قضى الامر وحسم ففى الساعة الثانية عشر من مساء الجمعة اليتيمة مضت اخر دقيقة للسودان موحد وهى ليست جمعة يتيمة لان الجمعة اليتيمة تعود من جديد بمرو سنة عليها ولكن الجمعة التى شهدت اخر دقيقة فيها رحيل الجنوب فانها لن تعود ثانية هكذا كان قدر السودان.وتم الاعلان عن انقضاء الامر رسميا بالاعلان عن استقلال الجنوب رسميا فى منتصف نهار السبت التاسع من يوليو 2011. ولكن استوقفنى فى هذا الحدث ان احدهم فى محادثة هاتفية على الهواء مع قناة الجنوب الجديدة التى اطلق عليها اسم (الاستقلال )وجه سؤالا لمقدمى البرنامج ان كان ما تحقق للجنوب انفصال ام استقلال. سؤال يبدو فى غاية البساطة وربما يبدو ساذجاولكنه فى واقع الامر سؤال فى منتهى الاهمية ويمثل قضية كبيرة لم تجد حجمها من الاهتمام رغم مدلولاتها الخطيرة. ان يكون ما حققه الجنوب انفصال فهذا يعنى ان الجنوب يعترف بانه كان جزءا من دولة واحدة عجزت عن تحقيق التعايش بين ابنائها بسبب فشل ساستها فى ان يؤسسوا دولة مواطنة عادلة يفخر المواطن بالانتماء اليها فقرر الجزء المتضررأو حسب التعبير السائد(المهمش) الانفصال اما ان كان ما تحقق هو استقلال فلهذا معنى واحد هو ان الجنوب كان دولة قائمة لذاتها تم استعمارها من دولة شمال السودان ولما تحررت من هذا الاستعمار اسمته استقلال لهذا فان لكل كلمة منها مدلول لايمكن غض الطرف عنه.والمفارقة الكبيرة ان كل من تحدث فى الاحتفال او جرى معه لقاء فى القناة الفضائية يتحدث عن الاستقلال وبصفة خاصة اكدت عليها ممثلةامريكا فى الاحتفال اكثر من مرة ولم يتجنب من هذه الكلمة الا رئيس الجمهورية وممثل الجامعة العربية. الامر الثابت هو ان الحديث عن ما تحقق للجنوب سيطرت عليه كلمة انه استقلال خاصة من جانب الجنوب وكل الضيوف من ممثلى امريكا واوربا وافريقيا واسيا اذ ليس بينهم من كان يتحدث عن انفصال وانما هو بالنسبة لهم استقلال حيث ظل هذا هو التعبير الذى هيمن على الموقف. لقد كان واضحا من ردود فعل الجنوب انه دولة تحررت من الاستعمار وان الامر بالنسبة لهم استقلال يؤكد ذلك ان ما شهدناه من فرحة بلغت حد الهستريا فى اجتفالاات الجنوب اكبر من ان يكون احساس بالانفصال كما انه لم يحدث ان اشار له اى منهم على كل المستويات الرسمية والشعبية انه انفصال ولقد نجحوا فى ان يفرضوا كلمة الاستقلال اعلاميا حتى على القنوات الفضائية العربية التى سارت على نفس النهج.. دفعنى للوقوف عند هذا الكلمة انها لم تكن صدفة وانها تمثل التعبير الحقيبقى لهذه القضية وان فرض الكلمة لم ياتى من فراغ او جاءت به الصدفة وان غاب الامر على العقلية الشمالية لدى السلطة الحاكمة وعلى المعارضة ممثلة فى التجمع لغفلتها ولتعاملها مع القضية من زوايا مصلحية ضيقة حتى اذا واجهت الواقع راحت تولول وتندب حظها. مع الاعتراف بان للجنوب قضية عادلة عمرها اكثر من ستين عاما من الفشل السياسى الشمالى ومع تفهمى لان تجد هذه الكلمة قبولا عاما من الاشقاء بالجنوب وان يعتبروا ما حققوه تحرر من استعمار واستقلال تحقق لهم بتقديم ملايين الضحايا حتى بلغه بسبب عجز القوى الشمالية مدنية وعسكرية فى ان تؤسس دولة موحدة متساوية الحقوق والواجبات وان تحمل الانقاذ المسئولية الاكبر فى تهيئة المسرح لهذه النتيجة الاانها لايمكن ان تسأل وحده عنها. فالقوى السياسية الاخرى شريكة فى المسئولية فى الماضى والحاضر لقد قلتها واؤكد عليها ان النظام الحاكم والمعارضة ممثلة فى التجمع كلاهما كانا ادوات طيعة تتسابق لارضاء امريكا كل وفق مصلحته سواء كانت رغبة الانقاذ فى افشال اى عمل لاسقاطها او لمصلحة التجمع فى ان يسترد الحكم عبر البوابة الامريكية وكلاهما تعمد بل ظل يشيح بنظره عن النوايا الامريكية تجاه السودان بالرغم من أن امريكا لم تخف نواياها ولكنها كانت تدرك نقطة ضعف الحكومة والمعارضة فعرفت كيف توظفهما بالريموت كونترول.حتى حررت الجنوب من الاستعماركما صنفت قضيته ولكن ما لم تملك الاجابة عليه امريكا هو ان السودان نفسه كان مستعمرة انجليزية ولما تحرر ونال استقلاله كان الجنوب جزءا منه الدولة التى تحررت من الاستعمار فكي يكون مستعمرة لهذا ان كان الجنوب مستعمرة فهو اذن مستعمرة انجليزية وليس سودانية ولكن امريكا ارادت ذلك وما تريده يعلو ما سواه.. لقد وجدت نفسى مدفوعا لان اعيد ما سبق ان تعرضت له فى اكثر من مقالة داخل وخارج السودان منذ عام 92 حول هذه القضية وما يدفعنى لتناولها هذه المرة هو ان امريكا هى التى روجت للقضية باعتبارها معركة الجنوب المستعمر (بفتح الميم) ضد الشمال المستعمر(بكسر الميم) و بعلم الحكومة والمعارضة وبصمتهما عن تكذيب امريكا لهذا فان هذه الكلمة لم تفرض نفسها من فراغ فهى التعبير الحقيقى الذى اراده مصمم الخطة لتفتيت السودان الذى لم يخف انه يعمل من اجل هذا الهدف وهى امريكا لهذا لم يكن صعباعلى قوتها الاعلامية ان تغيب الحديث عن الانفصال ولتسود لغة التحرير من الاستعمار لتكون النهاية الطبيعية ان ما تحقق هو الاستقلال فامريكا هى الذى رفعت راية تحرير الجنوب من الاستعمار منذ عام 92 وعرفت كيف تطوع الحكومة والمعارضة لتحقيقه. السيناريو الذى صممته امريكا لم يكن سرا فلقد تحدثت عن استقلال الجنوب علانية لهذا فالاستقلال هو الاصل وليس الانفصال . ففى عام 92 لم يكن حق تقرير المصير مطروحا على اى مستوى بعد ان اخرست الاشارة اليه عندماتصدت الحركة الشغبية بقيادة الدكتور قرنق والتجمع وحكومة الانقاذ ضد اتفاق بون الذى كان طرفه مجموعة الدكتور مشار والدكتور لام اكول مع حكومة الانقاذ ممثلة فى الدكتور على الحاج ومحمد الامين خليفة فى عام 90 قبل ان تتراجع الانقاذ عن الاتفاق لما تعرضت له من ضغط من المؤتمر الشعبى الاسلامى فى ذلك الوقت ومن المعارضة ومن الدكتور قرنق ولم تعد بعدها اى اشارة لحق تقرير المصير الذى لم يكن اصلا من مطالب الحركة الشعبية خاصة الدكتور قرنق زعيم الحركة الذى كان ينادى بسودان جديد موحد يقوم على دولة المواطنة وبموجبه انضم للتجمع بعد ان وقع ميثاقه الذى لم يتضمن تقرير المصير بل امن على دولة موحدة . ففى فبراير 92 كشرت امريكا عن انيابها وكشفت رغبتها فى تقسيم السودان عندما اعلنت اجهزة الاعلام الغربية فى ذلك الوقت عن قرار اتخذته لجنة الشئون الافريقية فى الكونجرس الامريكى يطالب الحكومة الامريكية بان تعمل على تحرير الجنوب من الاستعمار العربى هكذا كان نص القرار الذى تناقلته الوكالات الغربية بوضوح ونشر يومها بصحيفة الخرطوم التى كانت تصدر فى القاهرة.وكنت احد الذين تعرضوا له فى مقالة بالصحيفة ولم بقابل ذلك الخبر يومها باى ردة فعل من القوى السياسية السودانية الحاكمة والمعارضة لانه ليس بينها من يريدان يخسر امريكا فلاذوا بالصمت. ثم كان شهر نوفمبر من عام 93عندما شرعت امريكا فى تنفيذ ما قررته وكانت اول خطوء فى هذا الاتجاه عندما وجهت الدعوة للقوى السياسية من الجانبين لندوة واشنطون التى اسمتها (السودان الماساة الانسانية )وضمت الدعوة طرفى الحركة الشعبية التى كانت جزءا من التجمع ويجمعها معه ميثاق يقوم على سودان موحد يقوم على دولة المواطنة. ومجموعة مشار المنقسمة عن قرنق التى نادت يومها بالانفصال.فهرولت كل قيادات التجمع على ارفع مستوياتها نحو امريكا للمشاركة فى الندوة كما سافر الدكتور قرنق والدكتور مشارالذى شق عصا الطاعة على قرنق . اذكر اننى وقبل ان ينطلق وفد التجمع نحو امريكا تلبية للدعوة كتبت سلسلة من المقالات تحت عنوان(ايها الذاهبونلواشنطون انتبهوا ماذا تريد امريكا من السودان) ويومها اعدت لذاكرتهم القرار الامريكى وقلت لهم ان امريكا تعتبرهم دولة مستعمرة للجنوب وتنادى بتحريره منهم . ويومها تكشف المستور حيث لم تكن هناك اى ندوة وانما كانت دعوة القوى السياسية غطاء للقاء رتبت له امريكا من خلف ظهر التجمع ولم يكن يعلمه حتى قرنق نفسه الا انه تحت تهديد امريكا بقطع الدعم عن حركته اجبر للمشاركة فى اجتماع سرى اخفى عن قادة التجمع الموجودين فى واشنطون وهدف الاجتماع لتوحيد طرفى الحركة وبالرغم من انها فشلت فى ان تعيد الوحدة لعمق الخلافات بينهم الا انها نجحت فى ان توحد موقفهما بان يطالبا ويعملا من اجل كفالة حق تقرير المصير للجنوب بل لم يقف الامر عند هذا الحد بل ضمنته حق تقرير المصير لمن اسمتهم المناطق المهمشة وكان ذلك قبل ان تتفجر قضيا دارفور والنيل الازرق وجنوب كردفان بفترة طويلة. كان الاتفاق واضح وهو ان يعمل طرفا الحركة بالرغم من انشقاقها على المطالبة بكفالة حق تقرير المصير للجنوب والمعروف ان هذا الحق مكفول عالميا للمستعمرات ولكنه كان يتوافق مع قرار فبراير الذى نص على ان تعمل الحكومة الامريكية على تحرير السودان من الاستعمار العربى وهكذا كان المطلب تحقيق استقلال الجنوب من الاستعمار العربى لهذ فان الاعلان عن انه استقلال لم تاتى من فراغ. دون الدخول فى التفاصيل حتى لا اعيد ما كتبته عدة مرات فلقد تسابق التجمع والحكومة على الاعتراف بهذا الحق للجنوب ولم يكن ذلك الا سباقا بين الطرفين لكسب ود امريكا التى عرفت كيف توظف تهافت الطرفين لارضائها رغبة فى انجاح المخطط سواء برغبة الطرفين للبقاء فى الحكم بالنسبة للانقاذ ولاسقاط النظام بالنسبة للمعارضة والخاسر كان التجمع لان بقاء الانقاذ افضل لامريكا من عودةالتجمع لان رؤى الانقاذ فى ان تكون الدولة دينية يساعد امريكا فى تحرير الجنوب وهذا ما تحقق بالفعل.ولكن موافقة التجمع على حق تقرير المصير شل قدرته على الاعتراض بعد ان تورط فى الموافقة عليه حيث وجد نفسه مرغما للجلوس فى مقاعد المتفرجين لايملكون اى دور يلعبونه حتى فى ترجيح ما اسموها الوحدة الجاذبة التى تفتقد كل المقومات طالما انهم خارج دائرة القرار وهكذا تم عزلهم من نيفاشا تماما . واذكر يومها ان الشريف زين العابدين الهندى رحمة الله عليه كان قد اصدر بيانا عقب مؤتمر القضايا المصيرية الذى بصم فيه التجمع على حق تقرير المصير تساءل فىه كيف يقبل التجمع حق تقرير المصير وهو حق لا تطالب به الا المستعمرات واعلن فى بيانه ان الاتحاديين يرفضون هذا الامر ولكن كان لرئيس الحزب الميرغنى رايا اخر حيث اصبح رئيسا للتجمع الذى التزم بحق تقرير المصير رغم محاولاته انكار ذلك فيما بعد فكان الشريف الزعيم الوحيد الذى اعلن رفضخه للمحطط الامريكى.. اذن ما تحقق للجنوب هو استقلال بكل ماتحمل الكلمة لان المخطط من بدايته صممته امريكا بقرار تحرير الجنوب من الاستعمار العربى وهاهى حققته فكان الاستقلال وليسالانفصال.ولهذا دلالات بالغة الخطورة فلقد كان لافتا الفرحة التى بلغت حد الهستريا لدى المواطن الجنوبى العادى مما يعكس مدى الغبن الذى كان يحمله على الشمال لهذا كانت فرحته اقرب لتحرره من الاستعمار اكثر من ان تكون معاناة جزء من وطن انفصل بسبب التهميش ولعل اخطر مافى الامر تداعيات هذا الحدث على مستقبل المخطط الامريكى الذى عبر عنه مطالبنه بحق تقرير المصير للجنوب والمناطق المهمشة لهذا فلقد جاء دور المناطق المهمشة كما جاء فى قرار حق تقرير المصير و ساعود لهذه القضايا فى مقالة لاحقة. alnoman hassan [[email protected]]