بحضور وزير الداخلية ومدير الجمارك.. ضبط (141) كيلو جرام من مخدر الآيس    رئيس نادي المريخ السوداني يكتب تدوينة متفائلة قبل مواجهة فريقه المصيرية أمام الجيش الملكي    شاهد بالفيديو.. أموال طائلة "مشتتة" على الأرض بإحدى الطرق السفرية في السودان ومواطنون يتسابقون على جمعها ويفشلون بسبب كمياتها الكبيرة    شاهد بالفيديو.. على أنغام "سوي كدة لمن يسحروك".. الفنانة هدى عربي تشعل مواقع التواصل بوصلة رقص مثيرة خلال حفل زواج أسطوري بالقاهرة وشاعر الأغنية يكتب لها: (الله يفرحك زي ما فرحتيني)    شاهد بالصور.. الشاعرة داليا الياس تخطف الأضواء على مواقع التواصل بلقطات وسط جنود الجيش: (أنا زولة بحب الجيش جداً وأي زول بيعرفني كويس عارف إني كنت شرطية في يوم من الأيام)    السودان تزايد الضغوط الدولية والبحث عن منابر جديدة للتسويف    على مراكب الغباء الكثيرة الثّقوب: دولة 56 والحمولات القاتلة    ارتفاع معدل التضخم إلى 218% في أغسطس    شاهد بالصورة.. من أرض المعركة إلى أرض الملعب.. مستنفر بالقوات المسلحة يوقع في كشوفات أحد الأندية الرياضية وهو يرتدي الزي العسكري    شاهد بالصور.. الشاعرة داليا الياس تخطف الأضواء على مواقع التواصل بلقطات وسط جنود الجيش: (أنا زولة بحب الجيش جداً وأي زول بيعرفني كويس عارف إني كنت شرطية في يوم من الأيام)    "يقابل بايدن وهاريس" الذكاء الاصطناعي والاقتصاد وغزة والسودان.. "أولويات" في زيارة بن زايد لواشنطن    موجة الانفجارات الجديدة في لبنان تشمل الهواتف وأجهزة البصمة وأجهزة الطاقة الشمسية وبطاريات الليثيوم    وزير الداخلية المكلف يلتقى بمكتبه وفد تنسيقية الرزيقات بالداخل والخارج    عاد الفريق حسب الي مكتبه برئاسة الجمارك .. ويبقي السؤال قائماً : من يقف وراء مثل هذه القرارات؟    المريخ يواصل التدريبات وعودة قوية الي رمضان    عثمان جلال: الواثق البرير ما هكذا تورد الإبل    أطهر الطاهر ضحية الانتقادات الإعلامية والجماهيرية    (كونوا بخير ياأسياد فكل المخاوف في هلالكم أمان)    نقل الرئيس السابق ورفاقه الى مروي لتدهور حالتهم الصحية    والي الخرطوم: تلقينا طلبات من منظمات لاعادة اعمار الولاية    توضيح من شرطة ولاية نهر النيل    هل تنقذ المدرسة الإيطالية أحلام رونالدو؟    باليوم والتاريخ وتحت شعار "وداعاً لن ننساكم".. قائمة طويلة بأسماء مشاهير سودانيين "شعراء وأدباء وفنانين ولاعبي كرة وسياسيين" بلغ عددهم 43 شخص فارقوا الحياة بعد نشوب الحرب في السودان    نصيحة لصلاح.. ستصبح "الأفضل" في تاريخ ليفربول    شاهد بالفيديو.. الكوميديان محمد جلواك يسخر من الحسناء "لوشي": (أنا الحمدلله بي أولادي انتي شوفي ليك "شوكلاتة" أزرعيها) وساخرون: (ضربو يا حكم)    حادث درنة الليبية.. مصرع 11 عاملًا مصريًا وإصابة 15 آخرين .. تفاصيل    خروج 8 من ماكينات غسيل الكُلى عن الخدمة بمستشفى المُجلد المرجعي    التعادل السلبي يحسم قمة مانشستر سيتي وإنتر ميلان في دوري أبطال أوروبا    وزير المالية الإتحادي يواجه ما يمكن تسميته بتضييق مساحات الحركة واللعب    هل يمكن تفجير الهواتف المحمولة مثل "البيجر"؟.. خبير "تكنولوجيا" يجيب    ضبط بكاسي تحمل كربون نشط ومواد    العلاج الوهمي.. مخاطبة العقل لمقاومة الأوجاع    محجوب فضل بدري: أنقذو عبد الرحيم    تمشيط أحياء واسعة بالأبيض من قبل قوات العمل الخاص    دراسة تكشف التغيرات بدماغ المرأة خلال الحمل    الشاعر والحرب.. استهداف أزهري أم القصيدة؟    وفاة الموسيقار حذيفة فرج الله    إدانة رجل في هونغ كونغ.. بسبب قميص "مثير للفتنة"    شيخوخة السكان.. كيف أثرت على اتجاهات شركات الأغذية؟    المرصد السوداني يدين قصف طيران الجيش للمدنيين وتدمير البنى التحتية    ترامب: خطاب بايدن وهاريس هو السبب في إطلاق النار عليّ    جابر يوجه بتكثيف العمل فى تأهيل طريق القضارف الحواتة    متحور جديد لكورونا يثير المخاوف.. هذه أبرز أعراضه    شاهد بالفيديو .. "شالو نومنا وشالو نعاسنا شالو روحنا وشالو انفاسنا" أداء رائع بمصاحبة الكمان    حوجة البشرية للاقتصاد الاسلامي، وقصة إنشاء بنك فيصل الاسلامي    ضحايا ومصابون بحادث تصادم قطارين في الزقازيق    500 يوماً مناصفة بين مناطق الجيش والدعم السريع (5)    القضية هزّت البلاد..محكمة تركية تصدر قرارها    لجنة أمن ولاية الخرطوم تؤكد إستقرار الوضع الجنائي وتتخذ تدابير لمكافحة الظواهر السالبة    ترامب: المناظرة أمام هاريس لم تكن منصفة بحقي    الداخلية السودانية تصدر قرارا    الحرب وتضخم الأسعار    مساعد البرهان يبشّر بتشغيل باخرة نيلية بين السودان ومصر    القبض على سعد الصغير في مطار القاهرة    دار الإفتاء توضح حكم التطوع بالصيام فرحا بمولد النبى الكريم    نُذُرُ الموت    مصطفى ميرغني: جنازة الخوف    أبناء المهاجرين في الغرب وتحديات الهوية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دفاتر الديمقراطية البرلمانية الثالثة (20 و21) .. بقلم: مصطفى عبد العزيز البطل
نشر في سودانيل يوم 21 - 07 - 2013


[email protected]
*** الحلقتين العشرين والحادية والعشرين****
* الحلقة الحادية والعشرين**
إذا سألتني، أعزك الله، عن إجابة واحدة واضحة ومستقيمة على السؤال: لماذا فشل لقاء رئيس الوزراء الصادق المهدي مع رئيس الحركة الشعبية جون قرنق، فسأقول لك على الفور: غالي والطلب رخيص، هاك الاجابة: اللقاء فشل لأنه لم يتم اصلاً. وكيف تكون هناك نتيجة ايجابية لمباحثات لم تحدث ابتداءً؟ جميعنا يعلم أن المباحثات بين الرؤساء والقادة وذوي الهيئات من السياسيين تتم في الأصل رأساً لرأس. في أغلب النماذج يكون هناك لقاء ابتدائي بين الزعيمين المتباحثين في حضور آخرين تناقش فيه بعض الخطوط العريضة، ثم يلج الزعيمان الى غرفة مغلقة. او يخرج الموجودون من ذات الغرفة، فيكتمل الجزء الثاني والأساسي من اللقاء. يكون هذا اللقاء في العادة وجهاً لوجه، بحضور مساعد واحد من كل جانب أحياناً، وفي احيان اخري كثيرة لا يكون هناك مساعد، بل يتباحث الطرفان رأساً لرأس. وهذا الجزء الثاني والاساسي لم يحدث في حالة لقاء السيدين الصادق المهدي وجون قرنق. ما الذي حدث إذن؟
الذي حدث هو ان الزعيمين جلسا في تلك الغرفة المكتظة، وسط ذلك الحشد الحاشد من نقابيين وموظفين حكوميين وثلة من الحركة الشعبية (أحد أفرادها مصاب بلوثة عقلية وفق شهادات طبية). يذكرك المنظر بالجموع التي تجلس فوق المساطب امام البيوت في الامسيات. جوقة من الجالسين وكلام ينثر في الهواء بغير نظام. السؤال الاكثر اهمية الذي ينتصب هنا هو: لماذا لم تجر المباحثات كما ينبغي اذن، ولماذا لم تتبع الاصول المرعية في مثل هذه اللقاءات؟ لماذا لم يلتق الزعيمان وجهاً لوجه حتي يسهل التخاطب وتقوم الثقة وتتوالي النتائج والخلاصات؟!
الاجابة على سلسلة الأسئلة الأخيرة هي أن العقيد جون قرنق رفض فكرة اللقاء المباشر مع المهدي. أى والله رفض. بعد حوالي نصف ساعة من الكلام السائب، رأى رئيس الوزراء أن الوقت قد حان لعقد جلسة مغلقة لحوار جاد بينه وبين قرنق، تتم خلالها المواجهة المنتظرة بينهما ومعالجة القضايا بصورة جادة. طلب رئيس الوزراء من قرنق ان ينتقلا الى مرحلة الحوار المباشر، كما هو متوقع، وكما هي العادة في مثل هذا النوع من اللقاءات. المفاجأة الكبرى جاءت عندما رد قرنق، بلغة انجليزية مبينة لا عوج فيها، بأنه لا يرغب في لقاء مباشر. وإذا أراد رئيس الوزراء التباحث فليتباحث وسط هذه (اللمة). وكأني بالعقيد قرنق يقول: "كان عجبك عجبك، وكان ما عجبك مع السلامة"!
سألني الراحل العزيز الدكتور والتر كونيجوك وزير العمل بعدها بأيام (وكنت قد عرفته وصادقته قبل ان يتولى الوزارة، عندما كان ناشطاً سياسياً في عهد الحكومة الانتقالية قبيل الانتخابات). سأل: هل كانت للاجتماع أجندة؟ قلت لا. فثار في وجهي: "يا اخي اجتماع المجلس الشعبي لا بد له من اجندة فكيف تعقدون اجتماعا لرئيس الوزراء مع العقيد قرنق بدون أجندة؟" لم يجاوز الرجل الحق. ولكن السؤال، ضمن الأسئلة التي لا تنتهي ينتصب مرة اخرى: وكيف توضع أجندة لاجتماع لا يعرف أحد، حتي قبل سويعات من انعقاده، عما اذا كان سينعقد ام لا؟ لم تكن هناك معلومات قطعية بأن قرنق موجود في أديس أبابا. مجرد كلام وظنون واحتمالات. الوسطاء، وعلى رأسهم الدكتور تيسير محمد أحمد، كان همهم الأول والأخير هو وفاء قرنق بعهده لهم. فقط لا اكثر ولا اقل. الذي تابع أحداث تلك المرحلة يعرف لزوماً أن جون قرنق كان يستمتع ويتلذذ بحال الشخصيات الشمالية البارزة التي كانت تتردد على أديس أبابا وغيرها بأمل ملاقاته. كان هو ومعاونوه بارعون في إعطاء الاشارات بأنه وافق على لقاء فلان أو علان من السياسيين، فتملأ وسائط الاعلام الدنيا ضجيجاً عن اللقاء المرتجى. وعندما تجئ اللحظة المقررة وتسلط الكاميرات وتحبس الانفاس، يأتي من يقول بأن قرنق ليس موجوداً، بل هو في (مناطق العمليات). وهنا تستجمع الشخصيات أطراف هيبتها المهدرة وتعود ادراجها الى الخرطوم.
بدا وبوضوح لا تخطئه العين عند لقائنا بالعقيد قرنق في أديس أبابا أن الرجل ممتلئ بالغرور، حتي ليكاد الغرور يتدفق من بين جنبيه، وشديد الاحساس بذاته: اشترط للحضور ان يلتقيه السيد الصادق المهدي بصفته رئيسا لحزب الامة، لا بصفته رئيساً للوزراء، لأنه لا يعترف بالانتخابات التي أتت به. ثم وكالمعتاد اخذ يداور ويناور دون ان يعطي اشارة حاسمة بأنه سيأتي لمكان اللقاء حتي اللحظات الاخيرة. ثم دبر مع مخابرات منقستو أن يحضر السيد الصادق المهدي الى مكان اللقاء اولاً، فيجلس منتظراً حتي يحضر هو. وفي ذلك ما يلبي نزعة الفخر عنده بطبيعة الحال (دبر الراحل لوران كابيلا مع المخابرات الفرنسية أن يحضر الرئيس موبوتو الذي سعي للتفاوض معه عندما أحدق الثوار بالعاصمة كنشاسا الى مكان اللقاء قبله وينتظر لساعة كاملة، ثم حضر لوران كابيلا بعد ذلك). وأخيراً وبعد ان تفضل قرنق بالحضور، وجرت المصافحة والحديث الابتدائي بين الزعيمين، عاد فرفض في عنجهية وصلف ان يلتقي برئيس الوزراء وجهاً لوجه، واشترط ان يكون اللقاء وسط الحشد، وهو يعلم ان فرص الحوار الجاد تتضاءل وتنتفي في محيط واسع مثل ذاك.
ثم لجأ اخيراً الى التدليس والكذب الصراح، فقال في حديثه للمؤرخ الدكتور عبد الماجد على بوب أن رئيس الوزراء لم يحسن الإصغاء اليه. وتلك لعمر الحق فرية في عرض سور الصين العظيم. فلقد والله أحسن حفيد المهدي الأصغاء، واستمع بصبر نادر الى كل التخاليط والخربقات، ما يثير الضحك منها، وما يبعث على الرثاء. يكفي ان قرنق أضاع وقتاً عزيزاً وهو يحتج على رئيس الوزراء ويأخذ عليه انه استخدم في وصف الحركة الشعبية في بيانه امام البرلمان لفظ (المحاربون). بح صوت المهدي وهو يحاول ان يشرح لقرنق أن كلمة (محاربين) في اللغة العربية كلمة محايدة، لا تحمل وصفاً سيئاً، وانها افضل من (متمردين) و(خوارج) التي كانت تستخدم في الماضي. ولكن قرنق فيما يبدو ما كان ليرضيه من رئيس الوزراء إلا ان يقف أمام البرلمان فيقول في وصف مقاتلي الحركة: "الثوار المناضلين النشامى"!
لله سبحانه وتعالى ولا شك حكمة في أنه نسأ في آجالنا، فعشنا حتى سمعنا بآذاننا ورأينا بعيوننا كيف أن بطل (السودان الجديد) العقيد جون قرنق الذي أدمن الغطرسة وأوغل في التطفيف من أقدار رجال الديمقراطية الذين أتى بهم شعب السودان عبر انتخابات حرة مشهودة، واستهزأ بالتجمع الديمقراطي وحكومة النقابات التي افرزتها ثورة رجب ابريل، وتلذذ بالتمنع عن الحضور لمقابلة الوفود تلو الوفود، عاد فأرتد على عقبيه وعرف أن الله حق بعد استولت العصبة المنقذة على مقاليد السلطة!
أليس غريباً ان قرنق الذي استهان بالديمقراطية ومؤسساتها ورفض أن يضع يده في يدها، عاد فتحول وتبدل، بعد ان تبدلت الدنيا من حوله، فجاء الى كل لقاء له مع فتية العصبة المنقذة بعد ذلك في المواعيد المضبوطة تماماً، لم يتأخر دقيقة واحدة؟ أليس غريباً حقاً أنه أقلع تماماً وفجأة عن عادة الاختفاء، كما درجت العادة عنده، ثم الزعم بأنه (في مناطق العمليات) مثلما كان يفعل في عهد الديمقراطية؟!
قيل أن جون قرنق كان يحضر – متأدباً - لمقابلة شيخ الانقاذ على عثمان محمد طه، ويجلس في مقعده قبل موعد اللقاء بدقائق خمس. ليس ذلك فحسب، بل أنه أحضر معه ذات مرة زوجته وأولاده وطلب منهم أن يسلموا على شيخ الانقاذ، عينه الذي انقلب على الديمقراطية، واستولى على الحكم عنوةً واقتداراً.
وقديماً غني المغني: "حكمة والله وحكاية"!
*** الحلقة العشرون ****
(1)
أشرنا في الحلقة التاسعة عشر الى بعض مظاهر الغطرسة وسوء الخلق والتفلت كما ظهرت عند بعض أعضاء الوفد الذي اصطحبه العقيد جون قرنق لمفاوضة رئيس الوزراء في اديس أبابا. وقد كانت المعلومة متداولة عن أن رئيس أركان جيش الحركة وليام نون مصاب بمرض عقلي يفقده القدرة على الاستماع والحوار الموضوعي. ولعل في ذلك ما يفسر جلوسه في وضع واحد لم يتغير لعدة ساعات منكفئاً الى أسفل، وقد زمّ شفتيه وقطب حاجبيه وعقد يديه. وكما سبقت الاشارة، فقد كان أول وآخر حديث قاله بعد أن رفع رأسه، مخاطباً رئيس الوزراء: "لا تفلق رؤوسنا"!
(2)
كما أنني لم أجد تفسيراً لحالة الغضب التي طبعت سلوك الرائد أروك طون طوال ساعات اللقاء. ولم اعرف عما اذا كان ذلك الغضب حقيقياً ام مصطنعاً. وقد لاحظت عندما توقف الجانبان عن الحوار في استراحة قصيرة، حتي يصلي المسلمون من المشاركين، أن الدكتور تيسير محمد احمد انتحى جانباً بالرائد أروك طون في الغرفة المجاورة وحاول ان يتبسط معه في الكلام، وان يستدرجه الى شئ من الدعابة، بأمل تحسين مزاجه وحالته النفسية البادية الاضطراب (لسبب لا علم لنا به). وللأسف فإننا لم نر حصيلة طيبة لجهد الدكتور تيسير. بل بالعكس، فعندما حمل تيسير زجاجة من مشروب الكوكاكولا وحاول تقديمها بنفسه الى الرائد طون قائلا:" أروك .. تشرب كوكاكولا"؟ رفض أروك ان يمد يده، ورد بعصبية غير مبررة وبصوت مرتفع نسبياً: "أشرب كوكادام .. أشرب كوكادام". وأشاح بوجهه الى الجانب الآخر في اشارة واضحة الى انه لا يريد ان يحادثه أحد.
(3)
كوكادام، كما هو معلوم، اسم لمنتجع في اثيوبيا، التقي فيه وفد من الحركة وبعض الأحزاب الشمالية، حيث تم التوقيع على اتفاق مارس 1986، الذي ارتطم بصخور كثيرة، إذ لم تجتمع عليه كل القوى السياسية في الخرطوم. ولا أعرف معني (أشرب كوكادام)، اللهم الا اذا كان الرجل يقصد أن يعاير تيسير بفشل تلك الاتفاقية، باعتباره واحداً من مهندسيها، مستبطناً المثل الشعبي السائر بشأن طمس الأوراق (او الاتفاقيات) التي لا قيمة لها في الماء ثم احتساء الماء بعد ذلك.
والذي يرى ذلك الجموح والشطط وتصعير الخد من جانب أروك طون وبعض رفقائه ممن حضروا ذلك اللقاء، وهم يحاورون حفيد المهدي، يصعب عليه جدا ان يتصور كيف أن ذات الشخصيات ما لبثت، في تواريخ لاحقة، أن انبطحت أمام سلطة العصبة المنقذة انبطاحاً فاضحاً، وانكسرت امام جبروتها وسطوتها، ومشت في مناكبها، ثم لاقت حتفها داخل طائراتها، كما هو الحال مع الراحل أروك طون الذي قتل في معية المغفور لهما اللواء الزبير محمد صالح والعقيد ابراهيم شمس الدين، ضمن حادث الطائرة الشهير في ابريل 2001م.
(4)
وقد حيرني أنه حتي نيال دينق نيال، الذي اصبح في وقت لاحق وزيراً للدفاع في حكومة جوبا، وكان في يومنا ذاك موظفاً صغيراً، ضمن طاقم سكرتارية قرنق، ولم يشارك بطبيعة الحال في اللقاء بل وقف مع طواقم الأمن والمراسم والسكرتارية امام الباب خارج الغرفة، حتي تلك السمكة الصغيرة أرادت ان "تتفرعن" وتنفث عقدها النفسية حولنا. ونيال دينق هو إبن السياسي الجنوبي الشهير الراحل وليام دينق. وكان رئيس الوزراء قد تطرق عرضاً في اطار الحوار مع قرنق لصداقته مع الزعيم الجنوبي وليم دينق، فقاطعه قرنق ليخبره بأن إبنه هو ذلك الواقف أمام الباب بالخارج، فطلب المهدي حضوره ليسلم عليه. وعندما تم احضار الابن وخاطبه قرنق: "تعال يا نيال. سيد الصادق عايز يسلم عليك"، هش له حفيد المهدي وأظهر في وجهه كثيراً من الاريحية. ولكن الفتي مد يده بجفاء، يشبه جفاء منقستو الذي عرضنا له، وتعمد فيما يبدو ان يظهر مشاعر المقت من فوق تعابير وجهه! يا الله. ما هذا الحقد الذي ملأ قلوب هؤلاء البؤساء؟!
(5)
عرفت الدكتور حسن الترابي معرفة وثيقة، وعملت الى جانبه وبقربه، نائباً عاماً ورئيسا لعدد من اللجان الوزارية، ثم مستشاراً ومساعداً لرئيس الجمهورية، نحواً من خمس سنوات. وأظن أنني آخر شخص جالس الدكتور الترابي في غرفة الاجتماعات الملحقة بمكتبه في السادس عشر من مارس 1985، آخر أيام عمله مساعداً للرئيس، قبيل ساعات من اعتقاله وايداعه السجن صبيحة اليوم التالي. قفزت الى مقدمة رأسي على الفور في مرحلة مبكرة أثناء اللقاء الطويل الممل مع قائد الحركة الشعبية وزمرته صورة الدكتور الترابي. خطر لي ان هناك شيئاً ما، او قل قاسماً مشتركاً، بين شخصية الترابي وشخصية قرنق. ثم تشكل تدريجيا وترسخ في ذهني اعتقاد بأن بعض الشخصيات التي تتميز بالذكاء الخارق، ربما تستشعر في بعض الأحيان دافعاً نفسياً ملحاً للتعبير عن نزعات لا تناسب مقام ذلك الذكاء الشديد، فتدلي أمام الناس بأحاديث وعبارات لا تصدر في واقع الحياة الا عن شخصيات ذات خصائص صبيانية او ربما طفولية. نترك الترابي جانباً. هذا ليس يومه. الحديث عن غيره.
أذهلني أن العقيد قرنق تاه بنا خلال الحوار في حديث عجيب عن قوة الحركة الشعبية وجبروتها ونفوذها في المحيط الاقليمي والعالمي، فذكر وكرر على مسامع المهدي مرتين عبارات مثيرة للانتباه، كونها تصدر من رجل في توقده وذكائه. من ذلك قوله: " إذا كنت انت رئيس وزراء وتعامل على مستوى رئيس وزراء، فأنا أعامل في بعض الدول في مستوى رئيس دولة". ثم ذكر اسم دولة عربية أظنها اليمن الجنوبي، وكانت دولة مستقلة وقتذاك تحت رايات الماركسية اللينينية، ويفترض انها فرشت له البساط الاحمر عندما نزل مطارها واستقبلته على مستوىً عال. وذلك حديث أراك توافقني، أعزك الله، أن أقل ما يمكن ان يوصف به هو أنه (صبياني طفولي) لا يليق ان يصدر عن متوسطي الذكاء، أو حتي من هم دون ذلك!
الأنكى أن قرنق عجز عجزاً محزناً عن مغالبة بعض نوازع ذاتية تسلطت عليه، فزاد واستزاد وأنعم علينا بفيض آخر من مخزونه التفاخري. من مثل ذلك أنه أسهب في الحديث عن قوة تنظيمه العسكري وجبروت اجهزة مخابراته وفاعليتها في الداخل السوداني، فأفادنا، مثلاً، بأنه على علم تام بدقائق وخفايا ما يجري داخل السودان. وتفاحشت به نزعة الفخر فقال لرئيس الوزراء أنه مطلع على أحدث الخطط والتدابير التي ائتمرت عليها هيئة قيادة القوات المسلحة في الخرطوم. زاد وغطى انه ذكر جانباً من هذه الخطط والتدابير المفترضة فأشار الى خطة بعينها ثم توجه بالسؤال الى رئيس الوزراء: " ألم ترسل القيادة العامة العميد (.....) لانجاز هذه المهمة بالتحديد وهو الآن موجود في منطقة كوستي في طريقه الى (....)"!
(6)
التأمل وانعام النظر في مثل هذه الادعاءات والمغالطات والروايات - التي تشبه القصص السينمائية – والتي شغلت الجانب الاكبر من جلسة الحوار بين الشخصيتين، يقود لا محالة الى خلق وتوطيد قناعات لا محيص عنها حول طبيعة شخصية العقيد قرنق، وحول اسباب فشل اللقاء.
نقلا عن صحيفة (الخرطوم)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.