أخيرا فاق نخبنا السياسية من غفوة الانتخابات ليجدوا أنفسهم فى مواجهة عديد من التحديات التى تفوق كافة تحديات المرحلة السابقة , وان كان هنالك فى السابق فسحة من الزمن لالتقاط الانفاس , فهذه المرحلة المفصلية فى تاريخ السودان عمرها لن يتجاوز الثمانية أشهر فقط . وقد ظللت لاكثر من عام أنوه لما يجرى التخطيط له على كافة المستويات المحلية والاقليمية والدولية بشأن منطقتنا التى تقبع على برميل قنبلة نيوترونية , فالتشبيه ببرميل بارود أضحى لا يعبر عن حجم الكارثة التى تلوح فى الافق , ولكن بكل أسف ظلت نخبنا السياسية ملهية تماما بالسعى الدؤوب لنيل أكبر حصة من الحكومة القادمة , ونسوا أو تناسوا أن مصير المنطقة برمتها ليس رهينا بالحكومة القادمة أيا كانت مكوناتها , فهى جزء من كل مكبل بتحديات وأستحقاقات أكبر من حجمها وقدرتها على المناورة أكثر من محدودة , وهو ماسوف ينعكس سلبا على مايمكن التعويل عليه من انجازات خلال المرحلة المقبلة . واليوم نود الخوض فى واحدة من أهم تلكم التحديات , ومدى أرتباطها العضوى ببقية التحديات , وهو مايجعل الامر أكثر تعقيدا , والحلول أشبه بالمستحيلة على ضوء حجم التعقيدات المحلية والاقليمية والدولية المتعلقة بالمنطقة برمتها . التحدى اليوم هو الصراع الدائر حول تقاسم مياه النيل , ومطالبة دول المنبع بتوزيع عادل للحصص , على ضوء التحديات الخطيرة التى تواجهها تلك الدول خلال السنوات الاخيرة من نقص حاد فى المياه , واستفحال قضية الجفاف وتوابعها اللامحدودة وعلى رأسها النقض فى الامدادات الغذائية , وارتفاع معدلات الفقر والجوع والمرض , كنتاج طبيعى للفساد الادارى وسوء التخطيط والصراعات التى تشهدها المنطقة ولسنوات طوال , وفوق هذا وذاك تأتى ظاهرة الاحتباس الحرارى لتزيد الطينة بلة , فتراجعت مناسيب هطول الامطار بدرجة مخيفة وتؤدى الى معدلات هجرة داخلية وخارجية غير مسبوقة , وعلى ضوء أجندة مايسمى بالمجتمع الدولى التى لاتقوم أصلا على قيم أخلاقية , بل تميزت ولسنوات طوال تنهش فى جسم دول المنطقة المتهالك أصلا , لتكريس سياسات الاستغلال والهيمنة على كافة المستويات , وفى ظل غياب شبه كامل لقوى الوعى بالمنطقة لخلق حراك يحد من تفاعلات عناصر تلك الازمة . ان المتتبع لسلسلة حلقات التاّمر على المستوى الدولى بالنسبة للدول النامية يجد أن أولى تلك الحلقات كانت سعى الكتلة الغربية للقضاء على منافسها اللدود اّن ذاك الاتحاد السوفيتى , وجاءت نهاية عقد الثمانينيات لتشهد ذلك الانهيار المروع لمايعرف بالاتحاد السوفيتى , لتخلوا الساحة الا من لاعب واحد , حتى أطلق على العالم , العالم ذو القطب الواحد , وأنتهت الحرب الباردة , لتصطف روسيا فى صفوف المتلقين للمنح والاعانات , وحيث مزق الاتحاد السوفيتى شر ممزق , حتى أضحى أخطبوط القطب الواحد يدق أبوابها , ولولا ترسانتها النووية لدكت حصونها , وتبع ذلك سعى الاخطبوط الغربى لفرض هيمنته وسيادته على العالم , ولاشك أن الذين طبلوا لانهيار الاتحاد السوفيتى اليوم يلعقون أصابع الندم والحسرة , بعد أختلال كافة التوازنات الدولية وهبت عليهم ريح صرر تكاد تهوى بهم الى عمق سحيق , وكل منهم تقف أمامه تحديات تنزر بعواقب وخيمة على مجتمعاتهم , فولج الى القاموس السياسى وبشدة تعبيرات الكيل بمكيالين , وانتهاكات مواثيق الاممالمتحدة ...الخ , وحتى يحكم الاخطبوط قبضته على أقتصاد العالم برمته , عمد الى الغاء ماكان يعرف بأتفاقية الجات , والخاصة بالتعريفات الجمركية , والتى كانت تعمل على حماية منتجات الدول وفق معايير يتفقون عليها , وتم أستبدالها بمنظومة جديدة ووفق معايير وشروط مجحفة , جعلت معظم ماتعرف بالدول النامية خارج الحلبة , وتوطد تعبير البقاء للاقوى , وان لم يضمن بأدبيات تلك المنظومة الجهنمية الشيطانية صراحة , ولكن تستشف من بين السطور , فضمن ولاول مرة مصطلح جديد للقاموس السياسى والاقتصادى لا يعرف له تعريف دقيق حتى الان حتى لمن أبتدعوه الا وهو العولمة , وأتحدى ان يوجه السؤال الى كافة قادة دول الاخطبوط الاعظم ليعرفوا لنا ماهى العولمة , ولمن يجد الاجابة نكون شاكرين له أن يمدنا بها حتى تعّم الفائدة الجميع , فقد خضت كثيرا فى أدبياتهم ولاكثر من عقد من الزمان فلم أجد جوابا شافيا يؤطر لى ماهى العولمة ؟ عموما , ولكى ترسخ قوى القطبية الواحدة أركان منظومتها الجهنمية الجديدة , كان لابد من أعادة صياغة أسس وقواعد جديدة لتمرير فزلكات العولمة المزعومة غير محددة الهوية , فأقتيد العالم برمته كالذى يسير بالتنويم المغنطيسى , لعقد قمم عالمية متعددة وفى فترة وجيزة من عمر البشرية الطويل , فعدد من قمم الغذاء , والمرأة والسكان والبيئة ....الخ , فماذا كان النتاج , هل أوفت دول الاخطبوط بما التزمت به , أم كانت تلكم القمم لتمرير معايير وشروط وبناء أسس سياسات وأستراتيجيات تؤمن فرض الهيمنة المطلقة والكلية على العالم لا أكثر , واخيرا وجد العالم نفسه مكبلا بمواثيق وشروط ومعايير لاحصر لها , وتصب جميعها فى مصلحة دول الاخطبوط الاعظم , التى تتحكم فيه مراكز قوى متعددة الجنسيات والهوية , والكل يسعى بكافة الوسائل الاخلاقية وغير الاخلاقية للانضمام لمراكز القوى المعنية حتى من وراء ستار , لتأمين مصالحه الفئوية أو الشخصية ان دعت الضرورة على حساب مقدرات ومستقبل مجتمعاتهم . أردت من خلال هذه المقدمة المطولة أن تشكل مدخلا علميا لكى يتفهم القارىء الكريم ماسوف أسوقه لاحقا حول قضية تقسيم مياه النيل , فهى تقع ضمن هذا الاطار الكلى وليس خارجة عن النص , وليست بالبساطة التى يحاول البعض من النخب السياسية تصويرها , فلنعود لمؤتمر الاسكندرية فى شهر أغسطس من العام الماضى لدول حوض النيل , ومطالبة دول المنبع بأعادة توزيع الحصص , والسؤال الذى يطرح نفسه , لماذا هذا التوقيت بألذات للمطالبة , لن ذلك يتماشى ومايجرى التخطيط له بالمنطقة برمتها , فأثيوبيا يعانى الملايين من سكانها المجاعة وكذلك جارتها كينيا , حيث ضرب الجفاف معظم المناطق , على ضوء ظاهرة الاحتباس الحرارى والتى أشارت كافة التقاير العلمية للمنظمات الدولية ذات الصلة , أن الدول الواقعة على خط الاستواء ستكون أكثر الدول تضررا من انحسار معدلات هطول الامطار طيلة السنوات القادمة , وبالرجوع للاحصاءات حول معدلات الامطار خلال السنوات الثلاث الماضية تؤكد هذه الحقيقة , والتى اّخرها هذا العام ومعاناة أهل العاصمة حتى من أزمة مياه الشرب , وشكل النيل اليوم لايخفى عن أحد , وتقليص زراعة القمح هذا الموسم ليس الا ترجمة حقيقة لهذا الواقع , ومايتبعه من توليد كهربائى مائى , فالتوربينات تعمل من خلال فتح بوبات الخزانات لتدفق المياه , أضف الى ذلك ماهى سعة هذه الخزانات أصلا التخزينية , وهو مايعنى أن البلاد وفى غيبة الاهتمام منذ زمن طويل بهذه القضية , جعل السودان أصلا لايستفيد من حصته والبالغة 18 مليار متر مكعب سنويا بالكامل , لضعف سعته التخزينية , فأستفادت مصر من معظم مياه النيل عبر القرون , فوق حصتها والبالغة نحو 56 مليار متر مكعب , فلا الزراعة ولا الكهرباء كانت يوما من أولويات نخبنا الحاكمة , متلازمة مع تكتيكات الاخطبوط المؤدية لتبديد الموارد وتعطيل عجلة التنمية من خلال تأجيج الصراعات وتغذيتها بمايؤمن تمرير سياساته بالمنطقة , وبالرجوع لاستهلاك مياه الرى فى السودان نجد أنه ومن خلال طريقة الرى التقليدية المتبعة أن الفاقد من هذه المياه كميات هائلة , فى مقابل منتجات تتسم بضعف عائداتها , وقد أستمر هذا الحال حتى يومنا هذا , وبعملية حسابية بسيطة , نجد مثلا أن هنالك المليارات من الامتار المكعبة من المياه يمد بها مشروع الجزيرة سنويا , فى مقابل عائدات ضعيفة جدا من منتجات ذلك المشروع الضخم , وليس للسخرية , لو عمدا الى تصنيعها كماء صحة فقط , وعمدنا لتصديرها , لجلبت لنا عائدات أكبر من عائدات بترولنا , ولأستجلبنا من الخارج القمح وغيره من المنتجات الغذائية عالية الجودة , ولوفرنا مخصصات كافة العاملين بمشروع الجزيرة , ومنصرفات الوقود والمنتجات البترولية الضخمة التى تستهلك فى أعداد اراضيه وحصاد منتجاته , هذا ناهيك عن فواتير الاسمدة والمبيدات وقطع الغيار , وكذلك أعادة توظيف جهد المئات من الالاف من سكان المشروع , فهو حقيقة اليوم لايساهم بحصة تزكر من حجم المواد الغذائية المستهلكة بالبلاد , فالقمح لاتعدو مساهمته عن 15 – 20 % فى أحسن الظروف , والذرة أصلا أصبحت بالبلاد سلعة اّيلة للزوال , بطبيعة نمط الاستهلاك , والفول السودانى , البركة فى ناس صباح الذين سعوا ليصنعوا له قيمة , ومايعرف بالسفير للماشية , القطن , فأسألوا مزارع الجزيرة لماذا ترفض زراعته اليوم , وينسحب هذا الحال على بقية مشاريعنا المروية , أما بالنسبة لسكر كنانة وغيره من مشاريع السكر , والتى تستنزف ححص كبيرة من مياه الرى , فسلعة السكر المستوردة أرخص كثيرا من منتجاتنا , وكما يقولون على قفا من يشيل , وبالنسبة للماشية , والاعلاف , فجلّ ثروة السودان , تعتمد فى أعلافها على الاعلاف الطبيعية , ولا علاقة لها بحصة مياه النيل , اللهم الا النزر القليل وبحجم ضئيل التى يجرى تربيتها وفق اعلاف مزوعة أو مخلافات المحاصيل للمشاريع المروية . فالذى أستغربه حقيقة اذا كان وضع السودان فى استهلاكه لحصته بهذه الشاكلة المتواضعة , والغير مرشدة , فما الحوجة لمناكفة الاخرين , لقد ظللنا لسنوات طويلة وحتى الان نتعاطى مع هذا المورد بالامبالاة , وأنه مورد لايمثل قيمة حيوية بأقتصادنا , وهذه هى الحقيقة المرة , وحينما جدّ الجد , وبدأت مهددات هذا المورد تلوح فى الافق وتأخذ خطوات عملية ومعاشة , بدأ الهرج والمرج , بل وأضحى يهدد حتى مياه الشرب الاساسية للسكان , وماعاشته ولاية الخرطوم خلال الاشهر المنصرمة وحتى الان لخير دليل على مدى عدم المبالاة بهذا المورد الحيوى . أما بخصوص التحدى الاخر , فهو فى حالة أنفصال جنوب السودان , لاقدر الله , فسوف تطالب الدولة الناشئة بحصتها من المياه , وبلا شك ستكون خصما على حصة السودان الموحد حسب التقسيم , وبحسب طبيعة مكونات الاقتصاد لدولة جنوب السودان المرتقبة , فسوف يغلب على نشاطها الاقتصادى القطاع الزراعى , ومع توفر عائدات مواردها البترولية وأضافة للمنح والقروض التى ستدفق عليها ( أن هى أفت بمتطلبات الاستراتيجية العليا للاخطبوط ) فسوف توجه جلّ تللك الموارد للزراعة بمختلف مشتقاتها , فبلا شك ستكون المياه أحد أهم عناصر عدم الاستقرار والنزاع . وبلا شك من مصلحتها الاستراتيجية أن تنضم لكتلة دول المنبع التى تزمع توقيع أتفاقية تقسيم مياه النيل يوم 14 مايو القادم بمعزل عن مصر والسودان . فمصالحها الحيوية والجيوسياسية أكثر ارتباطا بتلك الكتلة من الشق الشمالى السودان الشمالى ومصر . وفى حالة الوقوف من جانب حكومة الشمال فى وجه تمرير أجندة الاخطبوط الاستراتيجية بالمنطقة , سيعمد لدعم عناصر تقليص حصص السودان الشمالى ومصر , والمساهمة غير الحدودة بتمويل أنشاءات السدود والمشاريع المستهلكة للمياه بدول كتلة المنبع . ومصر فى ظل أعتمادها على الدعم الامريكى بسلعة القمح والتى تشكل أكثر من نصف استهلاكها وفق اتفاقية كامبد ديفد , لاتستطيع المناورة كثيرا , فهى مكبلة فى أهم عنصر قوتها اليوم , ولا عندم كسرة ولا دخن ولا حصيدة بالبلدى , أى سرعان ماسترضخ لما هو اّت , والخلاصة أن السودان سيجد نفسه اّخر المطاف مجبرا على قبول اتفاقية جديدة تقلص حصته لامحالاة . على ضوء ماتقدم نجد أن الخيارات أضحت أكثر وضوحا , وان عهد الموية البلاش قد ولى , وحانت ساعة الجد , وأن رسم أستراتيجية جديدة لاستغلال مياه النيل ببلادنا سوى موحدا أم مجذاءا أضحت حتمية , وأن أستغلالها وفق رؤى أقتصادية دقيقة , وأس سنامها الاستغلال الامثل وفق الاسس العلمية والتكنولوجية للمساهمة فى محاربة الجوع والفقر والبطالة وارساء قواعد الامن الغذائى لمختلف شرائح المجتمع . والا فكما أشرت سابقا بأن الثمانى أشهر القادمة مفصلية بتاريخ السودان بالاجمال , وأن التعاطى مع المرحلة وفق رؤى النخب السياسية فى المرحلة السابقة ستفضى الى دولة تعيش ايقاع أزمات مزمنة لافكاك منها , ومايتبع ذلك من تدهور غير مسبوق لمستوى معيشة سكانه ورهانات دولية تجعل من استقلال وسيادة البلاد لا تعدود عن كونها لافتات وقد جردت من كل مضامينها , وتحديات أشبه بالمستحيل فى معالجتها , ووقتها لايجدى التباكى على الاطلال . عاطف عبد المجيد محمد عضو المنظمة الدولية لشبكة المعلومات والعمل لاولوية حق الغذاء – هايدلبرغ – المانيا عضو الجمعية الدولية لعلوم البساتين – بروكسل – بلجيكا الخرطوم بحرى – السودان تلفون :00249912956441 بريد الكترونى :[email protected]