف مرماه في حياته وعاش لذلك المرمى حتى بلغه، إستنفذ العمر قبل آوانه، إستغفر الله، لكنه راح راضياً أكبر الظن." لقد أوجز فى وصف شخصية محجوب فى كلمات معدودة "كان يأبى أن يكون الثانى وما قنع بالأول". ولك أن تسرح بخيالك في هذا الوصف الدقيق الموجز حتى تدرك عبقرية شخصية محجوب. وهذه كانت هى طريقته يترك لك مساحة للتفكير والتأمل.
وبعد أن تحدث عن مراحل مسيرة حياة شقيقه الأصغر المرحوم محجوب الطموحة ختم المرثية الطويلة مبايعاً شقيقه الباقى "سيد محمد أحمد" أن يتولى الخلافة من بعد محجوب قائلاً له "يا شقيقى الباقي سيد .. إنتهت مراحل محجوب وهى مراحل كما ترون تكاد تكون مراحل وطننا العزيز في مسار إقتصاده، تاريخ محجوب بضع من تاريخ بلاده بل هي ذلك التاريخ بعينه لكن يا شقيقى الباقي:
فَلَيْسَتْ عَشِيَّاتُ الْحِمَى بِرَوَاجِعَ ... لَنَا أَبَدًا مَا أَوْرَقَ السُّلَّمُ النَّضِرُ
وَلَا عَائِدٌ ذَاكَ الزَّمَانُ الَّذِي مَضَى ... تَبَارَكْتَ مَا تُقَدِّرْ يَقَعْ وَلَكَ الشُّكْرُ
فأمضي على بركة الله حارسنا أنا جنبهم بحبى الذى عهدته منذ كنت عضدك المعنوي، يحرسك قلبك الكبير ناصحاً خلفاء محجوب من أبنائه وبناته كدأبك وأنا جنبك خادم لهم .. وطوع ذكائك الخلاق لا يسألانك يصدعان بأمرك أبناؤك عاصم المقدام وسامى الحكيم"
الأديب الدبلوماسي الأستاذ جمال محمد أحمد لم يعش طويلاً حتى يرى شقيقه الباقى سيد ينجز توصيته تجاه أولاد وبنات محجوب ...و شقيقه سيد الباقي لم يبق ليسير بالعائلة مهتدياً بخارطة الطريق.. فقد شاءت إرادة الله أن يلحق بهما شقيقهما الباقي سيد بعيد حين من رحيل شقيقه الأكبر الأديب الدبلوماسى المرحوم جمال... لقد كانت تراجيديا خبأتها الأقدار للأشقاء الثلاثة. صعب عليهم الفراق المر ففضلوا أن يتقاسموا طعم الموت سوياً كما تقاسموا طعم الحياة بحلاوتها ومرارتها..
كانت رحلة حياة ممتعة رغم ما بها من تعرجات .. بدأت من سرة شرق وإنتهت بسرة شرق العمارات، حتى أن الأديب الدبلوماسي الأستاذ جمال نفسه كان محتاراً من تلك المسيرة حيث قال مندهشاً "لا أعرف حتى الآن كيف عبرنا أنا وزوجتي الطريق من سرة شرق إلى أكسفورد وبالعكس".
إنتهت تجاربٌ كنتُ شاهداً عليها لكن لم ولن تنتهي سيرة الأديب الدبلوماسي الأستاذ جمال و الحاجة فاطمة حسن. فما شاهدته وعرفته نقطة فى بحر مسيرة نصف قرن من الزمان حافلة بالنشاط الأدبي والإجتماعي والحب والعطاء بلا حدود.
هكذا إنتهت مسيرة حياتهما فى الدنيا بالإنتقال إلى نعيم حياة البرزخ، وإن كانا قد رحلا بجسديهما بقيت سيرتهما العطرة بين الخالدين، فذخيرة كتابات الأديب الدبلوماسي الأستاذ المرحوم جمال محمد أحمد ستظل باقية في مكتبته تنهل منها الأجيال جيلاً بعد جيل. أما المرحومة الحاجة فاطمة حسن فرصيدها من أعمال الخير، الخالصة لوجه الله تعالى، ستظل ممتدة لتزيد فى ميزان حسناتها.
وإذ أختتم هذا الجزء اليسير من سيرتهما العطرة أدعوا الله أن يجزيهما عن الإحسان إحسانا وعن الإساءة عفواً وغفراناً، وأن يرحمهما ويكرم نزلهما فى منازل الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً. "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ".. صدق الله العظيم.
شوقى أبو الريش
الدوحة في 20 أغسطس 2020


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.