يستنكر بعض الناس موقف مبعوث الرئيس الامريكى من الانتخابات ، ويستغربون كيف يصح ان يعترف بأنها مزورة ثم يقول انهم (الامريكان) يقبلونها من أجل قيام الاستفتاء، ويقول هؤلاء ان الامريكان انما يسعون لفصل جنوب السودان عن شماله. لدى النظرة الفاحصة لهذا الاستنكار، وهذا الاستغراب ، يمكن للمرء ان يكتشف ان موقف المبعوث الامريكى هو الموقف الطبيعى و الصحيح، وان موقفه لا يصح تفسيره بالطريقة التى فسره بها اولئك المستنكرون، وذلك لعدة أسباب ، نذكر منها اهمها:- اولا: الاستفتاء من حيث هو يعتبر اجراء ديمقراطى، وحضارى، تعمد اليه المجتمعات الانسانية للوصول للقرارات الهامة والتى يبدو حولها خلاف بين افراد المجتمع، حتى قبل ان يصل ذلك الخلاف حد الحرب والفرقة، ولا يمكن للانسان ان يتصور ان هناك استفتاء اهم، ولا اكبر، من استفتاء يمكن ان يوقف حرب مدمرة كحرب جنوب السودان التى استمرت لعقود عديدة، وتسببت فى موت اعداد كبيرة من الشباب، وأهدرت موارد كان يمكن ان تدرأ كوارث ما زالت آثارها مستمرة. هذا من ناحية، ومن ناحية اخرى فان حق تقرير المصير انما هو حق طبيعى وأساسى، وكلنا يعلم ان الحرب فى الجنوب لم تندلع من اجل زيادة حرية الصحافة فى الخرطوم لكى يتمتع بها امثال الطيب مصطفى، ولم تندلع من أجل أن يحظى بعض افراد الاحزاب التقليدية بمقاعد فى البرلمان ليتحولوا بين ليلة وضحاها الى جنود للمؤتمر الوطنى، ولم تندلع من اجل ان يتمكن السيد مبارك الفاضل من انتقاد حكومة الانقاذ من على شاشات التلفزيون، وانما اندلعت تلك الحرب اللعينة من اجل الحقوق الاساسية لمواطنى جنوب السودان، ولاعطائهم حقوق المواطنة التى تضعهم امام القانون الذى يحكمهم فى وضع مساو لوضع اخوانهم الاخرين من مواطنى شمال السودان، ولقد استمرت تلك الحرب لمدة طويلة حاول المتمردون اثناء تلك الفترة ان يرفعوا من سقف تطلعاتهم ليشمل حل مشكلة الشمال ايضا، واصبحوا بذلك الموقف النبيل مثل من يحاول ان يوقف الاعتداء عليه بيد وان يعالج الشخص المعتدى باليد الاخرى حتى لا يعود الى الاعتداء مرة اخرى، وقد تكبد المتمردون مشاق كثيرة للالتزام بهذا الخط الذى بدا لبعض منهم وكانه مثالى، الا انهم، بعد جهد وتضحيات جسام، تمكنوا من نيل ما أرادوه من تلك الحرب المريرة، واجبروا حكومة الانقاذ على مفاوضتهم والتسليم بطلباتهم، التى شملت ليس فقط حق تقرير المصيرللجنوبيين، وانما ايضا حق الشماليين فى حرية العمل السياسى. فكأنهم قالوا للشماليين سوف نسمعكم رأينا حول الوحدة من خلال الاستفتاء على تقرير المصير ولكن بعد ان نتأكد من موقفكم و نعرف هل بين الشماليين من لديه الفكر والقدرة للتأسيس للجقوق الاساسية لكل ابناء الشعب أم لا. ثانيا: كلنا يعلم ان الجنوبيين قد انتظروا مدة خمس سنوات ليعطوا فرصة كاملة للعقلاء، وذوى الارادة ، من شمال السودان للجهر بارائهم، واستغلال اتفاقية السلام، للدعوة للوحدة، وللسلام ،ولحكم القانون الذى يمكن ان يشمل كل ابناء السودان، فماذا فعل الشماليون خلال هذه الفترة؟ لا شئ يذكر فى هذا الاتجاه. والاسوأ من ذلك ان أغلب محترفى السياسة من الشماليين، من الذين انتفعوا من قوة شكيمة المتمردين الجنوبيين، قد تسابقوا على فتات موائد المؤتمر الوطنى، وتحولوا من تجمع للمعارضة الى منتفعين من النظام ،وقد نجح النظام فى ترويضهم لاستعمالهم لتدعيم اركانه، ولم يستطع محترفى السياسة من الشمالييين الوقوف فى محطة المعارضة، وتحولوا الى وزراء ، يدافعون عن سياسة حزب المؤتمر الوطنى ،والى مستشارين، وخبراء، واعضاء لجان، لا يؤبه لهم، واستكانوا لمخصصاتهم التى اغدقها عليهم حزب المؤتمر لدرجة جعلت بعضهم يترك حزبه لينضم للحزب الحاكم. حتى القلة من السياسيين الشماليين الذين لم يتحولوا الى جنود لحزب المؤتمر، الا انهم لم يتمكنوا من النأى بأنفسهم عن الرشاوى غير المباشرة التى وصلتهم ، فاصبحوا خائرين لا نسمع منهم الا ما نكره ،ولا نجدهم الا حيث نكره، فعكفوا يشنشنون بعبارات لا تقدم ولا تؤخر، ولم يخاطبوا الشعب بما يليق به، ولم يقدموا طرحا مخالفا لطرح حزب المؤتمر. كل هذا اثبت للعالم اجمع اننا فى شمال السودان لا يمكن ان نعيش فى سلام مع الجنوبيين، فنحن ما زلنا نشب فى مدارج الطفولة السياسية، واننا ما زلنا بعيدين عن احترام الحقوق الاساسية، واننا نحتاج لوقت طويل لكيما نتحرر من خطرفة ائمة المساجد وادعياء الدين. فهل يُعقل، والحال كما وصفنا، ان يقول عاقل بان جنوب السودان يجب ان يرضى بما نقدمه له نحن الشماليين؟؟ اليس كافيا لنا ان يتركنا المبعوث الامريكى فى حالنا مع عمر بشيرنا هذا ونافعنا ؟؟ اليس كافيا لنا، فى ظل هذا الوضع المحزن، ان يقول الامريكان لسكان الجنوب لا تعلنوا استقلال دولتكم دون استفتاء ؟؟ وهل يحق لنا ، ونحن بهذا العجز، ان نطلب من المبعوث الامريكى ان يحفظ لنا وحدة بلادنا لكى نستمر فى اجهاض حقوق الجنوبيين؟ هل نجد أحد بيننا ، نحن الشماليون، من يطالب بالحقوق الاساسية للجنوبيين؟ أم اننا مثل رئيسنا الذى يعتقد بان مشاريع التنمية فى الجنوب يمكن ان تحل هذه المشكلة؟ أم ان الوقت لن يسعفنا؟ أبوبكر بشير الخليفة 5 مايو 2010