الأسبوع الماضي ، نشرت غالب صحف الخرطوم خبرا مفاده أن سلطات المرور أمرت بنشر أشخاص من ( مباحث المرور ) على ظهور حافلات النقل العام ، وذلك لضبط حالات مخالفة القانون والتجاوزات التي يرتكبها سائقو حافلات نقل الركاب . وعلى الرغم من أن الأمر - للوهلة الأولى – يبدو أشبه بما كان يتندر به الناس عن قصة ( المطار السري ) الذي أصبح موقعه محطة ينادي بها (الكماسرة) عندما تصبح الحافلة أو البص قبالته ، حتى يتهيأ الركاب للنزول ؛ الا أن المرء قد يجد حكمة غير بادية من نشر خبر كهذا !! الحكمة التي نفترضها ، هي أن الشرطة رأت أن تتخذ من النشر الصحفي وسيلة لردع سائقي المركبات العامة ، ودرء أخطار تهور بعضهم ؛ والراجح أنها – في حال كان افتراضنا صحيحا – اعتبرت أن الخبر سينتشر بين السائقين انتشار النار في الهشيم ، وأن أي واحد منهم سيعتبر أن من بين ركاب كل رحلة من رحلاته رجل من ( مباحث المرور) يتصيد أخطاءه ، وأنه عليه أن ( يلفح ) الحزام على كتفه كي يتجنب الوقوع في المصيدة !! هذا الجانب من القضية ، ذكرني بموضوع رسالة الكترونية كان يتداولها عدد من السودانيين مؤخرا فيما بينهم ، تتندر من حال قيادة السيارة في السودان ، والرسالة على سخريتها اللاذعة الا أنها تصور واقعنا في المدن وعلى طرق المرور السريع ؛ ولعله من المفيد استعراض ثلاث فقرات من تلك الرسالة التي اختار لها صاحبها عنوان : ( القاعدة الذهبية لقيادة سيارتك في السودان ) معتبرا أن تلك القاعدة هي أن تعامل ( كل السيارات الأخرى كخصوم وأعداء لك ) !! في فقرة الحديث عن اشارات الانعطاف توصي الرسالة بأن : ( لا تستعمل أي اشارة انعطاف ضوئية أو يدوية ، لأن في ذلك كشف لنواياك واتجاهاتك للأعداء ، واذا تطلب الأمر ، اعط اشارة لليمين ثم استدر يسارا أو العكس ) !! وفي فقرة خطوط المسارات الطويلة توصي الرسالة بأن : ( حاول دائما أن يكون خط المسار بمنتصف سيارتك .. هذه طريقة مثالية لحجز مسارين ، ففي حال خسارتك لمسارلصالح أحد الأعداء يبقى لك المسار الآخر ، مع وجود فرصة لاسترجاع المسار المفقود من الخصم ) !! وتتحدث الفقرة الثالثة التي اخترناها عن السير على الطرق السريعة ( الهاي وى ) وتوصي السائق بأن يضع سيارته في مؤخرة السيارة التي أمامه تماما ، ويتعمد أن يراه سائقها ، وحينها فغالبا ما يحدث واحد من ثلاثة احتمالات ، الأول : ( أن يفسح لك ذلك السائق المجال ، وحينها تكون قد حققت نصرا معنويا ، ولك أن تنظر له بعين استصغار وأنت تجتازه ) والثاني : ( أن يفسح لك المجال لاجتيازه ولكن حين تفعل قد تسمع بضع كلمات فيها أسماء حيوانات أو بعض الأهل أو أشياء أخرى ، ولابد أن تتوقع ذلك ) والاحتمال الثالث : فهو أن يختار السائق الذي أمامك أسلوبا آخر بأن يبدأ في الانعطاف نحوك ، ويحاول ضغطك على مطبات الطريق أو الأشجار ، وفي هذه الحالة توصي الرسالة بأن ( تترك حزام الأمان غير مربوط حتى تتمكن من النزول بسرعة وتبدأ معركة محدودة بأسلحة محلية ، وكن على أتم استعداد لمثل هذه الحالات مستفيدا من العصى والشواكيش وغيرها ) !! الجوانب التي وقع عليها اختيارنا من تلك الرسالة ليست أكثرها سخرية ، لكني قدرت أنها الأنسب لمقام حديثنا هذا ؛ ذلك أن الأمر في حقيقته جد لا هزل ؛ فالأرقام التي تحتويها سجلات الشرطة عندنا ، للخسائر البشرية والمادية الناجمة من ( حوادث السير ) أمر مهول ، وقد سبق لى أن كتبت عن ذلك في مقال نشر العام الماضي . صحيح أن الظاهرة التي نتحدث عنها هي ظاهرة عالمية ، لكن بلاد العالم الثالث هي الأكثر تضررا منها ، ويبدو أننا في السودان من بين البلاد الأكثر ابتلاءا بهذا الأمر . فتقرير منظمة الصحة العالمية بمناسبة اليوم العالمي للصحة حذر من ارتفاع نسبة حوادث المرور في البلدان ذات الدخل الضعيف او المتوسط إذا لم تتخذ الإجراءات الضرورية للحد منها ، معتبرا أن البلدان الأفريقية والعربية من اكثر المناطق عرضة لحوادث المرور في العالم. وفي محاولة لجلب الانتباه للإرتفاع المطرد في حوادث المرور في العالم خصصت منظمة الصحة العالمية اليوم العالمي للصحة الذي يصادف السابع أبريل لتوعية الجمهور لتعاظم مخاطر حوادث المرور وذلك بنشر تقرير تحت عنوان "التقرير العالمي عن الوقاية من الإصابات الناجمة عن حوادث المرور". إذ ترى منظمة الصحة العالمية أن حوادث المرور هي ثاني أكبر أسباب الوفيات في العالم فيما يتعلق بفئة الأعمار المتراوحة ما بين 5 و29 سنة. وأنها تعد ثالث أسباب الوفيات في العالم بالنسبة لفئة ما بين 30 و44 عاما. وتخلف حوادث المرور سنويا في العالم أكثر من 1،2 مليون قتيل إضافة إلى أكثر من 50 مليون جريح او معوق !! لكن المثير للانتباه في تقرير منظمة الصحة العالمية هو التحذير من مخاطر ارتفاع نسبة ضحايا حوادث المرور بحوالي 80 % بحول عام 2020، إذا لم تتوفر الأرادة السياسية لاتخاذ الإجراءات الوقائية الضرورية وبالأخص في البلدان ذات الدخل الضعيف او المتوسط . وإذا كانت الدراسة التي اعتمدت عليها منظمة الصحة العالمية والتي ساهم في إعدادها البنك الدولي ، قد استنتجت تحسنا ملحوظا في البلدان المتقدمة مثل كندا واستراليا والولايات المتحدةالأمريكية واوربا الغربية ، بتراجع نسبة حوادث المرور بحوالي 30%، فإنها تقرع جرس الإنذار بالنسبة للبلدان ذات الدخل المتوسط او الضعيف حيث يتعرض بالدرجة الأولى الراجلون وركاب الدرجات والدرجات النارية وركاب وسائل النقل العمومي لمخاطر حوادث الطرقات. وترى المنظمة الدولية أنه بالإضافة إلى العواقب النفسية لحوادث المرور، هناك عواقب مادية تقدر بأكثر من 65 مليار دولار سنويا أي اكثر بكثير مما تستقبله البلدان ذات الدخل المتوسط او الضعيف من المساعدة في مجال التنمية. وإذا ما شملنا نفقات حوادث المرور في كل بلدان العالم فإن ذلك يصل إلى حدود 518 مليار دولار سنويا . وتأتي المنطقة العربية في تقرير منظمة الصحة العالمية فيما يتعلق بإحصائيات حوادث المرور ضمن الفئة التي تحتل المرتبة الأولى مع الدول الإفريقية، والتي تصل فيها نسبة حوادث المرور بالنسبة لكل 100 ألف ساكن إلى ما بين 19 و 28%. وبإدماج نسبة وفيات حوادث المرور التي لا يتم الإبلاغ عنها، يعتبر تقرير منظمة الصحة العالمية أن نسبة الوفيات الناجمة عن حوادث المرور في المنطقة العربية قدرت في العام 2000 بحوالي 19,2% بالنسبة لكل مائة ألف ساكن. ويتوقع التقرير أن ترتفع هذه النسبة في عام 2020 الى حدود 22,3 %. هذه الأرقام المزعجة لجهة ارتفاع أعداد الخسائر البشرية والمادية ، كما أشرنا ، تتطلب تضافر جهود الكثيرين للحد منها ، وأول هؤلاء ( الكثيرين ) أولياء أمورنا على مستوى المركز والولايات ممن اذا ( صدمت ) سيارة في ( المالحة ) أدركوا أن الله سائلهم عنها ، وهم طالبي الرزق الحلال ممن يمتطون البغال والحمير والخيول ويسيرون وسط شوارع الاسفلت حتى وسط أحياء الخرطوم الراقية كالرياض والطائف والمنشية ، وهم فوق ذلك شرطة المرور نفسها ؛ التي يتعين عليها قيادة حملة توعية شاملة ؛ أولا لرجالها ممن ينتشرون في الطرقات ، وثانيا لمستخدمي الطريق ممن هم أمثالنا !! وحتى لا يكون كلامنا هذا وعظا بلا ارشاد ، فاني أعلن عن تبرعي بساعتين يوميا ، ولمدة شهر كامل ، لاصطحاب رجال ( مباحث المرور ) داخل سيارتي ، والسير بهم في شوارع يختارونها أو نختارها معا ، والاسهام معهم في تحديد حالات المخالفات المرورية ، كما أعلن عن استعدادي للاسهام مع زملائي الصحفيين في الدفع بحملة معاونة رجال المرور هذه ، ريثما تتمكن وزارة الداخلية من استيراد أجهزة الرقابة الالكترونية من رادارات وغيرها ، والفراغ من تركيبها ، لضبط المخالفات الكترونيا ؛ هذا اذا وافقت وزارة المالية مشكورة على الوفاء بقرار مجلس الوزراء الموقر في هذا الصدد !!