الاتفاقات المشتركة بين السودان ودولة جنوب السودان وضرورة البيان بالعمل. بقلم: البروفيسور/ البخاري عبدالله الجعلي دون حاجة لإيراد الماضي بالنسبة للعلاقات بين السودان وجنوب السودان بافتراض أن كل ذلك يندرج في اطار ما هو معلوم بالضرورة للكافة فإن ما يسمى ب (اتفاقية السلام الشامل 2005) قد وضعت حداً للحرب الضروس التي كانت دائرة في جنوب السودان والحركة الشعبية لتحرير السودان، ولكنها تركت كل تداعيات تلك الحرب وفي مقدمتها ما قد ينجم عن الإستفتاء ابتداءً من اعتماد نظام الحكم القائم الذي تم وضعه بموجب اتفاقية السلام أو التصويت للإنفصال. وبصرف النظر عما إذا كان التوفيق قد جانب المفاوض السوداني أم لم يجانبه فقد أصبح ذلك أمراً واقعاً بكل أسف. ومرد الأسف أن جزءاً عزيزاً من السودان قد انفصل عن السودان ولم يشكّل فقط دولة جديدة هي دولة جنوب السودان بل الخوف كل الخوف أن يكون حافزاً لحركات انفصالية سواء كانت في السودان أو في أفريقيا أو حتى في العالم العربي ولعل ما يجري في بعض أنحاء دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق وما تبدى في اليمن وما برزت ملامحه في سوريا يأتي في اطار هذا التخوف. إن انفصال جنوب السودان وتكوينه دولة جديدة يقودنا إلى التذكير إلى مسألة هامة وهي أن الكيانات السياسية ليست دائمة. فثمة دول حديثة تظهر في الوجود وأخرى قديمة تختفي عنه. وأن حدوث الإتحادات والإندماجات والإنفصالات والتفككات لم يعد ظاهرة غريبة. وبالتالي كان لزاماً على القانون الدولي أن يستوعب مثل هذه الأحداث والتطورات في داخل اطاره العام مع مراعاة الحد الأدنى من التمزق وعدم الإستقرار. وهذا الوضع لم يبدأ اليوم بل برز للوجود بصورة لافتة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. وما حدث في أوروبا بعد تلك الحرب ومن ثمّ في منتصف أواخر تسعينات القرن الماضي في ألمانيا واتحاد الجمهوريات السوفيتية وجمهورية يوغسلافيا الإشتراكية وتشيكوسلوفاكيا وما شهدته أفريقيا بالنسبة لأثيوبيا التي انفصل عنها ما كان يعرف بالقسم الشمالي منها حيث كوّن جمهورية أرتريا في 1994 ذلك بالإضافة للحالة المحيرة في الصومال، كل ذلك لم يكن بدايةً لأمم جديدة. وأكثر من هذا فإن ما حدث في السودان لا يبدو أنه سيضع النهاية لحقيقة أن الكيانات السياسية ليست دائمة. لا شك أن ثمة مقتضيات وتداعيات معقدة ومتشابكة عديدة قد تترتب بالضرورة عن التغيير في السيادة السياسية على أي كيان اقليمي محدد وذلك فيما يتصل بأغراض القانون الدولي من ناحية والعالم كافة من ناحية أخرى. فعلى سبيل المثال لا الحصر تثور تساؤلات عديدة أو بالاحرى تنشأ مشكلات كثيرة من بينها: إلى أي مدى تكون الدولة المستقلة حديثاً والتي تسمى في القانون الدولي ب (الدولة الخلف) Successor State ملزمة بالمعاهدات والعقود التي أبرمتها السلطة السابقة التي تسمى في القانون الدولي ب (الدولة السلف) Predecessor State التي كانت لها السيادة على الإقليم المنفصل حديثاً وكان جزءاً منها في السابق؟ وهل تؤول جنسية الدولة الخلف تلقائياً إلى السكان لتحل محل جنسية الدولة السلف؟ وماذا يحدث للأملاك الخاصة والحقوق المكتسبة سلفاً في اقليم انتقل إلى سيادة أخرى مثل ما قد يكون للشماليين من أملاك في الولاياتالجنوبية السابقة من السودان؟ وإلى أي مدى تكون السلطة الجديدة المستقلة حديثاً مسؤولة بالنسبة (لأصول وديون) Assets and Debts السلطة القديمة والمقصود بذلك توزيع أو قسمة الأصول المالية والتبعات؟ وماذا عن أملاك الدولة الأصل العامة وبصفة خاصة أملاكها المنقولة وغير المنقولة في الخارج مثل سفارات الدولة الأصل إذا انفصل عنها جزء وشكل دولة جديدة؟ وماذا عن الخلافة على أرشيف الدولة؟ وأخيراً وليس آخراً ماذا عن العضوية في المنظمات الدولية؟ ليس من مقاصد هذا المقال بالطبع الخوض في كل ما يسمى سياسياً بالمسائل العالقة على اثر انفصال جنوب السودان عن السودان وهي ما نسميها في القانون بتداعيات وآثار خلافة الدولة المنفصلة عن الدولة الأم. ذلك أن المشكلات التي ما زالت عالقة عديدة ومعقدة إذا استبعدنا فقط مسألة قضية النفط التي تم الإتفاق بشأنها بعد أخذ ورد. وقد نعود لتفصيل ذلك في فرصة لاحقة. بيد أن من المسلم به أن قضايا الحدود تأتي في مقدمة تداعيات خلافة الدولة في القانون الدولي بل هي القضية الأساسية التي تنبثق منها أو عنها بقية التداعيات والمشكلات التي تواجه تفتت أو انفصال أو حتى استقلال الدولة الجديدة. ولعل لهذا السبب اهتمت مفوضية القانون الدولي بتضمين اتفاقية فيينا بشان قانون المعاهدات لسنة (1967) مادة بالغة الأهمية وهي المادة (11) ونصها: " لا تؤثر خلافة الدول في حد ذاتها على:- أ- الحدود المقررة بموجب معاهدة. ب- الإلتزامات والحقوق المقررة بمعاهدة والمتعلقة بنظام حدود. هذا النص يؤكد على ما هو مؤكد في الفقه والقضاء والتطبيق الدولي بالنسبة لحرمة وقدسية الحدود. ولزيادة التأكيد على فحوى المادة (11) أوردت اتفاقية فيينا المادة (62) التي تنص على أنه " لا يجوز الإستناد على مبدأ )التغيير الجوهري للظروف( Rebus sic stantibus كسبب لانهاء او الإنسحاب من معاهدة منشئة لحدود". صحيح أن بعض أعضاء مفوضية القانون الدولي قد ذهبوا خلال تدوين معاهدة فيينا إلى أن الإستبعاد الكامل لمعاهدات الحدود من نطاق انزال مبدأ (التغيير الجوهري للظروف) كسبب لانهاء أو الإنسحاب من المعاهدة المقررة للحدود قد لا يكون منسجماً مع مبدأ (تقرير المصير) Self determination الذي اعترف به ميثاق الأممالمتحدة. لكن المفوضية انتهت إلى أن المعاهدات المقررة للحدود يجب الإعتراف بها كاستثناء على تلك القاعدة بحجة أن (تقرير المصير) كما هو مرسوم في الميثاق هو مبدأ مستقل وأن ذلك قد يؤدي إلى ارباك إذا ما ضمن في سياق قانون المعاهدات. فضلاً عن أن المادة (62) من معاهدة فيينا باستثنائها للمعاهدة المقررة للحدود من نظامها لا تستبعد إعمال مبدأ (تقرير المصير) في أي حالة إذا ما وجدت الشروط اللازمة لمشروعية إعماله. لقد استعمل الإستعمار وهو يقوم ب(تعيين) الحدود في أفريقيا صيغاً قانونية عديدة من بينها (تحديد مناطق النفود) Spheres of influence و(تدابير مؤقتة) Modus Vivendi واتفاقات، و(بيانات مشتركة) Joint communiqué ومفرادت مثل (بروتوكولات) أو (أمر مجلس) Order in Council بل ومجرد عبارة تقارير وعبارة (وقائع اجتماعات) وهكذا كل هذه العبارات والمفردات تم استخدامها في توصيف أدوات تعيين الحدود في أفريقيا وآسيا. والمعلوم أن اتفاقية السلام الشامل المبرمة بين حكومة السودان والحركة الشعبية لتحرير السودان في 2005 نصت من بين أمور أخرى على تكوين لجنة (ترسيم) الحدود التي كانت قائمة بين الولايات الشمالية وولايات الجنوب في الاول من يناير 1956. والمقصود بهذا التاريخ هو الحدود الإدارية التي كانت قائمة تاريخياً بين المديريات الشمالية الست والمديريات الجنوبية الثلاث في تاريخ محدد وهو الأول من يناير 1956. وهو ما نسميه في القانون الدولي للحدود ب (التاريخ الحرج) أو (التاريخ الحاسم) Critical Date. لقد تم بالفعل تكوين اللجنة المشتركة المشار إليها بين الشمال والجنوب لأداء تلك المهمة بعد وقت وجيز من ابرام اتفاقية السلام. وقد كان كاتب هذا المقال خبيراً قانونياً معيناً من جانب حكومة السودان. وبالتالي نستطيع القول بأن تلك اللجنة بذلت مجهودات عظيمة في كل المجالات القانونية والمساحية والادارية وانتهت إلى الإتفاق على تعيين ما يقارب السبعين في المائة من امتداد الحدود المشتركة التي تبلغ حوالي 2175 كيلو متر، كما تم الإختلاف على التعيين في حوالي خمسة مناطق وقد استغرقت تلك المهمة قرابة الستة سنوات وبالتحديد حتى انفصال جنوب السودان. ومن المهم التأكيد أن ما انجز هو (تعيين) الحدود ولكن ما أنشئت اللجنة المشتركة من أجله أصلاً ليس (تعيين الحدود) فحسب بل هو (تخطيط الحدود) على الأرض Demarcation وهو ما لم يتم الشروع فيه حتى الآن. وبالتالي كان تدخل الإتحاد الأفريقي وكانت الإجتماعات واللقاءات والزيارات المكوكية التي لم تنته. وكما هو معلوم فإن البيان المشترك الذي صدر في أواخر اكتوبر 2013 على اثر زيارة الأخ رئيس الجمهورية إلى جوبا قد أشار لمسألة الحدود. وبالتالي فإن البيان يقر بأن مسألة الحدود هي الكلمة المفتاحية لكل المسائل المعلقة. فإذا لم يتم الإتفاق على تخطيط الحدود بصفة نهائية ستظل العديد من المشاكل معلقة مما يعني عدم الإستقرار على امتداد خط الحدود بين الدولتين والذي أصبح – بكل أسف – خط الحدود الأطول بالنسبة لكل حدود السودان مع الدول المجاورة. غير أن البادي لنا بحق ليس النص في البيان المشترك لقضية الحدود فذاك أمر ضروري ولا مناص من الإتفاق عليه كما ذكرنا بل أن اللافت وهو أمر بالطبع مرضٍ، أن الدولتين قد اتفقتا وفقاً للبيان المشترك، على الإتفاق على النقطة (الصفرية للحدود) Zero line. وهذه النقطة ليست جوهرية وحيوية فحسب بل هي النقطة (المحيرة) Crux. وهي محيرة لأنها الحاسمة لكل المشكلات إذا ما تم وضعها موضع التنفيذ. ولعل أبلغ دليل على ذلك أن تقرير اللجنة الفنية الخاصة ب(الممرات) Corridors بين الدولتين والتي أصدرت تقريرها في 21 ابريل 2013، قد أكد ،من بين أمور أخرى، على تحديد الممرات ما بين جنوب كردفان وولاية الوحدة وجنوب كردفان وأعالي النيل وجنوب كردفان وولاية واراب وجنوب كردفان وولاية شمال بحر الغزال، وجنوب دارفور وولاية غرب بحر الغزال، والنيل الأبيض وولاية أعالي النيل والنيل الأزرق وولاية أعالي النيل، وولاية سنار مع ولاية أعالي النيل. كل هذا العمل قد تمّ الإتفاق عليه بين الدولتين كما ورد في تقرير اللجنة الفنية المشتركة الخاصة بالممرات بين الدولتين. وإن كل هذه الممرات تقوم أساساً على امتداد (خط الصفر). إن واللافت أكثر أن البيان المشترك الذي نحن بصدده قد نص على أن تحديد النقطة الصفرية سيتم قبل أو في منتصف نوفمبر. والثابت أن منتصف نوفمبر أصبح قاب قوسين أو أدنى!!. نسجل هذا لأن العديد من الإتفاقات والبيانات المشتركة بين الدولتين والتي قد سبق أن صدرت من جانبهما وعلى مستويات مختلفة لم يتم وضع أغلبها موضع التنفيذ حتى الآن. لكل ما سبق فإن تخطيط (خط الصفر) الوارد في البيان المشترك الأخير الذي صدر على ضوء المفاوضات التي تمت بين رئيسي الدولتين الجارتين هو النقطة الحاسمة ليس فقط بالنسبة لتحديد الممرات بل لتحديد أمور عديدة ذات أهمية بالغة في بناء وتأسيس علاقات دائمة ومستقرة تستهدف مصلحة الشعبين في السودان ودولة جنوب السودان. ولعل البداية هي مسألة تفعيل الإتفاق على الممرات بالإضافة إلى تحديد مسافة (المنطقة العازلة) Buffer Zone بين الدولتين من (خط الصفر). فهل يكون البيان المشترك الأخير هو البيان بالعمل هذه المرة ترسيخاً للثقة بين البلدين التي ظلت متفاوتة ومتباينة لفترة ليست بالقصيرة. نأمل ذلك.