روى أبو الفرج الاصبهاني في كتابه " الاغاني : ( أخبرنا محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن جده إبراهيم قال : سألت الرشيد أن يهب لي يوما في الجمعة لا يبعث فيه إلي بوجه ولا سبب لأخلو فيه بجواري وأخواني فأذن لي في يوم السبت وقال لي هو يوم استثقله فاله فيه بما شئت فأقمت يوم السبت بمنزلي وتقدمت في إصلاح طعامي وشرابي بما احتجت إليه وأمرت بوابي فأغلق الأبواب وتقدمت إليه ألا يأذن علي لأحد ! فبينما أنا في مجلسي والخدم قد حفوا بي وجواري يترددن بين يدي إذا أنا بشيخ ذي هيئة وجمال عليه قميصان ناعمان وخفان قصيران وعلى رأسه قلنسوة لاطئة وبيده عكازة مقمعة بفضة وروائح المسك تفوح منه حتى ملأ البيت والدار فداخلني بدخوله علي مع ما تقدمت فيه غيظ ما تداخلني قط مثله وهممت بطرد بوابي ومن حجبني لأجله فسلم علي أحسن سلام فرددت عليه و أمرته بالجلوس فجلس ثم اخذ بي في أحاديث الناس وأيام العرب وأحاديثهم وأشعارهم حتى سلى ما بي من الغيظ وظننت ان غلماني تحروا مسرتي بإدخالهم مثله علي لأدبه وظرفه فقلت : هل لك في الطعام؟ فقال : لا لا حاجة لي فيه فقلت : هل لك في الشراب ؟ فقال : ذلك إليك فشربت رطلا وسقيته مثله قال لي : يا أبا اسحق وهل لك ان تغني لنا شيئا من صنعتك وما قد نفقت به عند الخاص والعام؟ فغاظني قوله ثم سهلت على نفسي أمره فأخذت العود فجسسته ثم ضريت فغنيت فقال : أحسنت يا إبراهيم فازداد غيظي وقلت : ما رضي بما فعله من دخوله علي بغير إذن واقتراحه ان أغنيه حتى سماني ولم يكنني ولم يجمل مخاطبتي ثم قال: هل لك ان تزيدنا؟ فتذممت فأخذت العود فغنيت فقال : أجدت يا أبا اسحق فأتم حتى نكافئك ونغنيك فأخذت العود وتحفظت وقمت بما عنيته إياه قياما تاما ما تحفظت مثله ولا قمت بغناء كما قمت به له بين يدي خليفة قط ولا غيره لقوله: أكافئك فطرب وقال : أحسنت يا سيدي ثم قال: أتأذن لعبدك بالغناء ؟ فقلت : شأنك واستضعفت عقله في ان يغنيني بحضرتي بعد ما سمعه مني فأخذ العود وجسه فوالله لخلته ينطق بلسان عربي لحسن ما سمعته من صوتيه ثم تغنى : ولي كبدٌ مقروحةٌ مَن يبيعني *** بها كبداً ليست بذاتِ قروح أباها عليّ الناسُ لا يشترونها *** ومن يشتري ذا علةٍ بصحيح ِ ؟ أئِنّ مِنَ الشوق ِ الذي في جوانبي *** أنينَ غصيص ٍ بالشرابِ جريح ِ ! قال إبراهيم : فوالله لقد ظننت الحيطان والأبواب وكل ما في البيت يجيبه ويغني معه من حسن غنائه حتى خلت والله أني أسمع أعضائي وثيابي تجاوبه وبقيت مبهوتا ً لا أستطيع الكلام ولا الجواب ولا الحركة لما خالط قلبي ! ثم غنى :( ألا يا حماماتِ اللوى عُدن عودةَ ً *** فإني إلى أصواتكنّ حزينُ ) وكذلك :( ألا يا صبا نجدٍ متى هجتِ من نجد *** لقد زادني مسراك وجداً على وجدِ ) . ثم قال: يا إبراهيم هذا الغناء الماخوري فخذه وانحُ نحوه في غنائك وعلِّمْه جواريك فقلت : أعده عليّ .. فقالت لست تحتاج ! وقد أخذته وفرغت منه ثم غاب من بين يدي فارتعت وقمت إلى السيف فجردته وعدت نحو أبواب الحرم فوجدتها مغلقة فقلت للجواري : أي شيء سمعتن عندي ؟ فقلن : سمعنا أحسن غناء سمع قط فخرجت متحيرا الى باب الدار فوجدته مغلقا فسألت البواب عن الشيخ فقال لي : أي شيخ هو؟ والله ما دخل اليوم إليك احد فرجعت لأتأمل أمري فذا هو قد هتف بي من بعض جوانب البيت : لا بأس عليك يا أبا اسحق , أنا إبليس وأنا كنت جليسك ونديمك اليوم فلا ترع فركبت الى الرشيد وقلت : لا أطرفه أبدا بطرفة مثل هذه فدخلت إليه فحدثته بالحديث فقال : ويحك تأمل هذه الأصوات هل أخذتها؟ فأخذت العود أمتحنها فإذا هي راسخة في صدري كأنها لم تزل فطر الرشيد وجلس يشرب ولم يكن عزم على الشراب وأمر لي بصلة وحملان وقال : الشيخ كان اعلم بما قال لك من انك أخذتها وفرغت منها فليته أمتعنا بنفسه يوما واحد كما أمتعك!! في إحدى سهرات التلفزيون خلال شهر رمضان الماضي رأيتُ تباهياً زنيماً وفخْراً أبتراً على وجه أحد ما يُطلق عليهم شعراء الشباب للأغنية ، وهو يقول مُقرَّاً بتوصيف ناقدتِه إنَّ شعره مُختلَّ الإيقاع بجانب سوقيَّته ، يقول : (أيوه ..صحيح شعري مكسَّر ..لاكين أنا ماني ملحِّن ..يعني بعالج الكِسِّير في اللحن) ويقول في إطلالة تلفزيونية له أُخرى بذات النَّسَق الشوفيني والزَّهْو الأرعن وهو يهزُّ رأسه في إيحاء منه لإعجاز ملكاته الفوقيَّة وموهبته الفذَّة : (سبحان الله ..سبحان الله ..القصيدة تجيني نازلة جاهزة بي لحنها ) ! وإذا ما تكرَّم – سامحه الله – بقراءة نموذج شعري اصطكَّت أسنانُكَ واقشعرَّ بدنُكَ لغُثائه المُسفِّ وسوقيَّته المُبتذلة ..فأمَّا الذين يؤدون هذا النمط العجيب من الكلام والألحان ؛تحسبهم شتَّى ولكنهم ينحدرون جميعاً إلى سفْح التناسُخ حتى تظنَّنَّ كلَّ الظنِّ ألاَّ فرْق بينهم إلاَّ الأسامي ، ابتداءاً من الصوت مروراً بالمظهر واللغة الجسديَّة والإبتسامة البمبيَّة ، هل توجَد ابتسامةٌ بمبيَّة ؟ وحتى (القوديب) وهو البكاء المُصطنع و مطِّ الصوت وترجيعه مع بعض الوقفات المسجوعة .. سألأتني أُمِّي ذات مرَّة ونحن نشاهد أحدهم عبر التلفاز : (البقودِبْ زيْ بتَّ الطَّمَح ده ، اسمو منو ؟ ) . وبتَّ الطَّمَح هذه كانت تدَّخِر جهدها وتوفِّر صوتها في بداية العزاء في بيوت المآتم ، حيث البكاء و (الثَّكلي) و(الرَّدحي) على أنغام (الحي ووب) فرْض عين على كلِّ إمرأةٍ مُجاملةٍ أو مَدينة ! وحتى لا يضيع صوت (بتَّ الطَّمَح) سُدىً وسْط الصراخ الهسْتيري والنحيب الحامي بين حناجر الثَّكَالى والمفجوعات فهي تكتفي بدءاً أن (تنوني على خفيف ) وهي تضع يدها على أكتاف أو رؤوس النساء المُستهدَفات بالتعزية ..ولكن متى ما نفد الرَّماد واعتذر القرع عن العويل وفترتْ همَّة النائحات ؛ انتفضتْ (بتَّ الطَّمح) وسرَّحتْ صوتَها الأجشَّ مُعدِّدةً محاسن الميِّت في سجْعٍ ارتجاليٍّ أو قافيةٍ مُختلَّةٍ من ذوات حرْف الرَّوِيِّ المُطلَق ، وذلك حتى يتناسب مع إمكانيَّات صوتها الضَّحْل الخالي من التطريب ..وتظلُّ هكذا (تقودِب وتقودِب) حتى تضيق بها النساء من أهل الميِّت ذرعاً فيسْتحلفْنها بالله وبالرسول أن نكفَّ عن البُكاء وتستغفر وترجع ، بل تذهب إلى بيتها وأولادها لكي لا تنام على الأرض في بيت العزاء (الفُراش) ! وصاحبنا فيما يبدو هو كبيرُهم أو مُقلِّد مُقلِّد كبيرِهم الذي علَّمهم (القوديب) و (سبْسبة) الشَّعَر والإبتسامة البمبية وعَضَّة الشَّفَة السُّفْلى !ولكن أشدّ ما يرفع ضغطكَ ويهيِّج (مُصرانك) العصبي ويغرس (نشَّابه) في كبدكَ حتى تغدو إلى سوق (أمْ دفسو) وأنت تصيح بأعلى صوتِك (مَن يبيعني كبداً ليستْ بذات قروح) ، أشدّ ما يفعل بك ذلك هو تقمُّص المؤدي لدور الفنَّان الكبير الجماهيري الذي ما أن يفتح فمه حتى تختطف الكراسي والجدران منه الكلام .. فينحصر دور صاحبنا عندئذٍ بالتذكير ببداية المقطع لتكمل الجماهير الحافظة عن ظهر قلب ما تبقَّى من التُرَّهات .. ولأنَّ المُتقمِّص عادةً لا يحسّ إلاَّ بما يتراى له في وديان وهْمه الفسيحة ؛ فإنَّه عقْب كلِّ مقطع يطوي ابتسامته البمبية مثل (سَلَبة) حلفاء طويلة يضعها تحت إبْطه ، ثم يعضّ شَفَته السُّفْلى بقاطعَيْهِ وهو يمدّ (المايِكْ) نحو الجمهور ..فينشأ عندها فراغٌ دستوري واسعٌ بين القاعدة العريضة والبصيرة الضيِّقة الرشيقة ريثما واصل صاحبُنا (القوديب) العجيب ! إنما العجب العُجاب بحقٍّ وحقيقة هو غياب (إبليس) شِعْراً ولحناً ومعنى .. تُرى ماذا دها (إبليس) اللعين وقد كان يمدُّ ( إبراهيم الموصلي )باللحن الفريد من وادي عبقر ..وأين هو من شاعرنا الهمام – الذي ينزِّه الله تعالى- إذ تتنزَّل عليه الأغنية – كما تفضَّل – نصَّاً ولحناً ! دون أن يدري أنها لا تتجاوز (قوديب) بتَّ الطَّمَح !!!