بالصدفة.. شاهدت معركة ضارية بين شابين من خريجي الجامعات في واحد من الأماكن العامة.. وينتميان تقريباً لتنظيم فكري واحد.. معركة شرسة لدرجة أن أحدهما حمل زجاجة مياه غازية فارغة وهرول مسرعاً نحو صاحبه مطلقاً صيحات الحرب من الويل والثبور.. وأظنه كان قاتله لولا أن حبسه الحبّاسون. تساءلت في نفسي قائلاً: لا بد أن أحدهما قد كفر بعقيدة الآخر!. بعد أقل من ساعة ونصفها، كان المتصارعان يجلسان مع بعضهما البعض وسط المجموعة وهما يضحكان ويتمازحان.. سبحان الله؟! حسناً.. أنا لا أدري ن هو مخترع العبارة الشهيرة (ان اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية)، ولكن الذي أنا على يقين منه أن هذه العبارة كانت في زمان غابر، زمان غير هذا.. زمان من الزمن الجميل لمن تعجبهم العبارة.. حيث أنه إن كانت الصياغة تعبر حقيقة عن ما بداخلها.. اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية.. فأنبئوني إذاً، ما الذي يجعل الترابي منظم الحركة الإسلامية ومرشدها يتحالف مع الحركة الشعبية والحزب الشيوعي عدوا الحركة الإسلامية فكرياً ضد عمر البشير رئيس دولة الحركة الإسلامية، وما الذي يجعل الإمام الصادق المهدي إمام الأنصار وزعيم حزب الأمة يتقاتل نداً وخصماً في المحاكم وخارجها مع مادبو أحد الزعماء التاريخيين للحزب وكلاهما يحفظان راتب الإمام المهدي عن ظهر قلب. بل ما الذي يجعل سلفاكير زعيم الحركة الشعبية وقائدها يتبادل اللكمات والطعنات المعنوية مع الأستاذ الجامعي لام أكول وكلاهما رجل غابة ودخلاها سوياً وقاتلا سنين عدداً من أجل غاية واحدة.. والحزب الاتحادي الديمقراطي والحزب الشيوعي وحركات التحرير المسلحة التي وصل عددها إلى العدد (كم وعشرين) وأنصار السنة والإخوان المسلمون و ... انه اختلاف الود الذي أفسد قضايا الرأي المشتركة.. (يعني زعلة ساكت).. كتلك التي كادت أن تقتل أحد الشابين.. حتى إذا تم انفصال الحزب وتشتت الكلمة.. زار القيادي البارز (س) بحزب الأمة الأصل وفي معيته القيادي المهم (ص) بحزب الأمة الفدرالي يتبعهم القائد (ع) بحزب الأمة القيادة الجماعية، زاروا الامين العام لحزب الأمة (المابعرف إيه) ليعزوه في وفاة (خالة صديقه).. ويصرحون بعدها لأجهزة الإعلام بأن اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية.. أي رأي وأي قضية وأي ود. ولم تنجو الصحف من ذلك فقد كنت في العام 1990 اشترى صحيفة الإنقاذ الوطني بسعر واحد جنيه لأقرأ فيها لكل الكتاب الكبار.. أما الآن فكل كاتب منهم يساوي واحد جنيه (أبو ألف طبعا).. فعثمان ميرغني جنيه، وحسين خوجلي تاني، ومصطفى أبو العزائم ثالث، ومحجوب عروة جنيه رابع، وعادل الباز خامس و.. وقائمة طويلة من الصحف بعدد الكتاب المتميزين في بلادي.. ولما.. لأن اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية.. لا.. لقد أفسد ذلك الود الزائف للرأي قضية.. سواء بمعناها الحقيقي من حيث تجمع الرأي أو مجازاً من حيث تفرق شركات الإصدارات الصحفية لتوزع كل منها عدداً محدوداً لو اجتمعت مع بعضها لضاعفته أضعافاً. ويتبع ذلك الشركات التجارية والأسماء الرنانة في دنيا المال وليس الانفصال الشهير بين سوداتل وموبيتل عنا بعيد. أعود فألخص بأننا شعب ضعيف فى بنيته العاطفية, حديث عهد بقضايا الايمان و المبادئ .. اذ لمجرد اختلاف في الود بين زعيم ونائبه يشتركان ذات الرأي.. لمجرد ذلك الاختلاف السطحي الذي لا يهم الرعايا من قريب أو بعيد.. تسعر نار الحرب.. الباردة منها والساخنة.. حتى يتم الانفصال.. فإذا تم و تفرق الرعايا شذرا مذرا.. أتانا الناعق بالعبارة الشهيرة.. اختلاف (البتاع) لا يفسد (للبتاع) قضية.. أفرغوها من محتواها فصارت كلمات جوفاء لا معنى لها.. بل مثيرة للاشمئزاز إن تدبرناها.. إننا شعب لا يحترم قضاياه ويدوس عليها لأسباب تافهة لا علاقة لها بالرأي. قال أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يوماً لقاتل أخيه زيد بن الخطاب.. (لا أذكر اسمه).. وكان حينها قد أسلم (رضوان الله عليهم أجمعين).. قال له: إني لا أحبك. فرد عليه ذلك الصحابي: أمانعك ذاك من أن تعطيني حقي كمسلم؟ قال عمر رضي الله عنه : لا. فقال ذلك الصحابي: إنما تأسى على الحب النساء. فاعتبروا يا أولي الألباب.