أصبت بالصدمة والذهول مثل ملايين السودانيين وأنا أتابع رئيس الجمهورية وهو يدعو الذين خجلوا وأصيبوا بالحرج من الجلد الوحشي لفتاة سودانية، إلى التوبة والعودة للإسلام بأداء طقوس الاغتسال والتشهد والصلاة، هذه هي تعاليم الإسلام وشريعته التي لا يمكنها أن تتخلى عن الجلد والقطع والقتل وفقا للرئيس البشير، وهذا هو ما رآه الرئيس البشير في فيديو الفتاة المجلودة والذي أدمى قلب كل من شاهده. توبيخ وجه رئيسنا باندفاعه المعهود لطمة قاسية حتى لأنصاره الذين حاولوا أن يجدوا مخرجا لنظامه وبدأوا في التحقيق في الواقعة المحزنة المخجلة، وأساء لكل من انصاع للحس السليم في أبسط تجلياته، ووضع كل من قال كلمة في وحشية الجلد وهمجيته (خاصة داخل السودان) أمام خيارين بائسين، إما يبتلع لسانه ويتخلى عن ضميره أو أن يمضي في استبشاع ما حدث في تحد غير مأمون العواقب لموقف الرئيس الذي بدا مستكفيا ومستغنيا عن الأخر بأي معنى وفي أي سياق. ووجه توبيخا علنيا لأجهزة الشرطة والقضاء التي قررت التحقيق فيما رأته تجاوزا، دفاعا عن نفسها وما تبقى من سمعتها، بقوله "إذا كان ما تم في موضوع الفتاة حكم قضائي ونفذت الشرطة الحكم القضائي، فلماذا التحقيق والتحقيق في شنو"، كأن امتهان كرامة الناس بالقسوة والإذلال هو التعبير العادي عن عقيدتهم ونظامهم الأخلاقي، وكأن أجهزة حكومته مبرأة من كل عيب ونقصان لأنها تدافع عن الحق الإسلامي المحض. وسدد الرئيس طعنة نجلاء لنفسه ولحكومته وهو يصف سياسات رعاية التنوع الثقافي والعرقي والديني في السودان بالكلام "المدغمس" أي الملتبس، المدسوس، الذي يستبطن الغش والاستهبال وجعل مقابلها الشريعة الإسلامية الواضحة الغراء واللسان العربي المبين. وبدا حديث القضارف كأنه مشهد من مسرح العبث، فالتنوع الذي وصم بالكلام "المدغمس" هي السياسة التي يفترض أن حكومته كانت تتبعها على الأقل منذ توقيع اتفاق السلام الشامل قبل ست سنوات وتلك الشريعة هي التي يفترض أنه طبقها وتمسك بها حتى تمزقت البلاد، فإلى ماذا وإلى أين سيعيدنا البشير بعد الانفصال، وهل يهدد الغرقى بالبلل؟ إن التنوع الثقافي والعرقي واللغوي والديني والتفاوت التنموي الصارخ حتى في شمال السودان نفسه أوضح من أن تخطئه عين مبصرة، لا يمكن أن يتجاهله إلا من لم يتعلم شيئا من درس الجنوب ولا يرى للآخرين كرامة ولا وجودا مستقلا عن تصوراته. الانفصال ... لا قدر الله "إذا انفصل الجنوب، لا قدر الله، فإنها ليست نهاية الدنيا" قبل ثلاثة أسابيع فقط من استفتاء الانفصال لازال الرئيس يأمل في أن تتدخل العناية الإلهية لمنع انفصال الجنوب وبقاء البلاد موحدة تحت قيادته مثلما كانت طوال وحد وعشرين عاما. أما إذا لم يستجب الله لدعائه، فلا بأس، فهي ليست نهاية الدنيا ولدينا من النفط ما يكفي في الشمال وسمسم القضارف. إنه منطق ومنهج لا يوفر شمالا ولا جنوبا ولا يدع كوة أمل واحدة مفتوحة، ومخيب حتى لأحلام الذين قبلوا بالانفصال على مضض واعتبروه نهاية لأوجاع الحرب وفاتحة لجيرة سلمية، إن لم تكن أخوية، مع الجنوب. فالانفصال الذي يعد بالمزيد من الجلد والقطع وصفاء الهوية والعرق والثقافة والدين ويتيح فرصة القضاء نهائيا على "الدغمسة المشئومة"، ولا يتجاوز أثره قيمة صادرات النفط، سيجر حتما لحروب أخرى وانفصالات تالية، لأن الذهن الذي صنع ما بين أيدينا من انفصال لا يتنحى ولا يتعلم. يبدو أن نهاية الدنيا بالنسبة للفريق البشير وفريقه هو يوم تخليهم عن السلطة الذي يرونه ... بعيدا ... * المقال يعبر عن رأي كاتبه Mohammed Abdulrahman [[email protected]]