د. محمد عبد الحميد أستاذ مادة الحد من مخاطر الكوارث بالجامعات السودانية بعد أن كان النقاش حول موضوع السد الأثيوبي وقفاً على اختصاصيي علم الهيدرولجي والسدود، وبعد أن احتكرته اللجنة الفنية منذ عهد الرئيس المخلوع وتواصل بذات النسق والرؤية في عهد الثورة، وبعد أن حُوصرت وحُوربت كل الآراء التي تناولت الجوانب المتعددة للسد من منظور مختلف للرأي الحكومي الرسمي، لاسيما المخاطر المترتبة عليه، بما في ذلك شواغل أمانه وسعته وموقعه داخل الأراضي السودانية. وبعد أن وصلت المفاوضات منعطفاً عجز فيه المفاوض السوداني في أن يحمل قضية السد بكل الأبعاد الاستراتيجية والأمنية بإعتبار أن هذه القضية تمس الأمن القومي السوداني، وتمس جوهر وجود السودان ككيان جغرافي و حضاري. وبعد أن أنفق جل وقته في التبشير بالسد كفتح رباني أرسلته العناية الإلهية لشعب السودان ليستفيد منه في شراء الكهرباء الرخيصة، وتنظيم جريان النيل وحجز الطمي وغيرها من "المزايا" التي سال لها لعاب المفاوض السوداني. ظهر الموقف الحكومي وسط دهشة المتابعين مطالباً من كل مواطن سوداني أن يهتم بقضية السد كونها قضية قومية، بينما لم يفصح عما هو المطلوب بالتحديد من المواطن السوداني ان يفعل إزاء قضية السد. هل مطلوب منه أن يدعم المفاوض السودان في موقف السوداني الرسمي الداعم اصلا للسد؟! أم مطلوب منه أن يقف مع الموقف التفاوضي المستجد الذي قضى بتعليق مشاركة السودان في العملية التفاوضية؟! والفرق بينهما كبير وواضح . فإذا كان الطلب بدعم الموقف السوداني الأصلي الداعم لقيام السد، فقد تمت الدعاية لهذا الأمر من قبل عبر مجموعة كبيرة ممن "احتكروا النقاش حوله بصورة فنية" بإقامة الورش التنويرية واللقاءات المباشرة وغير المباشرة وذهب بعضهم بالدعاية للسد حتى باللغة الإنجليزية، وقد بلغ الداني والقاصي مجموعة "الفوائد المجانية" التي تنتظر أهل السودان من ذلك السد. أما اذا كان مطلوب منه أن يدعم الموقف التفاوضي القاضي بتعليق المشاركة في التفاوض، فذلك يستلزم شرح معنى تعليق التفاوض وهل يعتبر في هذه الحالة كرت ضغط يمكن استثماره؟! ومن ذا الذي سيضغط على الجانب الأثيوبي وبناء على أي أسس؟!. على عموم الامر وبغض النظر عن ما يريده الموقف الرسمي من المواطن، فقد بدا واضحاً من اللقاء الذي أجراه التلفزيون القومي في برنامج البناء الوطني يوم 5 ديسمبر مع وزير الري ووزير الخارجية المكلف والصحفي د. خالد التجاني، أن الموقف الحكومي الرسمي آخذ في التغيّر تبعاً لمعطيات مستجدة يُمكن أن تُقرأ في سياق الإهتمام الذي أبداه رئيس مجلس السيادة مؤخراً بالملف، وحالة التقارب السوداني المصري خاصة على الصعيد العسكري بعد مناورات نسور النيل (1) التي جرت في السودان مؤخراً بكل ما تنطوي عليه من رسائل معلنة ومبطنة. كما وضحت من خلال موقف السودان التفاوضي الأخير والذي علق مشاركته في التفاوض بدعوى عدم جدوى المفاوضات (بطريقتها الراهنة) كما وصفها السيد وزير الري في اللقاء المُشار إليه. والطريقة الراهنة هي بالتأكيد الموقف الأثيوبي المتعنت، الذي يعتمد شراء الوقت بالتفاوض القائم على استراتيجية "الدفع بالخصوم نحو الهاوية" ليصل لمبتغاه وهو الانفراد بالتصرف في مياه النيل الأزرق وفق رؤية واضحة عبّر عنها الجانب الأثيوبي أكثر من مرة وهي أن المياه مياهم والسد سدهم والسيادة سيادتهم. وقد نجحت إثيوبيا حتى تمكنت بكل دهاء للوصول لمرحلة الملء الأول دون إتفاق وها هي تمضي بإتجاه الملء الثاني ربما دون إتفاق. ما يجدر ملاحظته في اللقاء التلفزيوني ما أدلى به د. التيجاني الذي تحدث بلغة المحلل السياسي الذي ينظر للأمور بصورة أكثر شمولاً، حيث لفت النظر الي أن السد سيعمل على تغيير موازين القوى من ناحية جيواستراتيجية، ولمح ان للسد دوافع سياسية. وهذا المنظور مع اهميته البالغة لم يطف بخاطر المفاوض السوداني، فقد كان غائب بشكل كامل بحيث لم يُدرك البُعد السياسي في عملية إنشاء السد، وعندما سُئل السيد وزير الري عن خياراته الأخرى أكد أن لديه خيارات فنية، اذا لم يتم التوصل لإتفاق ملزم بشأن الملء والتشغيل حول تبادل المعلومات بين سدي الروصيرص والسد الأثيوبي منها طريقة تشغيل سد الروصيرص و " الأقمار الصناعية" ولربما تصيب الدهشةُ المتأمل الذي يستشف من قول الوزير كأن السودان قد غزى أرجاء الكون الفسيح بتقانات الفضاء ، وأطلق الصواريخ المحملة بالأقمار الاصطناعية لتمده عن بُعد وعلى مدار الساعة ببيانات عن تصريف الرياح، وتدفقات المياه، وتذبذبات المناخ. كان على الوزير إن أراد أن يشحذ همم أهل السودان وراء موقفه من تجميد التفاوض أن يُبيّن بصورة واضحة مستويات المخاطر من تشغيل السد الأثيوبي على سد الروصيرص في حالة عدم توفر البيانات وفي ظل عدم التوصل لإتفاق ملزم، وماهي السيناريوهات التي قد تنجم عن ذلك ؟ وكيف ينعكس ذلك على حيواتهم وجوداً وفناءً؟ . والي أي مدى يمكن أن تجبر تلك الخيارات إثيوبيا في تغيير موقفها التفاوضي؟. والمعلوم في علم التفاوض أنه عندما يتحدث المفاوض عن خيارات بديلة، يتم التلويح بتلك الخيارات ككروت ضغط لتجبر الطرف الآخر على تقديم تنازلات أو تغيير موقفه لصالح المفاوض. أما أن يكون لدى الوزير خيارات خارج دائرة التفاوض، فلا يمكن أن تُسمى تلك الخيارات بكروت تفاوضية يمكن أن تفيد القضية الكلية في تحقيق أهداف التفاوض، إن كان هنالك ثمة أهداف.