كنا على أيام الطفولة والصبا نرى قوافل أهلنا من الريف السوداني والإرتري وهي تتجه نحو سوق كسلا الذي كان وقتها ولازال من المراكز التجارية المهمة في المنطقة. وقد كانت تبدو على المسافرين في هذه القوافل سمات التعب والإرهاق بسبب رحلاتهم الطويلة والشاقة إلى مدينة كسلا ، وقد كانت السيدات بصفة خاصة يقطعن هذه المسافات على ظهور الحمير التي لا تختلف كثيرا عن أتان السيدة حليمة السعدية. وفي مطلع الألفية الحالية زرت مدينة كسلا ولم يكن المنظر قد تغير كثيراً ، لذلك فإن الطريق الذي افتتحه الرئيسان عمر البشير وأسياس أفورقي وضيفهما الشيخ حمد بن خليفة امير دولة قطر يعتبر نقلة حقيقية في حياة أهل هذه المنطقة التي ظلت تعاني من إهمال وتجاهل الحكومات الوطنية المتعاقبة. وقد سعدت كثيراً عندما قرأت قبل أيام تصريحات للسيد الرئيس يقول فيها أن الحكومة ستعمل كذلك على إحياء خط السكة حديد الذي كان يربط بين كسلا ومدينة تسني داخل إرتريا. لا يختلف إثنان حول الفوائد الاقتصادية لمثل هذه الطرق القارية ، فهي تعني توسيع السوق التجارية في المنطقة وتشجيع الاستثمار والانتاج وذلك بتسهيل الوصول لمناطق لم يكن من السهل الوصول إليها بأساليب النقل التقليدية. ولا يشك أحد كذلك في أهمية الطريق بالنسبة للمواطن الذي يعاني الأمرين في الوصول للمراكز الحضرية والتجارية في بلد مترامي الأطراف مثل السودان. ولا أظننا في حاجة لتكرار الحديث عن القبائل المشتركة بين السودان وإرتريا والتي يساعد الطريق القاري على تسهيل عملية التواصل فيما بين أفرادها ، أو ميناء مصوع الذي سيكون من الآن فصاعدا على مرمى حجر من مناطق الانتاج في كسلا وما حولها. ولعل هذا الطريق الذي تأخر تنفيذه طويلاً يعيد للأذهان ذكريات شهر العسل في العلاقات السودانية الإرترية في مطلع التسعينات من القرن الماضي عندما كان الكثيرون ينظرون بتفاؤل شديد لمستقبل العلاقات بين الدول الثلاث السودان وإثيوبيا وإرتريا وتواتر الحديث عن التكامل الاقتصادي في القرن الأفريقي. غير أن إنشاء مثل هذه الطرق ومن بينها الطريق موضوع حديثنا وطريق القلابات المتمة بين السودان وإثيوبيا ومشروع السكة الحديد الذي سيربط بين داكار وبورتسودان وطلب السودان الانضمام لمنظمة شرق أفريقيا هي خطوات مهمة في انفتاح السودان نحو القارة الأم تهدئ كثيراً من قلق الذين استمعوا لتصريحات صدرت عقب انفصال الجنوب وبدا فيها وكأن البعض يرون تناقضاً بين الانتماء الاسلامي والانتماء الأفريقي وهو أمر أبعد ما يكون عن الحقيقة. سمعنا تصريحات وقرأنا مقالات عن أن السودان سيصبح ومنذ ذلك اليوم دولة عربية مسلمة ، وأنه ليس من المسموح به الحديث عن ترقية اللغات أو الثقافات غير العربية المتداولة في معظم أرجاء السودان. وقد ألقى مثل هذا الحديث في روع الكثيرين أن السودان سيدير ظهره للقارة الأفريقية كلها بعد انفصال الجنوب. ولعل افتتاح الطريق القاري بين السودان وإرتريا يؤكد من جديد أن السودان لا زال وسيظل بإذن الله دولة أفريقية عربية مسلمة. ولعل الذين يرون في الاسلام ديناً عربياً يخالفون أبسط قواعد عالمية هذا الدين العظيم ، ولعلهم لم يقرأوا تاريخ الشعوب الأخرى التي هاجرت من مواطنها الأصلية لمناطق بعيدة في العالم لتقيم حضارات عظيمة تفوق في حقيقتها الحضارة الأم التي خرجت من رحمها ، ولعل المسلمون في القارة الأفريقية تفوق أعدادهم عدة مرات المسلمين في الجزيرة العربية. شاركت الأسبوع قبل الماضي في ورشة عمل مهمة للغاية عقدت تحت رعاية جامعة أفريقيا العالمية وجامعة الزعيم الأزهري تتحدث عن علاقات السودان بدول الجوار. وقد برزت خلال هذه الندوة بصورة لا لبس فيها أهمية العلاقات السودانية الأفريقية ، وقد تناولت إحدى الأوراق العلمية العلاقات السودانية الإثيوبية. أثبتت الدراسة التي أجراها الباحث أنه وعلى خلاف الاعتقاد العام وبعيدا عن العواطف فإن علاقات السودان مع إثيوبيا مثلاً تأتي على رأس القائمة بالنسبة لأهميتها الاستراتيجية للسودان وقد تناول الباحث عدة عوامل تؤكد فرضيته ومن بينها التداخل الإثني على الحدود بين البلدين ، والأمن القومي ، والوجود البشري والعسكري ، والتبادل التجاري ، والتأثير الدولي مقارناً كل ذلك بعلاقاتنا "الأزلية" مع دولة أخرى. قد يتفق الناس أو يختلفوا حول هذا الأمر غير أن العلاقات السودانية الإثيوبية تؤكد دون أدنى شك مدى أهمية العلاقات السودانية الأفريقية. لعل من أهم الأدوار التي تضطلع بها الطرق القارية هو أنها تعمل على تسهيل عملية انتقال المواطنين عبر حدود الدول ، وما يرتبط بذلك من تلاقح ثقافي ومصالح اقتصادية وتقارب سياسي. غير أن هذا التلاقح لا يكتمل إذا كانت حرية المواطنين في الحركة محكومة بضوابط تؤدي لإعاقتها ، إذ أنه لا فائدة للطريق إذا كانت الدول التي تقع على جانبيه تفرض قيوداً على حركة مواطنيها. لذلك وحتى تتحقق الفائدة من هذا الانجاز العظيم فإن على الحكومتين السودانية والإرترية العمل على إزالة كل العوائق التي تحول دون حرية حركة المواطنين في البلدين وبينهما. ولا يكفي في هذه الحالة أن تقرر الحكومتان السفر بالبطاقة الشخصية فقط ، إذ أن الجميع يعلم أن الأساليب التي تتبعها الحكومات لتقييد حركة مواطنيها عديدة ومتنوعة.