ذات مساء قبل أكثر من خمسٍ وعشرين عاما وجدتني في إحدى الصالات بمطار سنغافور الجميلة بصحبة رؤسائي حسن قاسم وصلاح عثمان.. مرّ الكثيرٌ من الوقت على صلاة العشاء فدلفت لأحدى دورات المياه بالمطار، كان كل شئ فيها قد بدا أبيضا وناصعا كأنني أول طارقٍ لها، أو كأنما لم يعمرها من أهل الأرض من قبلي إنسٌ ولا جان.. إمتلأت الردهة بمغاسل مصفوفة على مد البصر أُعدت بصنابيرها المعدنية اللامعة كأباريق الفضة، الرخام الأبيض الفيروزيُّ الساطع، المرايا على طول الجدران وعرضها ترى فيها ألف نسخة لنفسك، ويبدو وجهك الواحد فيها متعددا وكأنما حشدٌ غفيرٌ من السابلةِ والعابرين يتحلّقُ وهو يُحَملِقُ من حولك. . كنت وحدي للحظات في دورة المياه، فشرعت في الوضوء، كل شئ هناك بدا وكأنما قد أُعِدَّ بعنايةٍ فائقة ينضح بالجمال والتعقيم والإضاءة البيضاء الحالمة. لسوء الطالع ففي اللحظات التي كنت أرفع فيها إحدى قدمي بزاوية تجاوز المائة وسبعين درجة، لأطرحها على المغسلة الرخامية البيضاء وهي ترتفع عن الأرض حوالي السبعين سنتمترا، بينما كنت أكشف عن ساقي كبدويٍ قادم للتو من إحدى البراري في مكان ما بنصف الكرة الجنوبي، دخل إلى الردهة رجلٌ ستيني وهو يحمل لفافات وبعض قارورات المطهرات في يونيفورم يوحي بأنه أحد عاملي النظافة. بدا على وجه الرجل وهو يطالعني شئٌ من الذهول والصدمة، ثم جعلَ يوبخني بعنف شديد، وقتها لم يتسن لي فك طلاسم مفرداته، لكن الرجل بالكاد كان قد أحجم عن محاولةٍ للطمي. لقد كان من الواضح أنه كان مستاءً لدرجة بعيدة من رؤيتي وأنا باسطٌ قدميّ الداكنة القاسية كجلد السحالى، على حوض أنيق من الرخام الأبيض، يستخدم في العادة لغسل الأوجه والأيادي. . بالطبع فإن الكثير من الملابسات والإنطباعات السلبية الأخرى ربما قد تكالبت هي الأخرى في مفاقمة المأساة وتعميق سوء التفاهم المنعدم أصلا، فماذا تتوقع من أفريقي أسود قذفت به الأقدار فوق تلك الجزيرة المفرطة في الألقِ والحداثة، غير أن يبدو أخرقا لدرجة تثير الفضول والشفقة.. لقد ساءني أن أرى رجلا في تلك السن وقد إندلقت من عينيه كراهية جامحة تفوق تفاهة الحادثة أضعاف المرات، لكنه رغم ذلك استطاع لحكمة ما ان يتمالك جوارحه.. . لا أكتم أنني قد أحسست ليلتها بشئ من الغربة والإرتباك في الوقت نفسه، تمنيت أن لو تبتلعني الأرض لولا أن المكان لايبدو على أية حال منطلقاً مناسبا لرحلة عبور ربما تكون وشيكةً إلى السماء، هل يا ترى سيسامحني الله أنني قد تركت كل أهل الأرض واخترت أن أعرج إلى السماء من سنغافورة ؟!.. وجدتني لوحدي هناك دون رفيق وقد استبدّت بي كل تلك الخواطر في ذلك الوقت من الليل، على جزيرة قصيّةٍ في مكان ما على المحيط الهندي، تبعد عشرات الآلاف من الكيلومترات عن أقرب مُتَلَقِيٍ بإمكانه ان يفُكَّ شفرات إستغاثتي إذا ما حدث مكروهٍ في تلك الليلة. . مرت عليّ كل تلك الأيام والسنون وتضاءلت في ذاكرتي تفاصيلٌ كثيرة لأشياء لا حصر لها.. ضاعت عليّ معالم الكثير من المدن والمطارات التي تسنّى لي العبور يوما بها، وجوه لأناسٍ تعرفت عليهم وتقاطيعٌ آسرةٌ لفاتنات كنّ قد أسكرنني يوما وتمرغنّ بشغافِ قلبي. إلا تلك اللحظات، فقد بقيت لوحدها محفورة فيها كنقوش فرعونية أثرية، أو كجراحٍ غائرةٍ لم يُقَدرِ اللهُ لها أن تندملَ بعد، قسمات وجه عامل النظافة المسن، عيناه القاسيتان، الأدوات والمحاليل الأسيدية بيمناه، ولعناته المتتابعة، لا زالت تتراءى لي ولا زال صداها في أذني وهي تنضحُ بالمرارة والكراهية والأسى. . لماذا فات عليّ إذن في تلك الليلة وما سبقها من الليالي، أن أتوضأ تمشيا بتعليمات الذكر الحكيم، أن أمسح بلطفٍ على قدميّ كلتيهما، لماذا كان عليَّ أن أطرحهما بجلافة على المغسلة الأنيقة البيضاء.. إن ذلك لولا الغفلة، لربما كان كافيا لإظهاري كأيّ إنسانٍ متمدن، أمارس سلوكا لائقا ومقبولا أمام ذلك البوذيّ المتأفف العجوز. . إن الايات القرانية كثيرا ما تأتي على خلاف ما تم تلقيننا إياه من السنة، ففي شأن الوضوء على سبيل المثال لا الحصر، فان اتباعك لها لا يلزمك بمطّ الأرجل وطرحها على ظهر المغاسل النظيفة لتبدو وكأنك أفعىً إستوائية، أو ككائنٌ فضائي هلاميّ الأطراف ينبسط مابين السماء والأرض، لا لشئ إلا لتنشر الماء على قدمين متسختين، ذلك على الرغم من أن مسحهما فقط ربما كان كافيا لمواصلةِ السماء.. يقول تعالى في الآية السادسة من سورة المائدة: . "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ۚ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا ۚ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ ۚ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ". إنتهى.. www.nagibabiker.blogspot.com عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.