وتَخْرجْ الكلمات وتصيرُ أشعاراً ، تهبط على أوتار يعزفها برعى محمد دفع الله عندما تصير الأشعار ألحاناً تجرى لمستقرِّ لها عند حنجرةِ أبو داؤود يمتلئُ الكونُ غناءً وتخضرُّ الصحارى اليابساتْ وتهبط فى روابينا الأفراحْ ويتمدَّدُ الوقتُ فى شراييننا عندها ندركُ أن أبو داؤود يغنِّى . وإن برعي يعزف اليوم الأحد 4/ أغسطس يوافق الذكرى التاسعة والعشرين لوفاة الفنان الكبير عبدالعزيز محمد داود وقد كتب الراحل البروفسير علي المك «ودخلت بحري بيت الحبس» رحمهما الله رحمة واسعة». فى المرحلة المتوسطة وأنا طالب فى بداية الخمسينيات بمدرسة الأبيض الوسطى كنت أنتمي للفريق الذى يعد أبو داؤود فنانه المفضل .. وكنا نقدم أغانيه في الاحتفالات التي كانت تقيمها المدرسة بمناسبة يوم الآباء وخاصة أغنية «فينوس» لاسيما وأن شاعرها المبدع عوض حسن أحمد كان مدرساً بالمدرسة الصناعية الى جوار مدرستنا. الذين يستمعون لنا كانوا يغفرون لنا طراوة أصواتنا ويعجبون بجراءتنا فى تقديم أغانٍ لفنان مثل أبو داود . فى تلك الايام كانت الاذاعة تقدم برنامج «ما يطلبه المستمعون» وكانت أغنية الفنان أحمد المصطفى «اهواك» تحتل المرتبة الاولى كل يوم جمعة وتشاركها أغنية الفنان الكاشف «الحبيب وين» وأغنية الفنان عثمان حسين «الوكر المهجور» وأغنية أبو داؤود «هل أنت معي» وهكذا تشكل وجداننا الفني من ذلك النسيج الرائع من الإبداع الغنائي. أما أنا فلأننى انفتحت على الطبيعة منذ وقت مبكر كانت جملة الأصوات التى التقطتها من تلك البيئة تختلط مع غناء أبو داود وتمتزج وتستقر فى ذاكرتى كطبقة شعورية لها رنين مستمر تصور يا صاحبي انه كانت لنا شجرة جوافة وشجرة حناء وشجرة ليمون وكانت تنشر رائحة وعبقاً مميزاً فى زمن الخريف .. وحمل ذلك العبق معه الى تلافيف الذاكرة صوت الفنان أبو داود وهو يغنى رائعة شاعر مدينة الابيض محمد علي عبد الله الامى «أحلام الحب» فصرت عندما أشم تلك الرائحة منبعثة من أى مكان يأتينى صوت أبو داود . زرعوك فى قلبى يامن كسانى شجون ورووك من دمى يا اللادن العرجون. هذه الاغنية أستدعيها من ذاكرتى عن طريق حاسة الشم يا سبحان الله، لقد ظل أثر الفنان أبو داود فى وجدانى باقياً يزداد رسوخاً مع مر الايام ولهذا ظللت منشغلاً به .. ولو جاء أبو داود فى العصر العباسي، عصر ازدهار الفنون العربية والأدب والإبداع الاصيل لتحققت له الريادة والسيادة على جميع مغني ذلك العصر .. ولصيغت أوزان الانغام العشر كما صنفها إسحاق الموصلى على حنجرته التى يملك زمامها التى يفعل بها ما يشاء وما الغناء إلا حنجرة؟ يقول الفارابى فى مؤلفه العمدة «الموسيقي الكبير» تحقيق غطاس عبد الملك: 964 ص 79 -80 » فأما االعيدان والطنابير والمعازف والرباب والمزامير وأصنافها فإنها تزيد .. غير أن هذه أيضاً تنقص عن نغم الحلوق، وليس ها هنا ما هو أكمل من الحلوق، فإنها تجمع جل فصول الأصوات .. والذى يحاكى الحلوق من الآلات ويساوقها أكثر من غيرها هو الرباب». ولهذا كان أبو داود يغنى باقل شيء يمكن أن يخطر على بال «بكبريته» يحفظ بها زمنه وإيقاعه أعطِ مصنعاً من الكبريت لأحد فنانى هذه الأيام ليدندن به، هل يستطيع؟ لقد وضع العرب الأقدمون وملوك الطرب قاعدة لتلك النغمات العشر التى تضم جميع أسرار الصنعة فقال أبو الفرج الأصفهانى فى كتابه «الأغاني» ص: 373 374: » من الأصوات التى تجمع النغمات العشر: توهمَّت بالخيفِ رسماً محيلا لعزةَ تعرف منه الطلولا تبدل بالحىِّ صوت الصدى ونوح الحمامةِ تدعو هديلاً الشعرِ لكُثَيَّرِ عَزةٍ والغناء لعبيد بن عبد الله بن طاهر ونسبه الى جاريته، فذكر أن الصنعة لبعض من كثرت دربته بالغناء وعظم علمه حتى جمع النغمات العشر فى هذا الصوت». إلا تعلم يا صاحبي إن أبو داود قد جمع مثلها وزاد عليه بترجيعه، وتنغيمه وترعيده وتضعيفه فى: عربدتْ بى هاجساتُ الشوقِ إذ طال النوَّى وتوالتْ ذكرياتى عطرات بالهوى كان لى فى عالم الماضى غرامٌ وانطوى أسمعت كيف ينتقل أبو داود بذلك النغم فى درجاته المتعددة وينتهى عند كلمة و«انطوى »؟ يقول ابن سينا فى كتابه «الشفاء»: «وافضل الانتقال من أواسط النغم، وأفضل الإقامة التضعيف وهو أن تكون إحدى النغمتين على النغمة والأخرى تكون على ضعفها أو نصفها .. ومن الزيادات الفاضلة الترعيدات والتمزيجات والتركيبات والتضعيفات». هل لاحظت كيف يعطى أبو داود كل تلك الألوان لذلك اللحن الذى وضعه الفنان الساحر برعى محمد دفع الله لأغنية الشاعر المصري محمد على أحمد «هل أنت معى» ونفس الشيء يتحرك به أبو داود فى مساحة خرافية من التلوين فى قصيدة عبد المنعم عبد الحي: يا نديماً عبَّ من كأْس الصَّبا ومضَى يمشى الهُوَيْنا طرباً ألا تلمح ذلك الشجن الذى يتحرك داخل حباله الصوتية والاهتزازات التى يحدثها بومضات متتابعة من اللسان صعوداً ونزولاً فى التجويف الفمي فتحدث ذلك التموج فى صوته الذى يشابه اهتزاز عمامة تنشف فى الهواء : قال ود الرضى يصف جملاً: ينصر وينطلق زَىَّ المُصَابْ بى حُمىَّ ويكفتْ فى الأَرِض ْكَفْتَ الصَّقُرْ للرَّمةْ يتخفس برا الدراق سريع بى همّة ايديهُ التقُولْ غَسَّال بنفِّضْ عِمةْ ذلك القفص الصدرى الضخم الذى يحبس فى داخله كمية من الهواء يتحكم فى تصريفها لتدق على حباله الصوتية محدثة تلك الاهتزازات المميزة لصوت أبو داود الأمر الذى يمكنه من الانتقال من طبقة نغمية أو «أكتاف» الى طبقة أعلى منها أو أخفض منها .. بينما يبقى تركيب الطبقة وأنغامها ومسافاتها ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، وهو ذات المذهب الذى وضعه إسحاق الموصلى «التحرك الفنى السليم بين المقامات» والذى يصفه ابن المنجم في رسالته عن الموسيقى ص : 834 بالخروج من المجرى الى المجرى والانتقال فيه والدخول فيه من المواضع الممكنة التى يحسن ذلك فيها حتى لا ينكره السمع. ولو أن أبو داود ظهر فى العصر العباسي لوجد فيه اصحاب صناعة الموسيقى والنغم ضالتهم إذ أن صوته يتجاوز حدود الطبقة او الاكتاف او الديوان الواحد. ففى كتاب الاْغانى «الجزء العاشر ص 100_101 «ذكر أبو الفرج الاْصفهانى قائلا «اخبرنى يحيى بن المنجم قال: ذكر لى عبيد الله بن عبد الله بن طاهر عن اسحاق بن عمر بن يزيع قال :كنت اْضرب على إبراهيم بن المهدى صوتاً ذكره فغناه على اْربع طبقات على الطبقه التى كان العود عليها, وعلى ضعفها، وعلى إسجاحها وعلى إسجاح الاسجاح. والإسجاح هو الغناء في النغمات قليلة التردد أي الغليظة. قال أبو أحمد قال عبيد الله: وهذا شئ ماحُكِىَ لنا عن أحد غير إبراهيم، وقد تعاطاه بعض الحذاق بهذا الشأن ، فوجده صعباً متعذراً لا يبلغ إلا بصوت قوى مائل إلى الرقة ولايكاد ما اتسع مخرجه يبلغ ذلك، فإذا رق حتى يبلغ الإضعاف لم يقدر على الإسجاح فضلاً عن اسجاح الإسجاح فإذا غلظ حتى يتمكن من هذين لم يقدر على الضعف« تأمل بربك يا صاحبي أبو داود وهو يغنى رائعة الشاعر عبد المنعم عبد الحي: لوموه اللاهى فى الغرام باللهِ قولوا ليهو الحبْ شَئ طبيعى إلاهى هذه المقاطع الصغيرة ترى كيف يصعد بها أبوداود ويهبط بها فى ميزان الأنغام؟ ولو تأملت المقطع »فى الغرام بالله » أو المقاطع الأخرى مثل: الغرام ما بخيّر بين صغير وكبيّر لوجدت أنه يضع لكلمة «كبير » ثلاثة مستويات نغمية.. ثم يبدأ فى الارتفاع.. من زمان الحب أمروُ فينا يحيّر يا جميل يا نضيّرْ خلّى هجرك غيّر بكرة تلقى الحب عمرو فينا قصيّر وكلمة «قصيّر» تنزل فى مستويين نغميين منهية بذلك القفلة التى يحط عليها صوت أبو داود أثناء المسار النغمى. لو سمع هذه إبراهيم بن المهدى لتتلمذ عليها بقية عمره ولا أجد وصفاً لهذه أبلغ من وصف أبو الفرج الأصفهانى فى تحليل غناء إسحاق بن إبراهيم الموصلى حيث يقول: » وكان حسن الطبع فى صياحه، حسن التلطف، فى تنزيله من الصياح الى الإسجاح على ترتيب بنغم ٍ يشاكله، حتى تعتدل وتتزن أعجاز الشعر فى القسمة بصدوره ، وكذلك أصواته كلها ، وأكثرها يبتدئ الصوت فيصيح فيه وذلك مذهبه فى جل غنائه، حتى كان كثير من المغنين يلقبونه بالملسوع لأنه يبدأ بالصياح فى أحسن نغمة فتح بها أحد فاه ، ثم يرد نغمته فيرجحها ترجيحاً وينزلها تنزيلاً حتى يحطها من تلك الشدة الى ما يوازيها من اللين ثم يعود فيفعل مثل ذلك ، فيخرج من شدة الى لين ومن لين الى شدة وهذا أشد ما ياتى فى الغناء وأعز ما يعرف من الصنعة » «الأغانى الجزء الخامس ص376». فكيف تجد أبوداود وهو يغني للشاعر الفذ عبيد عبد الرحمن: جَاهلْ وديعْ مَغروُرْ فى أحلام صباه ْ نايم خَلى ومسرورْ ما عِرف الهوىْ فى سُور وداخل سُور فى روضة زهُورْ غناء وقصور فى قصُورْ آية الجمال مبصورْ أخلاق الرضيعْ فى هيَبْة المنصور ألم تجد من الغناء بديعه وأجوده فى كل هذا؟ رحم الله الفنان أبوداود وأجزل له من الرحمة والغفران والعطاء بأكثر مما أعطى فقد زرع في قلوبنا الأفراح والسعادة «إن الأكبر من أبوداود هو قلبه... ألم يسعنا كلنا؟» وفنان كهذا حري بنا أن نكرمه.