لم تكن هزيمة او فشل تجربة الإخوان المسلمين السياسية في إدارة نظام الحكم في مصر هي الأولى في التاريخ المعاصر لكن قطعا هي الأبرز والأكثر قراءة واستقطابا للمراقبين والرأي العام لاسيما ان (الإخوان) لم يأتوا الى الحكم بدعم جماهيري واسع ولا ظروف مهيأة للانتخابات ولم يكن لهم – حسب رؤية الكثيرين- أي دور فاعل وملموس في إشعال فتيل وإدارة الانتفاضة الجماهيرية التي أطاحت بنظام حسني مبارك بل استغل (الإخوان) حرارة الشارع المنتفض وركبوا موجة الاعتراضات لقيادة المناهضين للنظام، ونظرا لتنظيماتهم الواسعة (الخفية والعلنية) وامتلاكهم لأموال وإمكانيات طائلة فقد حصل (الاخوان) على فرصة ذهبية للصعود الى سدة النظام سريعا من خلال التنسيق مع القوى الفاعلة خارج مصر والمساومة مع قادة القوات المسلحة فيما لم تكن للأحزاب والتيارات السياسية والجماهيرية أي تنظيمات قوية ومترابطة بل أكثرها تشكل ونشط خلال او بعد انتفاضة 25 يناير.ونظرا لصدق المثل القائل(من يصعد سريعا يسقط سريعا) فقد سقط نظام الإسلام السياسي للإخوان مع اندلاع أول شرارة الاعتراضات الأخيرة واستمرارها على مدى 3 أيام فقط وهي الاعتراضات المليونية العارمة التي جرفت بساط الإخوان ونظامهم الإسلامي السياسي الفاشل وغير قابل للتطبيق في مصر للأسباب التالية: *لم لكن للإخوان أي برامج سياسية واقتصادية وثقافية وفكرية قادرة على تغيير الأوضاع في مصر،أي انهم قاموا فقط بتغيير المسئولين والوزراء وقادة بعض أركان الدولة فيما بقت هياكل النظام السابق على شكلها وجوهرها ولم يقدم الإسلام السياسي للإخوان أي حلول اقتصادية واقعية لتحسين الأوضاع المعيشية المتردية لمعظم ابناء الشعب المصري بل أكدت تقارير إعلامية استمرار سوء الوضع الاقتصادي وانهيار العملة الوطنية وتفشي المحسوبية وانتشار الرشوة وهروب الرساميل وزيادة نسبة البطالة والتضخم واتساع رقعة النفاق السياسي والإعلامي وبالتالي عدم تلبية أي مطلب شعبي واستمرار غضب الجماهير التي كانت قد انتفضت من اجل التغيير الجذري وإصلاح الوضع العام وليس تغيير مسئولي الحزب الوطني بجماعة الإخوان * لم يغير الإخوان سياسة التعامل غير المتكافئ مع أمريكا و إسرائيل وسائر الدول التي تدخلت وتتدخل في القرارات المصيرية لمصر فاستمرت تبعية الحكومة المصرية للمعونة الأمريكية وعارض الإخوان قطع العلاقات مع إسرائيل او حتى إيقاف ضخ الغاز المصري الرخيص لها،في حين كان من مطالب الجماهير المنتفضة ومنهم أنصار الاخوان إغلاق سفارة إسرائيل في القاهرة وطرد السفير الإسرائيلي وعدم القبول بالمعونات الأمريكية المشروطة والتهديدات الأوروبية الصارمة لاي نظام يحكم مصر بكيفية التعامل والتساوم مع إسرائيل. *تناسي الإخوان بعد وصولهم لسدة الحكم في مصر انهم ينتمون سياسيا واقتصاديا وثقافيا الى الأمتين الإسلامية والعربية وبدلا من المساهمة في إيجاد حل جذري وسريع للازمة في سوريا بادر إخوان مصر بقطع العلاقات مع دمشق تلبية لطلب "الإخوان" في سوريا.والاهم من ذلك صار إخوان مصر يدعمون جماعات مماثلة لهم في العديد من الدول العربية حيث أحست تلك الدول الخطر عليها من الإخوان في مصر والجماعات المتطرفة في بلدانهم خاصة وان بعض تلك الدول لها تنظيمات شبيه او مطابقة (للإخوان) في الأركان الحكومية الامر الذي ادى في نهاية المطاف لسحب الدعم العربي بشكل شبه كامل للإخوان في مصر وإعلان الارتياح والاحتفال بإزاحة واعتقال محمد مرسي بل و ان العديد من الدول سارعت لتقديم مساعدات ومنح مالية عاجلة للمسئولين الجدد في مصر بعد الإطاحة بمرسي و الإخوان حيث فاقت تلك المنح 15 مليار دولار مساعدات عاجلة لمصر خلال يوم واحد!. لم يسمح الإخوان وكعاداتهم السابقة مشاركة الأحزاب الأخرى في الحكم بل اعتمدوا على أنصارهم وجماعاتهم في الداخل و راحوا يكيلون الاتهامات الجوفاء قادة الأحزاب المنافسة لهم بأنهم عملاء للأجانب والعرب او انهم علمانيون و ان الإخوان أكثر وطنية لمصر وحرصا على مصالح المصريين من سائر التيارات الاخرى وهددوا بل وطبقوا قوانين وأساليب قمع المعارضين والمنافسين لهم و زعموا زيفاً من ان الجماهير هي التي اختارتهم دون غيرهم و انهم جاءوا الى سدة الحكم بفعل انتفاضة الجماهير التي كانت تملأ وتغطي مناطق ميدان التحرير، و تناسوا من ان هذه الجماهير نفسها هي التي أطاحت بنظام مبارك وهي ايضاً قادرة على الإطاحة باي نظام سياسي غير كفء و غير جدير بالحكم حتى وان كان يرفع شعار تطبيق الشرع الديني. هذه الأسباب و غيرها وراء الإطاحة بنظام الإخوان في مصر و لكن يا ترى ماذا بشأن أنظمة الإسلام السياسي الأخرى و ماهو مصير هذه الأنظمة وهل سيكون مشابهاً لجماعة الإخوان في مصر؟. نشير هنا الى بعضها: * التجربة الأفغانية: من أسوء تجارب الإسلام السياسي و احلكها ظلاماً هي التجربة الأفغانية حيث نما الإسلام السياسي المدعوم أمريكيا عقب الغزو السوفيتي لأفغانستان. و كانت سياسة واشنطن آنذاك عدم التدخل المباشر لتغيير الأوضاع في بلدان المنطقة و الدفاع عن مصالحها عن بعد، فدعمت الجماعات الإسلامية المختلفة نوعاً وشكلاً وفكرا، و ترعرعت في أحضان أمريكا آنذاك العديد من هذه الجماعات ومنها القاعدة والمجاهدين وطالبان وجند الله وغيرها من الأسماء المخادعة التي تصور الكثيرون في العالمين العربي والإسلامي ان هذه الجماعات على صواب وانها تمثل الإسلام الثوري لانها تقاتل الشيوعيين الكفرة دون رؤية التدخل والدعم الأمريكي الخفي والعلني لتلك الجماعات الإسلامية. والغرب عموماً لم يكن يتصور ان هذه الجماعات سترتد يوماً ضد مصالحه وتهدد أمنه بعد جلاء الغزو السوفيتي من أفغانستان. ونظراً للدعم المادي و العسكري الهائل للجماعات الإسلامية في أفغانستان و باكستان استطاعت جماعة طالبان في مراحل لاحقة من التغلغل في أفغانستان وتشكيل نظام إسلامي سياسي مدعوم مادياً و فكرياً بالقاعدة (الجزيرة العربية) وجماعة التكفير والهجرة (مصر وشمال إفريقيا)، ورأينا بعد ذلك كيف طبقت طالبان المتخلفة سياسياً و فكرياً مع القاعدة أسوء الأنظمة السياسية والدينية في أفغانستان و شوهت هذه الجماعات صورة ووجه الإسلام بشكل لا سابقة له وحتى ان احد المفكرين الصهاينة قال في هذا السياق: لو كنا أنفقنا الف مليار دولار لتشويه الإسلام لم نكن نحقق مثل هذه النتيحة كما فعلت ذلك جماعة طالبان و ... " * التجربة الإيرانية: قطعاً لا يمكن اختزال التجربة الإيرانية في الحكم السياسي بحديث عابر او عدة جمل لكن الوضع في ايران يختلف تماماً عن سائر الدول العربية و الإسلامية لعدة أسباب منها: ايران بشكل عام تمثل قطب الشيعة في العالم و ان الكثيرين من الشيعة في العالم يعتقدون بضرورة إبقاء هذا القطب فاعلاً و صامداً لموازنة و منافسة الفكر السنّي والجماعات السلفية والفرق الإسلامية في العالم و بعبارة أخرى ان إيران تعتبر الوحيدة الناطقة باسم شيعة العالم ولا بديل لها حتى مع دول فيها أكثرية شيعية مثل العراق او لبنان. ومن هذا المنطلق و الإطار العام لا يمكن بسهولة نقل تجربة الإسلام السياسي بصيغتها الإيرانية الى دول أخرى للسبب الذي اشرنا له (القطب الشيعي) ونظام ولاية الفقيه الذي يتحدد ويخص ايران حاليا ولا يمكن ايضاً تهديد إسقاط هذه التجربة بشكل فوري او نقل تجارب دول المنطقة من انتفاضات واعتراضات الى إيران بسهولة. والعامل الآخر في ثبات و استمرار هذه التجربة هي ان الثورة الإيرانية قامت بتغييرات جذرية في تغيير الشكل والمحتوى لأركان النظام والسلطة والحكم السابق ووازنت بين الدين والقومية (الوطنية) ولم ترجح أي طرف على الآخر ، وأبقت الثورة الإيرانية على لعبة إجراء الانتخابات المتتالية بالرغم من سعي تيار متطرف في النظام لاحتكار السلطة ومنع مشاركة التيارات الأحزاب المنافسة له. و أكدت التجربة الإيرانية على ضرورة الحفاظ على الأمن الداخلي وحاولت إثبات نظرية ان النظام السياسي والديني في ايران يحكم في إطار دولة قوانين شرعية ومدنية ودستور يتحكم به نواب الشعب. ومع ان هناك بعض الإشكاليات في تطبيق النظام الجمهوري بالمفهوم الذي نعرفه من خلال المنظار والمنطق الغربي "فيما يتعلق بالديمقراطية و الحرية و احترام رأي المعارضة والسماح لجميع الأحزاب بالنشاط السياسي و الإعلامي المتكافئ" فان الإطار العام لتجربة النظام السياسي للثورة الدينية في ايران هو اطار لا يمكن مقارنته بتاتاً بتجربة طالبان أفغان او إخوان مصر او الجماعات الإسلامية في ليبيا او الجماعات المتطرفة في العديد من الدول العربية والإسلامية، لان أركان النظام السياسي الديني في إيران يعتمد على هذه القاعدة الأساسية وهي ان مراجع (شيوخ) الدين هم الذين يشرعون القوانين ويديرون أركان البلاد و يعينون المسئولين السياسيين في الدولة على عكس تماماً في أنظمة الدول العربية و الإسلامية الأخرى التي يتم بموجب قرارات صادرة عن المسئولين السياسيين تعيين مناصب رجال (شيوخ) الدين ومسئولياتهم و كيف يتحدثون للرأي العام من خلال المساجد والمنابر . * التجربة التركية: تجربة الإسلاميين في تركيا هي أشبه قليلاً بتجربة الإخوان في مصر مع فارق ان الأتراك عموماً يجتمعون على ضرورة الحفظ على مصالحهم المادية ووطنيتهم المفرطة. والوجه المشترك مع إخوان مصر هو ان قادة الجيش والقوات المسلحة هم الذين يتحكمون بمصير البلاد وهم يسيرون الأوضاع السياسية بشكل غير مباشر من وراء ستار الحكم، مع فارق ان النظام السياسي الديني في تركيا يقر ويعتمد في السلطة والقانون على العلمانية بمفهومها الغربي والمنمق ببعض المقررات الدينية وتقييد رجال الدين و حصرهم في المساجد والمقابر كما تفعل العديد من الأنظمة العربية و الإسلامية. ويتشدق هذا النظام بتطبيق الديمقراطية والدفاع عن حقوق جميع الأتراك الا انه لم يطق مؤخراً اعتراضات سلمية اندلعت في اسطنبول ومزق هذا النظام سريعاً ميثاق الديمقراطية و قمع المعارضين وكشر عن وجهه القمعي القبيح بعدم تحمل أي نوع من المعارضة وواصل سياسة البطش والتنكيل بالقوميات غير التركية او التيارات التي تنادي بالمزيد من الحريات السياسية والدينية والحقوق القومية الخاصة بها. ******* عصارة الكلام لهذا البحث : انه لا يمكن تعميم فشل نظام حكم الإسلام السياسي على جميع الدول بل من الضروري تقييم كل نظام في بيئته السياسية و الاجتماعية والفكرية. فلكل بلد ونظام شكله وسياسته ونظامه الخاص به مع فارق رؤى ومواقف وثقافة وفكر كل شعب في أي بلد عن بلد اخر من الصعب جداً تطبيق نظام سياسي ديني متعارف عليه في أي من الدول العربية في الظروف الراهنة لسبب مشهود وهو ان الجماعات الدينية في هذه البلدان اما انها منقادة و تابعة لأنظمة سياسية في المنطقة والعالم او انها تملك فكراً تكفيرياً و متطرفاً لا يمكن القبول به كنظام سياسي لفترة زمنية طويلة لانه فكر منحط و غير حضاري ولا يستطيع تحقيق أي من أهداف و مطالب عموم الجماهير في المجتمعات المدنية. كل نظام سياسي مهما كان ديني او غير ديني يعتمد بالأساس على قدرات وسلطات القوات المسلحة مهما كانت وطنية وتدّعي الدفاع عن سيادة البلاد فان هذا النظام معرض للانهيار والسقوط او على الأقل الانقلاب عليه من جانب قادة القوات المسلحة الذين يدافعون فقط عن مصالحهم فقط و أكثر هؤلاء مرتبطين بالأجانب او لا فهم شرعي ولا إدراك سياسي لهم ولا يعيرون أي أهمية للديمقراطية والحرية الواقعية. تجارب الجماعات او الأنظمة السياسية الدينية فشلت عموما لاعتمادها على دعم ومساعدات دول أخرى وهذه الجماعات تفتقد لتجارب إدارة الحكم السياسي ولا حلول لها للازمات اقتصادية و تسعى لفرض أفكارها ومواقفها وبرامجها بالإكراه والإرعاب على سائر التيارات والمواطنين مما يجعل هذه الجماعات مطرودة وغير مقبولة لإدارة أي نظام سياسي في دول المنطقة والعالم على الأقل في العقود القادمة في حالة استمرار تقلص التدخل الأجنبي المباشر في شئون دول المنطقة والتحكم بمصير الشعوب ******* بقلم الصحفي: خليل إبراهيم عبد الرحيم للتواصل: [email protected]