أذعت منذ عقدين من الزمان مفهوم الإرهاق الخلاق. قلت فيه إن قوانا السياسية جمعاء قد ضربها الإنهاك. فقد عفى الدهر على مرجعياتها الفكرية من تاريخ طائفي وأصولية وإسلامية وماركسية. وبدلاً أن تنظر هذه الكيانات إلى عوجة رقبتها ظلت تهرب للأمام من إفلاسها وتستعصم بثوابتها وتروج لضحاياها عند المبدأ سدى في ما أسميته "الاقتصاد السياسي للاستشهاد". ودعوت على مقدمتي هذه أن يكون إرهاقنا خلاقاً يهدينا إلى صلح وطني بنظر جديد وفكر رشيد. وبدا لي أن أكثر مناطق فكرنا إصابة بالإرهاق هي طرائق الاستدلال في كتابات الصفوة. فالمقدمات التي يبدأ منها الكاتب لا تقود بالضرورة إلى استنتتاجاته. فتجده يستكره الحجة أي أنه يأتي بها عنوة. وهذا من سوء الظن في القاريء أو السامع الذي يعده الكاتب بلا ملكة للتفكير و"عقله في أذنيه". وهذ كله درك في الطائفية السياسية التي ضربت حقول فكرنا فصوحت. قرأت خلال الإنتخابات كتابات هي عنوان في فساد الاستدلال والطائفية السياسية. وجدت الأستاذ إسحاق فضل الله يفسر الحاح المعارضة على طبع بطاقات الإقتراع بحنوب أفريقيا وبريطانيا كدسيسة مع أن هذا هو الأصل في تعاقد الأممالمتحدة مع لجنة الإنتخابات. فالأخطاء العديدة التي تناقلتها الأنباء عن أوراق الاقتراع هي، في نظر إسحاق، بفعل فاعل من المعارضة. فقد "تفاهمت" مع تلك المطابع لتخطيء عمداً في رسوم أوراق الإقتراع أخطاء مدمرة تطيح بالإنتخابات. ولا تخفى بالطبع على الإنقاذ خافية أو دسيسة. فأعجب ما في الأمر أن كل دس المعارضة وأربابها في الخارج كان مكشوفاً ل "مركز" في دولة الإنقاذ الماكرة يعمل في الخفاء منذ سنين بما يشبه فعل السحرة. فقد استعد ليوم الكريهة الإنتخابية تلك بما يفحم الدساسين. ولذا تخطت مفوضية الإنتخابات حرجها مع الأوراق الخاطئة خلال سويعات بفضل يقظة ذلك المركز. وبلغ من مكر هذا المركز أنه تنبأ حتى بمن سينسحب من المعارضين شاكياً من أعراض "الفتر" النافعي. والمركز عليم حتى بأسباب المنسحبين فتراً وتوقى لهم "بالرقي والتمائم" (الإنتباهة 14-4). ولم يفطن الكاتب إلى أن بعض أخطاء المفوضية الفاضحة مما لم يطبع في لندن أو جنوب أفريقيا. فقد رأينا خيبتها اللوجستية من فتح بعض المراكز في الوقت المعلوم، وتوفير بعض الفورمات مثل أورنيك 7 للشكاوى لبعضها، أو حتى الاتصال ما بين نقاط الإقتراع في الريف الذي لم تشمله شبكة المحمول. وكانت الثريا تكفيه. ولم تزل أطراف ولاية كسلا وولايات الجنوب بمنأى عن لجان الإنتخابات العليا. ولم يوفراياً من ذلك المركز الماكر اليقظ. أنؤمن ببعض المركز ونكفر ببعضه! وسوء الاستدلال فاش أيضاً بين المعارضين. فلما تعذر عليهم أن يشاركوا في الإنتخابات بقوة أو يقاطعوها بقوة (لا بالقوة) ساقوا المعاذير اللغو كما سبقني إلى ذلك عادل الباز. فقد تواضعوا على أن مقاطعتهم قد جنبت البلاد حمام الدم. فجمهور بعض الأحزاب المقاطعة من أنصار حزب الأمة والحركة الشعبية في الشمال، المعروفة بصداميتها في قولهم، كانت ستتصدى لمنع عمليات التزوير التي يقوم بها المؤتمر الوطني بكل الوسائل بقوة. وهذا مجرد عزاء للنفس عن مقاطعة منقوصة. فإدعاء الفضل لأنفسهم بمنع حمام الدم هو مجرد ذريعة لعدم إحسانهم المقاطعة التي كان ينبغي أن تكون حراكاً سياسياً ليس شرطاً أن يتضرج بالدم. وذكرني هذا قول للأستاذ غازي سليمان حين لوحت المعارضة بما حدث في إنتخابات كينيا إذا ما زورت الحكومة الإنتخابات. قال غازي: "هو العندو رجالة كينيا منو؟".