في وقت ما في العام 2012 كلفني صديقي بمراجعة وتقييم الوضع المالي لواحدة من الشركات شبه الحكومية والتي كانت ككثير من المؤسسات الحكومية التي عُطّلت فيها اللوائح والإختصاصات وأصبحت تدار بنظام السوبرمان والذي هو في الغالب المدير العام وفي أحيان أخرى رئيس لمجلس الإدارة، بحيث يكون المدير العام خاضعا لنفوذ متعاظم من رئيس مجلس الإدارة للدرجة التي تجعله يتقاطع معه حتى في أدقّ الصلاحيات التنفيذية. كلفني صديقي بذلك ورتب لي الأمر مع رئيس مجلس الإدارة، الذي بدوره أرسلني لشاب مهذب كان هو المدير التنفيذي للمؤسسة التي كنت بصدد تقييمها. كان العرض الذي قدمه رئيس مجلس الإدارة لصديقي يتمثل في دخوله كشريك وسداده مقدما لمبلغ خمسة مليون دولار كمقابل لخمسين بالمائة من أسهم المؤسسة التي قدرت أصولها الثابتة والمنقولة بعشر ملايين من الدولارات. وقد كانت المؤسسة تملك ناقلات وحاويات مزودة بأجهزة تسخين وخطوط نقل وصهاريج لتخزين المواد في الميناء. قمت بعد إلحاح بالحصول على التقارير المالية وشرعت في تحليلها والاطلاع عليها لأجد أن القيمة الدفترية المقيدة على الأصول حتى بعد سنين من الإهلاك مازالت تتجاوز العروض المتاحة لنفس الأصول براندنيو والمبذولة علي صفحات الانترنت حول العالم.. ولأجد فوق ذلك أن الإلتزامات القائمة والمتمثلة في القروض قصيرة وطويلة المدى ومعظمها قد كان لمصارف محلية، كانت تفوق إجمالي قيمة الأصول، الثابتة والمنقولة بفارق معتبر. طلبت إيضاحات إضافية وتأكد لي أن هذه الإلتزامات مازالت قائمة وبعضها متعثر وبعضها لم يحن أجله وفق برمجة السداد. من جانبي قمت بتوضيح ذلك لصديقي، كما أوضحت له فوق ذلك أن القيمة الحقيقية لهذه المؤسسة تقل عن الصفر بكثير، اذ يلزمها ان تقوم بسداد مبالغ لا يستهان بها حتى تبلغ نقطة التعادل مابين القيمة المطروحة للأصول ومابين الإلتزامات قصيرة ومتوسطة المدى. وأن القودويل بالطبع مهما عظمت ربما لا تكفي لعبور تلك الهوة.. ذكرني ذلك مقولة لأحد رجال الأعمال الشباب خفيفي الظل لمتسول كان قد داهمه وهو يهم بالهبوط من بي إم دبليو الفئة السابعة أمام أحد المصارف "إنت عندك في جيبك كم يا حاج"، رد الشحاذ "إتنين جنيه"، فعاجله بالقول "تعرف ياحاج أنه يلزمني أن أدفع سبعة عشر مليارا لهذا البنك، حتى يكون لدي في جيبي اتنين جنيه مملوكة لي مثل ما أنت عليه الآن". اقترحت لصديقي أن يشترط عليهم ان يتم تسجيل شراكة جديدة تحت إسم عمل مستقل تماما وأن تقوم إدارة المؤسسة بنقل كافة الأصول إميقريشان أوف أسيتس لصالح الشراكة المستقلة بعد أن يتم تحرير كل تلك الأصول من أي إلتزامات أو قيود على الملكية. كما اقترحت خيارا بديلا في حالة تعذر الخيار الأول، يتمثل في أن يلتزم القائمون على المؤسسة بتحويل ذمة الإلتزامات القائمة على المؤسسة المطروحة للشراكة إلى ذمم أخري بموجب إتفاقية ثلاثية تشمل الدائنين والجهة التي قبلت شراء الدين، على أن تصبح الأصول المملوكة للمؤسسة المطروحة للشراكة بموجب إتفاقية نقل الدين، محررة تماما وخالية من أي قيود أو موانع للتصرف في الملكية. رفض رئيس مجلس إدارة المؤسسة المقترحين بموجب اتصال هاتفي، وتمت دعوة صديقي المقيم خارج السودان للحضور للخرطوم للإجتماع وتدارس الخيارات. حضر صديقي واصطحبني معه فحملت ملفاتي وصور القوائم المالية.. وكانت دهشتي أنني لم أجد في الاجتماع لا مدير المؤسسة ولا المدير المالي.. كان هناك فقط السيد رئيس مجلس الإدارة في كنزة أنيقة ورباطة عنق زاهية.. ولدهشتي أيضا بدأ الحديث دون أن يكون أمامه ملف واحد أو حتى جهاز لابتوب.. وحينما طرح عليه صديقي نتائج تقييم الموقف المالي، إنفجر الرجل غاضبا، وقال أن كل تلك المعلومات التي طرحناها مغلوطة وغير حقيقية، وأنه لا يدين لأي مصرف في السودان بفلس واحد، بل أنه يمول تلك المصارف. قد يكون الرجل صادقا في أنه يمول المصارف من واحدة من المؤسسات الكثيرة التي يديرها، فما أكثر الأبقار وما أكثر المزاود، لكن بالطبع ليست تلك المؤسسة المطروحة للشراكة والمعروضة لصديقي، والتي أحمل قوائمها المالية في جيبي. فقمت بمناولة صديقي الذي كنت أتواري بجانبه صورة من تفاصيل المديونيات وأسماء المصارف والجهات الدائنة وقد بدت عليها صورة أختام مراجعي المؤسسة، فمررها صديقي للرجل الذي رفض ان يستلمها بحجة أنها "شغل بتاع موظفين".. ثم خاطب صديقي أنه اذا اعتمد على عقول موظفين محدودي الأفق من شاكلتي، فإن ذلك سوف لن يساعده على العبور على أية حال.. ثم تحدث بصوت خافض، على إثره طلب مني صديقي مغادرة الإجتماع على الفور، ففعلت وتركت كوبا باردا من عصير البرتقال كنت أمني نفسي بازدراده، لكن سوء الطالع لا يدع نصيبا للأماني الكبيرة. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. www.nagibabiker.blogspot.com