أنبأني من لا أشك في حكمته وسلامة عقله أن ولاية الخرطوم اكتشفت في ضواحي المدينة منجماً ضخماً لطوب الأرصفة (الإنترلوك)، ربما يكون الأكبر، والوحيد، من نوعه في العالم. وتُشير تقديرات إدارة "الجيولوجيا وثروات باطن الأرض" في الولاية أن المنجم الضخم يحتوي على نحو 500 بليون قطعة من طوب الأرصفة الذي يمتاز بالجودة العالية والمتانة، وبخلوِّه من الشوائب والهشاشة، مما يجعله جاهزا لللإستعمال دون معالجات تُذكر لرصف كل شوارع الخرطوم ومماشيها. وتبلغ قيمة هذا الكسب الضخم نحو مئات الملايين من الدولارات بأسعار اليوم (28 جنيها سودانيا للمتر المربع الواحد). وقد اختلف المراقبون في توقيت اكتشاف هذا المنجم وصلته ببرنامج الولاية الطموح لرصف كل شوارع الولاية بالطوب (الإنترلوك): هل شرعت الولاية في برنامج "أرصَفَة" الشوارع خصيصا لتصريف هذه الكميات المهولة من الطوب التي ساقها الله إليهم، أم أن اكتشاف منجم الطوب جاء بعد شروع الولاية في "الأرصَفَة"؟ كذلك اختلف المراقبون والفقهاء حول مبدأ "الأرصَفَة" نفسه: أيأتي في سلم الأولويات قبل العناية بالمجاري ومصارف مياه الأمطار، وجمع النفايات والتخلص منها، وإصحاح البيئة ، وإصلاح البيئة المدرسية، وتأهيل المرافق الصحية، وإصلاح الطرق المهترئة، وتيسير المواصلات العامة وغير ذلك من الخدمات التى ترى بعض البلدان أن لها أهمية قصوى للمواطن، وترى ولاية الخرطوم أنها أمور ثانوية لا تستحق إنفاق الأموال العامة عليها؟ أم أن الأرصَفَة أمر هام لبرنامج "الخرطوم عاصمة نظيفة – في بعض الأماكن، أحيانا" تضعها في مصاف المدن المتحضرة. {سألت المُعلمة التلميذات عن فائدة الأسنان، فأجابتها تلميذة نبيهة (لعلها الآن ضمن قيادات ولاية الخرطوم): "عشان نسوِّكها ونتفرّج عليها في المرايا!!"} كذلك أختلف المراقبون والخبراء الاقتصاديون حول ملكية المنجم: أهو ملكية عامة؟ أم أنه يقع في باب الذهب المتاح للتعدين الرسمي والعشوائي في آن معا؟ أم أنه ملكية عامة تمت مؤخرا خصخصتها اسوة بالشركات العامة العاملة في مجال الصرافة والانتاج الإعلامي وكراء السيارات (التي تمتاز بأسماء مميّزة) وغير ذلك من القطاعات الحيوية؟ أم أن ملكية مناجم طوب الأرصفة تخضع لمبدأ وضع اليد المُطبّق على الساحات والميادين العامة في المواضع الاستراتيجية في العاصمة الحضارية؟ وإذا آلت ملكية المنجم الضخم لأحدهم عن طريق الخصخصة أو وضع اليد، فمن هو سعيد الحظ الذي فتح الله له فتحا مُبينا وأعطاه من باطن الأرض رزقا لا ينقطع، يدوم ما دامت الولاية وبرامج الولاية المتجددة أبدا لجعل الخرطوم عاصمة حضارية! وكدأبها دائما، اتبعت الولاية المنهج العلمي التجريبي قبل أن تُطلق حملة الأرصفة الشاملة في المدينة. فقد بدأت أولا بحملة تجميل العاصمة و"تحضيرها" تحت قيادة طيبة الذكر "هيئة ترقية السلوك الحضري" التي أفلحت في تشويه المدينة باستخدام الأعواد البلاستيكية لتسوير أحواض الزهور في شارع النيل، وزرع سلال القمامة "ضامرة الحشا" في مناطق نظيفة أساسا في نفس الشارع وشوارع أخرى، ونصبت محطات البصات المصنوعة من الزجاج المُصمم لامتصاص الحرارة في جو الخرطوم القُطبي، وتزيين الحيطان في أماكن مغمورة بجداريات هي آيات من الفن البدائي، قبل أن يطويها النسيان مثل سابقاتها من المؤسسات التابعة للولاية. ثم بدأت الولاية في تجربة استخدام الطوب "الإنترلوك" في شارع (الكلاكلة القبّة) في تخوم الخرطوم الجنوبية، فرصفت مساحات شاسعة بين شارع الأسفلت والمنازل المتواضعة أو غير الموجودة أصلا، على جانبي الشارع لمسافة عدة كيلومترات، ما لبثت أن عادت إلى سيرتها الأولى تحت أكوام التراب، تحت شعار "من التراب وإليه"، وربما تُصبح يوما ما منجما يتم اكتشافه بعد عقود! المشكلة الوحيدة التي ما زالت تواجه سلطات الولاية هي ماذا ستفعل بالفائض الضخم من هذا الطوب بعد أن تفرغ من رصف كل الشوارع؟ وحين عجزت عن الخروج بحل مناسب للاستفادة من هذه الثروة القومية، دفعت بالأمر إلى "مجلس تعظيم مصلحة النظام – فرع ولاية الخرطوم" الذي أفتى، بعد تدبر عميق، واستخارة صادقة، بتوزيع الفائض من الطوب على مواطني الولاية مجاناً، بواقع طوبة لكل مواطن، ليشكو لها حاله في عقر داره (رغم أن الشكوى لغير الله مذلة). وقد قرر المجلس، حرصا على عدالة التوزيع، وترشيد الدعم الحكومي، وضمان وصوله إلى المحتاجين فعلا، ألا تشمل المنحة سعداء الحظ (الذين لا يشكون همّاً ولا مسغبةً، والذين تعرفهم بسيماهم وسمتهم)؛ والوافدين من خارج البلاد (الذين تكفيهم نعمة العيش في سودان الخير)، والمغتربين، والغارمين (نسبة لتغيبهم خارج البلاد ورفضهم دفع الزكاة)، وفي الرِّقاب (نسبة لقرار إلغاء الرق الذي اتخذته حكومة السودان الإنجليزي المصري قبل قرن ونيف!)