قبل ملايين السنين.. كانت تلك هي العبارة الغالبة على لسان الدكتور الذي درّسنا مادة الجيولوجيا في السنة الثالثة بقسم الهندسة المدنية بجامعة الخرطوم وهو يتحدث عن الصخور.. قبل ملايين السنين حدثت انفجارات بركانية، وترسبات جيرية ، وتحولات (مابعرف ايه). مع اعتذاري لأهل الجيولوجيا إلا أن المادة تلك كانت قائمة على خيالات صعبة التصديق (على الأقل في طريقة تدريسها).. ولم يكن من طريق للمثول بين يديكم الآن وأمام اسمي حرف الميم إلا بتصديق تلك (البتاعات)، بل والتأكيد على أنك تدين بها كتابة وذلك في ورقة الامتحان. حسناً.. قرأت للكاتب المشهور محمد حسنين هيكل كثيراً واستمعت له أكثر في برنامجه الاسبوعي (مع هيكل .. تجربة حياه) عند العاشرة مساء كل خميس على قناة الجزيرة. بل وذهبت أكثر من ذلك عندما كتبت مقالاً من قبل بعنوان (من يحدثنا بطريقة هيكل)، فكيف هي طريقة هيكل؟!. طريقته أنه عندما يتحدث عن حرب 48 مع العدو الإسرائيلي كان يُظهر صوره وهو مراسلاً حربياً لصحيفته على جبهات القتال.. شاهدا على العصر.. بل صانعا له، طريقته عندما يتحدث عن بعض القرارات السياسية للرؤساء يبتدرها بشاورني.. أو نصحته، أو كنت معه أو غيرها من العبارات التي لو قالها (طباخ) أو (حلاق) في قصر الرئيس لصدقنا روايته حول الحدث دعك من أن يقولها صحفي وسياسي يشارك في اتخاذ القرار. نقل أحداثا في كتابه السلام المستحيل .. نقل أحداثاً وقصصاً عن رئيسة الوزراء البريطانية حينها مارجريت تاتشر تجعل من يقرأها تتفتح أمام أعينه وفي ذهنه حقائق إمبراطوريات المال والإعلام الأوربية وتظهر هشاشة القوة التي يعيشها القوم.. ومن المؤكد أنه لم يكن يحكي كقاص، بل مشاهد ومشارك في بعض تلك القصص والحكاوي. قامت دنيا الصحافة السودانية على هيكل ولم تقعد حتى الآن.. قامت لأنه ذكر في إحدى الحلقات المتأخرة.. لم أشاهدها .. أن الإمام الهادي عليه رحمة الله مات مسموماً بفاكهة (المنقه) في كسلا خلافاً لما هو مشهور عن موته على الحدود الأثيوبية برصاص جنود النميري حينها.. ما أدهشني هو ليس مراجعة هؤلاء الكتاب لهيكل في صحة المعلومة بقصد أو بدون قصد.. فذلك أمر عادي وفيه متسع لتصحيح معلومة مغلوطة أو خاطئة وردت على لسانه.. لكن المثير حقاً أن معظم هؤلاء الكتاب بدأوا يشككون في كل ما يسرده هيكل من معلومات وأحداث وفي ما يبرزه من وثائق وكأنه قاص لمغامرات رجل المخابرات (ادهم صبرى) مثل الدكتور نبيل فاروق أو مؤلف لليالي الحلمية مثل المرحوم أسامة أنور عكاشة، او روائى للقصص البوليسية كاجاثا كريستى, ولعمري فذاك نهج يجافي الصواب.. منهج أن تحب المرء عمرك كله وتدين له بولاء التميز و المعرفة ثم من هفوة واحدة تشكك في كل إرثه وتاريخه. لا .. وألف لا. أنا لا أدافع عن هيكل فلست من حوارييه.. و لا يحتاج هو لمن يدافع عنه بالطبع.. ولكني ما زلت أصر على هؤلاء الكتاب أن يحدثونا بطريقة هيكل.. أو على الأقل أن يستحثوا صانعوا تاريخ السودان أن يكتبوه لنا بطريقة هيكل.. سرد للأحداث والوقائع بدون (بطولة وخيانة).. بدون (عسكر وحرامية).. وحسب.. ويكون المتلقي هو صاحب القرار في أن يضع من يشاء في مرتبة البطل وغيره في غير ذلك.. أقول ذلك لأن تاريخ السودان الحديث عندنا نحن جيل الشباب هو بطولات محضة .. نعم .. فالنميري دحر المرتزقة في يونيو 1976، والحركة الوطنية كادت أن تستلم الحكم في يونيو 1976 واحتسبت شهداء، ذهب النميري إلى ربه ولم يحدثنا بالأحداث مجردة.. وانشغل أخوة الشهيد عبد الإله خوجلي (شهيد دار الهاتف) عن أن يحدثوننا بتجرد عن المكسب والخسارة في تلك الأحداث حتى يتوفاهم الله (بعد عمر مديد إنشاء الله) ونختلف بعدهم في كيف استشهد عبد الإله خوجلي. لم يحدثنا الصادق المهدي عن (تخرجون) و(تعودون) فيكون الحدث كله بطولات.. بطولات الإمام وأبنه عبد الرحمن في التخطيط و التنفيذ ضد دولة.. وبطولات الدولة التي تقول أنها كانت عالمة بالأمر وأرادت أن تسهل له الخروج.. وهكذا في كل الأحداث الجثام.. ما زال المهدي مشغولاً بالمعارضة ورئاسة الجمهورية والترابي هناك في محبسه يتمنى أن يغمض عينيه ويفتحهما فيجد هؤلاء الرجال (ما جبهه). ونقد يحتفظ بمخبئه سراً من الأسرار.. (فالظروف ما معروفة) .. ان كان فى العمر بقية. سادتي كتاب الصحف.. إن ما تنقلونه من حوارات تظنون انها توثيق إنما هي تصريحات في شكل لقاء وتعبر عن رأي قائلها ومصلحته.. ولكنها بالتأكيد ليست هي التاريخ.. إنما التاريخ هو ما يسرده حاضروه بلغة الشاهد على العصر والحدث أو ما ينقله الموثقون مدعوماً بالأدلة والبراهين.. إخوتي الصحفيون.. أين هي الحقائق في تاريخنا .. تاريخ السودان المعاصر؟!.. نجيب عن هذا أولاً ثم نرجع لنناقش هيكل في موضوع تاتشر (رئيسة الوزراء) وليست تاتشر (العربة اللاندكروزر بك اب).