اكتسبت قناة الجزيرة شهرتها و زخمها الاعلامي اساسا من تغطيتها الاعلامية للحرب ضد العراق و التي قادتها الولاياتالمتحدةالامريكية بتحالف ضم اكثر من ثلاثين دولة على دولة بسيطة من دول العالم الثالث. و من تغطيتها للحرب التي قادتها امريكا على طالبان افغانستان و التي غطاها مندوب الجزيرة تيسير علوني. اكتسبت الجزيرة شهرتها من هاتين الحربين، و لا احد ينكر التضحيات التي قدمها مراسلوها بأرواحهم لتغطية هاتين الحربين. هذه التغطية الاعلامية و التي نفذتها الجزيرة بشجاعة و بصورة شاملة، جعلتها في مقدمة القنوات الاعلامية و الاخبارية، بل كانت مرجعا لمعظم الفضائيات العالمية في نشر اخبار الحرب. ان الاثارة او الاهمية في كثير من الاحيان، قد لا تكون في الخبر الذي نقلته الجزيرة او في مصداقيته، بل كانت بشكل اساسي في وجود قناة الجزيرة في موقع حساس و خطر تهابه الكثير من الفضائيات الاخبارية. ففي كثير من الاحايين تطغى اثارة الخبر – بحكم الزمان و المكان و الوضع الحرج لمكان الخبر - على مصداقيته، و تعمي المشاهد او تذهب بتفكيره بعيدا عن التدقيق في صحة الخبر من عدمه. و اقرب مثال يمكن ان اقدمه عن ذلك، هو مقاطع فيديو لعسكر يضربون بقسوة لا مثيل لها، سجناء ادعت الجزيرة انهم ثوار يمنيون يعذبونهم جنود علي صالح، بينما ان مقاطع الفيديو هذه شاهدها الملايين قبل ثمانية اعوام مصورة من السجون العراقية. و لو اننا دققنا النظر في المقابلات التي يجريها مذيعو الجزيرة سواء كانت صوتية بالتيليفون او مرئية و مسموعة مع ضيوفها من الساسة و العلماء و صناع القرار، او دققنا النظر في كيفية اجراء الحوار في برامجها الحوارية كالاتجاه المعاكس، يمكننا ان نلاحظ الكثير من عدم الاحترافية في طرح الاسئلة او اجراء الحوار. و يمكنني ان ادلل على ذلك بهذه الملاحظة، و هي في الغالب ان ينهي مذيع الجزيرة مداخلة ضيفه قبل ان يكمل الضيف حديثه او رايه، مما يضع الضيف في وضع محرج بسبب عدم توصيل ما ينشده الضيف للمشاهد. و هذه الحالة تكاد تكون متلازمة تدمغ غالبية مذيعي الجزيرة. و لا يفهم من تكرار هذه الحالات في تلفزيون الجزيرة الا بضعف الطريقة و الكيفية التي يصيغ و يعد بها مذيع الجزيرة اسئلته. فلو كان السؤال محددا و دقيقا و معدا بمهنية عالية، لما تجاوز ضيف الجزيرة الزمن المسموح به للسؤال. و من جانب آخر، لو كانت اجابة السؤال فعلا تحتاج لوقت طويل فمن واجب المذيع ان يوفر هذا الزمن للضيف في فقرته او برنامجه قبل ان يطرح اسئلته عليه. و لو اننا عدنا لتقييم كيفية ادارة الحوار، فيمكننا ملاحظة ان عدم الاعداد الجيد للبرامج يفسد الحوار. و اذا نظرنا لأشهر برامج الجزيرة حوارا و هو الاتجاه المعاكس، تجد ان المشاهد يتابع فيه و كانه يتابع نقاش بين مشجعين متعصبين لانديتهما في كرة القدم، فالمعروف ان جماهير كل فريق تشجع فريقها غالبا او مغلوبا، لعب باحترافية عالية او لم يلعب. فمثلا لو ان معد البرنامج و بالاتفاق مع ضيفيه المتعاكسين وضع او اسس معايير و مؤشرات لتقييم راي كل اتجاه، و ابتدع منهجية – ليس لإدارة الحوار فقط – بل لتقييم نتائجه بعد انتهاء الحلقة لكانت الفائدة اكبر للمشاهد. و في هذا يمكن ان يستعين مقدم البرنامج بلجنة تحكيم مؤهلة و قادرة على تلخيص اراء الطرفين و تقديمها للمشاهد كقطعة موز مقشرة. و هناك مسالة مهمة قد تهدد مستقبلا قناة الجزيرة كقناة فضائية اخبارية محايدة، و هي مسالة تفنن الجزيرة في انتقاء الاخبار و المقابلات التلفزيونية و الوجوه و الصور التي تروقها و تروج لها، و الاهمال الكامل لما عداها من اخبار و وجوه و صور، و التي قد تفوق كثيرا اهميتها ما تصطفيه الجزيرة. و ابسط مثال يمكن ان يقدم لذلك هو المبالغة في تغطية اخبار سوريا، و التعامل ببرود شديد لما يجري في السودان و اليمن و البحرين. و مثال آخر للتجاهل، ابتعاد الجزيرة عما يجري من مظاهرات و اعتصامات في جميع انحاء السودان، دون ان تنشر اخبارها الجزيرة على مدار الساعة كما تفعل كعادتها في تغطية الاخبار. فاعتصام اهل المناصير دخل يومه الخمسين و لا تعلم به الجزيرة او تتعامى عنه، فالمناصير ينامون في مكان اعتصامهم و يعالجون مرضاهم فيه، و يعدون طعامهم فيه و يصلون على موتاهم فيه. و لما انتقلت احتجاجات المناصير للخرطوم، تصرف امن الانقاذ تجاه المتظاهرين بقسوة تكون معها غزوة الجمل في ميدان التحرير نزهة. فقد دخل في منتصف الليل ستمائة من امن الانقاذ سكن طلاب جامعة الخرطوم و هم نيام، ليباغتوهم بالغاز المسيل للدموع و الهراوات و الرصاص المطاطي مسببين الأذى الجسيم و الكسور في اجسام عشرات الطلاب، و اعتقال العشرات في اماكن مجهولة، دون أن تشير الجزيرة إلى ذلك. و ان كان البوعزيزي باحراقه نقسه قد احرق معه بن علي، فان مواجهة المهندس محمد حسن البوشي المباشرة و وجها لوجه مع جلاد الانقاذ الاول و نائب رئيس المؤتمر الوطني نافع، قد احرقته و هو حي. نسال الله اللطف بالمهندس بوشي، فقد اخذه جلاوزة نافع الى جهة ما زالت مجهولة. ليت الجزيرة زارت امه لتنقل للعالم صورة المرأة السودانية البهية. و في الحادي و العشرين من اكتوبر الماضي و الربيع العربي في قمته و بعد يوم من مقتل القذافي في العشرين من اكتوبر من العام الماضي، تعمدت ان اتابع الجزيرة لأرى ما تقدمه في فقرتها (ذاكرة الايام). كنت اعتقد انها فرصة مواتية للجزيرة ان تعود بذاكرتها الى ثورة 21 اكتوبر المجيدة لما فيها من تجربة غنية في كيفية التنظيم و سلاسة انتقال السلطة من العسكر للشعب في تجربة رائدة و رائعة ، كان من الممكن لو سلطت عليها الجزيرة الضوء و كثفت من ايضاحها ان تكون عاملا مساعدا و موجها لثوار الربيع العربي و الحكام معا. لكن الجزيرة لا تحب ان تظهر مظاهرة سودانية في شاشاتها حتى لو مضى على هذه المظاهرة نصف قرن من الزمان كما في ثورة اكتوبر السودانية المجيدة. دفعني كل هذا، لأسأل نفسي ما هي العوامل و الاسس او المعايير التي تحدد بها الجزيرة اهمية الخبر؟ هل هي اهميته بالنسبة لها هي؟ هل لمكان و مصدر الخبر، ام لجهة اخرى لا يرى لها وجود في موقع الخبر؟ و لو اخذنا مواجهة البوشي الشجاعة و المباشرة لنافع كمثال، فهي قد لا تهم الجزيرة، او بالأحرى قد لا تروقها، و لكنها وجدت الاستحسان و القبول و التشجيع من مئات الالاف الذين شاهدوها حية او على اليوتيوب. و تنبع الاهمية القصوى لهذه المواجهة لدى السودانيين، في انها كانت مباشرة و قوية و صادقة، و من مواطن بسيط الى حاكم ظالم. ولو ان الجزيرة بثت هذه المقابلة و كعادتها على مدار ال 24 ساعة لإتاحة الفرصة للملايين من السودانيين الذين يحملون نفس الهم الذي يحمله البوشي لمشاهدتها. و لهذا فإنني اقول لقناة الجزيرة، احتراف مهنة الاعلام لا يعني بالضرورة ان تنشري ما يروقك، و لكن انشري ما يروق مشاهديك حسب اهمية الاخبار بالنسبة اليهم. توجه الجزيرة في دعمها الاعلامي للحركات السلفية و لجماعات الاخوان المسلمين لا يخفى على احد، فطاقمها من مذيعين و مقدمي برامج و مراسلين و مصورين يعج بالإسلاميين، فما حدث من سجن لسامي الحاج و تيسير علوني و انسلاخ غسان بن جدو منها الاّ شواهد على ذلك التوجه. و يبقى السؤال المهم: لم تدعم قناة الجزيرة السلفيين و الاخوان الاسلاميين اعلاميا، و لمصلحة من يتم هذا، و لماذا تتعمد تجاهل اخبار معارضيهم؟. لنا عودة ان شاء الله. م. عبدالله محمد احمد - الدمام ABDALLA F-ALMULA [[email protected]]