موجة من التغيير تجتاح العالم العربي وهدير الشعوب دوما يستحق الإنحناءة ورفع القبعة تمجيدا لسيل الإرادة الجماهيرية التي لا توقفها هراوات ورصاص العسكر ... فلا بد من وقفة, فقبل أن يكون دحر الطغاة عبرة لمن تبقّي منهم. فمن باب أوْلي أن يكون ما مارسته الأنظمة القمعية بمثابة درس لكل الشعوب .. بأن هولاء هم الطغاة وهاهي تركيبتهم التي إتضحت جلياً في اقرب محكات الإرادة الشعبية؛ يُظهرون حقيقتهم وسقوطهم الأخلاقي وعداوتهم لشعوبهم .. ومن هنا لزامًا علينا أن نحيّ الشهيد "محمد بوعزيزي" الذي رسم للشعوب خريطة الإنعتاق من قيود الظلم. ولا زالت مسيرة التحرر من ظلامات انظمتنا القمعية في الطريق فالشعوب الأن تتلمس طريقها والشوارع تعيش قمة الغليان الجماهيري. فبعد شعبْي تونس ومصر .. الآن كل من شعوب البحرين واليمن وليبيا يقفون بإرادتهم علي بوابة الحرية. إن رياح التغيير التي تهب الآن، ليست هي إزالة انظمة جثمت علي صدور شعوبها ردحًا من الزمان فحسب؛ بل زلزال ثوري شعبي بأعلي درجات من مقياس ريختر لتغيير سياسي عام لإرساء دعامة أساسية من دعامات العمل السياسي وإلي الآن كل المؤشرات تشير لذلك فوقفة شعبي تونس ومصر في الشارع حتي بعد زوال أنظمتهم وتخطيهم للقوة السياسية فهذا يعني المطالبة بتغيير لشكل الممارسة السياسية القديمة؛ وغرس بذرة العمل السياسي الذي يواكب العصر ويلبي طموحات الشباب الذي قدم الدماء لتحقيق هذا الهدف. علي صعيدنا السوداني، فبلا شك نحن أصحاب تجربة بحكم خوضنا لمعارك النضال السلمي ضد الديكتاتوريات قبل اكثر من 45 سنة. فتجربة أكتوبر كانت تجربة رائدة في عالم ثورات الشعوب لانها تجربة وعي مبكر في عالمٍ يعيش أعلي حالات التخلف. وفي رأيي انها ثورة تختلف شرارتها الأُولي ودوافعها اختلافاً نوعا ما. لانها لم تكن ثورة جياع أو ثورة عطالة. وللأمانة والتاريخ فإن أجمل سنوات الشعب السوداني التي عاشها كانت فترة حكم "عبود" وهذا من جانب الرفاهية. فرُقعة واسعة من قطاعات الشعب السوداني تتمتع بكامل مسببات المعيشة اليومية. لذلك اتت ثورة اكتوبر تكسوها طفرة وعي مبكر يعيشه الشعب السوداني؛ لمطالبته بنظام الحكم الديمقراطي فهذا هو كان الدافع الأساسي لثورة اكتوبر منذ البداية. ولكن السؤال "هل كانت القوة السياسية قدر هذا الوعي؟" يمكننا القول أن ثورة أُكتوبر لم تكتمل وتوقفت بعد أن أعلن الفريق "أبراهيم عبود" حل حكومته. فهنا توقفت الثورة عند إنجاز المهمة الاولي، ولكنها لم تنجز المهمة الثانية التي لا تقل أهمية عن رصيفتها الأُولي وهي تحقيق شعار التغيير السياسي العام الذي يطال قوانا السياسية وشكلها القديم والتي عجزت عن صون مقدّرات الجماهير ودماء شهداء الحرية. وإلي يومنا هذا فمنظوماتنا السياسية تعلن شيخوختها وهي تقف عاجزة، والشارع السوداني يعيش قمة الغليان. فبدلاً من دعم التغيير القادم بتطوير آليات النضال؛ فهم الآن يفاوضون سراً وعلانيةً حكومة الإنقاذ وشعبنا يحترق بسنواتها العجاف وأفراد طغمتها يتوشحون المال والقصور والسيارات ويمارسون النهب المنظم، يلهثون وهم يغوصون في أوحال الربح والثراء الحرام ، موغلين في الخيانة والقتل وتدمير الوطن. أكثرمن عشرون عاماً من عمر الشعب السوداني ضاعت في غياهب عصابة الثلاثين من يونيو 89 ومنذ اليوم الأول عملت هذه العصبة من الكائنات علي إفراز مؤسسات تم توظيفها لقمع الشعب السوداني وكأن بينها وجماهير شعبنا ثأر؛ أو غبن تاريخي واجب التصفية، ولم يخلو بيت من البيوتات في وطني إلاّ وطال أفراد أسرته ألسِنة لهيبهم الموغلة في الوحشية، عدا قصورهم التي كل لبنة فيها تنضح بالثراء الحرام. ولو أفردنا كل مساحات الصحف لتعرية هذا النظام لما كفّت، لأن كل يوم مرّ منذ إذاعة البيان الأول. كفيل لفضح ما قامت به حكومة الإنقاذ من ممارسات تتعارض ومبدأ الإنسانية. وهذه الممارسات إن أردنا حصرها لنفدت مياه البحار لو كان حبراً لكلماتها. فهذا الأمر أصبح مفروغ منه والخوض فيه يعتبر تبديداً للوقت وضرب من ضروب الإستهلاك الخطابي. ولكن حِيرتنا هنا هي حيرة القوي السياسية الديمقراطية وحركتها السلحفائية تجاه القضايا المصيرية التي تمس حياة المواطن السوداني في كل الجوانب وترْكِهِ لفئة ضئيلة من القتَلة يتلاعبون بمصيره ومصير الوطن وكأنهم واثقون تمام الثقة أن لا قوة توقف عبثهم بثروات البلاد. .. بلادنا .. التي تمر الآن بمرحلة جديدة من مراحلها التاريخية في تاريخها السياسي. وها هي الآن جماهير شعبنا تعيش حالة من الضياع والأزمة السودانية تتفاقم يوم تلو الآخر إذ أصبح السودان ملتهباً بالحروب الداخلية . وقد تجلي للجميع عجز الحكومة السودانية طوال فترة حكمها عن ابتداع حلول متكاملة وشاملة ودائمة . لمشاكل السودان. إلي أن وصلت البلاد إلي هذا المنعطف الخطير وذهاب جزء عزيز من تراب الوطن. وقد نُرجِع ذلك للأخطاء السياسية الفادحة وعدم الرؤية الثاقبة لواقع السودان وتركيبته الإجتماعية المختلفة الألوان لأن الأقدار شاءت للسودان تلك الرقعة الجغرافية، ان يتواجد فيها التعدد الديني والقبلي واللغوي وغيره. حتي اصبح السودان بأن يكون بلد التناقضات والمفارقات القاتلة كما وصفه د "حيدر ابراهيم. فالبلد الذي يُرشّح لكي يكون سلة غذاء للعالم، تضربه المجاعات المتتالية. والقطر الذي يشقه واحد من أعظم أنهر العالم،بالاضافة لكثير من الانهر الصغيرة والامطار الاستوائية في ربوعه ، تموت جماعات كبيرة في جزء من مناطقه عطشا. والقطر المبادر في التعددية السياسية والنظام البرلماني المبكروصاحب التجربة العريقة، وقد توقع الكثيرون ان يكون نموذجا للديمقراطية في افريقيا والعالم العربي. هاهو يأبي الا أن يكون موطنا لدائرة شريرة من الانقلابات العسكرية المتتالية وان يرزح لأكثر من خمسون عاما منذ الاستقلال عام1956 حتي الان تحت وطأة حكومات عسكرية. والبلد الذي تنبأ له كثير من المؤرخين في العالم ، أن يكون هو ونيجيريا ملتقي الثقافات والاديان والاعراق في افريقيا، أبي الا أن يكون مشعل الحروب والنزاعات الداخلية، وصاحب سجل أطول حرب أهلية في العالم . فكل هذه التناقضات انتابنا احساسا جراؤها بأن السودان استنفذ كل فرصه واصبحت في غياهب الضياع وتصعبّت امكانية خروجه من النفق المظلم، نتيجة رسوب الساسة المستمر في اختبارات السياسة السودانية . واليوم حال البلاد يغني عن السؤال والاوضاع تسداد سوءاً والتردي في كل المجالات يرتفع معدله كلما اشرقت شمس صباح جديد واراضي البلاد تباع في مزاد علني حتي اصبح اعلي معدل لبيع اراضي وطنية للأجانب في العالم . واجزاء كبيرة من الوطن صارت لقمة سائغة للطامعين من دول الجوار – حلايب – الفشقة شرقاً - جزء من دارفور غرباً - والشريط الحدودي بين السودان واوغندا جنوباً اصبح ميدان لتصفية الحسابات بين جيش الرب والحكومة الاوغندية. فكل هذه المأآسي لم تكن كفيلة بأن تحرك في القوي السياسية الديمقراطية ساكناً أو علي الاقل لم تتدخل وبيدها الفعل المحرك لأستنهاض الحركة الجماهيرية او ممارسة ضغط علي الحكومة لايقاف هذه المسرحية المهزلة وهذا اضعف الايمان. بل تلك المنظومات استكانت للفرجة والمؤتمر الوطني يمارس عليها المهدئات عبر اسكتشاته السياسية بحربائيته المعهودة وزر الرماد في العيون. فالبرغم من كل هذا فاننا نأمل أن تستيقظ القوي الوطنية من سباتها العميق وتنفض غبار الكسل لأن العمل السياسي علمنا أن درب النضال طويل وشاق وكثير من الصعوبات؛ ولكن ليس من المستحيلات بأن يتحقق الحلم الذي يراودنا ببناء سودان جديد علي اساس إنسانية الانسان والانتماء له بالتراب لا بالدين ولا العرق ولا اللون وغيره من واقع السودان الملموس التعددي. إن السودان القديم بكل تنوعه الثقافي وعمقه التاريخي هو الأرضية الصلبة التي يرتكز عليها سوداننا الجديد لأن التاريخ لا يختزل في لحظة معينة علي أن يتم التواصل بين كل الأقوام الموجودة في السودان دون إستعلاء تاريخي ثقافي أو إستعلاء ديني أو إستعلاء عرقي. ومن هنا يجب قراءة واقع الخارطة السياسية السودانية ومكوناتها الإجتماعية والإقتصادية ومن ثم إعادة صياغة شكل الحكم بما يتماشي مع طبيعة وتركيبة تلك المكونات ومع دورها الإجتماعي والسياسي وتطلعاتها المشروعة في صنع القرار السياسي والمشاركة فيه عبر الدستور الحضاري المنشود. عابد عقيد / استراليا / ملبورن