تدور ثيمة أحداث رواية الكاتب الكولمبى الشهير غارسيا ماركيز "الكولونيل فى متاهتة الآخيرة" عن تطلعات سيمون بوليفار و كيفية اختلاط تلك الآمال العظيمة بالصراعات و الغدر و الدمار الذى حاق بكثير من مدن امريكا اللاتينية وشعوبها , و آخيرا انهيار الحلم . كان سيمون بوليفار الزعيم الامريكى اللاتينى يحلم بوحدة قارة امريكا الجنوبية كدولة واحدة و كأمة قوية قادرة على دحر المستعمر الاسبانى و الوقوف فى وجة الشمال الامريكى ، و فى سبيل ذلك خاض كثير من المعارك وحقق انتصارات باهرة و لكن فى المقابل شهدت مدن امريكا اللاتينية كثير من الدمار و القتل و تعطلت التنمية و من ثم ضاعت الرفاهية التى كان يحلم بها. و يخلص غارسيا ماركيز الى ان الاعمال الوضيعة لايمكن ان تكون طريقا للآمال العظيمة. اذا كانت استقامة سيمون يوليفار و صدق مشاعره من اجل الاستقلال و حلم وحدة قارة امريكا الجنوبية و الرخاء الذى وعد به الامريكيين الجنوبيين لم يشفع له من تهكم غارسيا ماركيز ، فماذا نحن قائلون عن حكام الاسلام السياسى الذين عملوا بوعى فى كثير من الاحيان ومن غير وعى فى بعض الاحيان علي تفكيك الدولة السودانية و الجلوس على ركامها. و ملامح تفكك الدولة السودانية تبدوا لكل متأمل و ذو بصيرة ليس فى انكارها انما الخروج الآمن من نتائجها الكارثية لتجنيب الوطن شرورها. يأتى التساؤل المركب ،ما هو المقصود بتفكك الدولة السودانية و ما اذا كانت شرطها متوفرة فى سودان اليوم ؟ الاجابة على هذا التساؤل لا تقتضى بالبحث فى المصطلحات السياسية و لكن باستقصاء مآلات الاوضاع الحالية التى سوف تكون هاديا فى انارة تلك العتمة . أولا التفكك المقصود هنا ليس التجزؤ السياسى كما هو حادث فى تاريخنا المعاصر من تجربة تشظى دولة الاتحاد السوفيتي لدول عدة ، انما المقصود تلاشى مظاهر الدولة و انهيار اجهزتها و انحلال سلطتها و عدم وجود اى خطط مستقبلية للنهوض بإنسانها فى مواجهة الكوارث الطبيعية و غير الطبيعية و اشاعة اليأس بين مواطنيها بالرغم من مظاهر الدولة الظاهرة, و لكن هذا لايعنى أن التفكك السياسى امرا مستبعد ا فى حد ذاته. و اهم مظاهر تفكك الدولة السودانية هو عدم وجود جيش مهنى قادر على حماية تراب الوطن و المواطنين عند استيلاء جماعة الاسلام السياسى على السلطة كان همها الاساسى خلق قوات عقائدية تحل محل الجيش الوطنى و يكون ولائها الاساسى ليس للوطن انما للمفاهيم العقدية النابعة من تعاليم حركة الاخوان المسلمين و نظرتهم للمواطنة و الوطن و المتمثلة فى الاخوة الاسلامية و دولة الخلافة . و كأول تنظيم اسلامى يستلم السلطة ، لم تكن هناك تجربة عملية واضحة المعالم سوى المفاهيم النظرية حول الجهاد و الآيات القرانية حول الحرب و الاعداد لها . وبالاضافة لغياب التجربة العملية , غير أن جماعة الاسلام السياسى اصطدمت بكثير من العثرات من اهمها قدرة مليشيات الدفاع الشعبى على احلال موقع الجيش فى الحفاظ على سلطتهم و الجبهات الكثيرة التى تفتحت نتيجة لسياساتهم و آخيرا التجربة الايرانية التى تحتفظ بالجيش و المليشيات المسلحة. هذه العقبات الخطيرة عدلت خطتهم من تحطيم الجيش الى تحويله كجيش عقائدى و هذا ما يفسرة كلام عرابهم حسن الترابى فى ايامة الاولى حيث ذكر أن الجيش تغير من صفارة الصباح الى نداء الآذان و من طابور الصباح الى طابور آخر هو طابور الصلاة . أمر آخر لايقل أهمية عن السلك العسكرى و يشكل ضمانة حقيقية لقيام الدولة الحديثة و هو المتمثل فى السلك المدني.حيث ان قيام خدمة مدنية فاعلة و قوية لا تؤطر لمظاهر الدولة فقط ، انما تعزز كثير من القيم مثل المساواة و العدالة فى المواطنة و قومية الدولة . تلك القيم تجعل شعارات التوزيع العادل للثروات و التنمية المتوازنة شعارات حقيقية حيث تقوى الثقة بالدولة كشريك نزيه . غير أن هذة القيم الآن اهتزت اهتزازا عنيفا منذ استيلاء جماعة الاسلام السياسى على السلطة و لم يعد هناك عاقل يحترم جهاز الدولة او يثق فيه . جماعة الاسلام السياسى عدة جهاز الدولة احد ادوات التمكين لسلطتها و لم تراعى كل التراث الذى ورثته من جهاز الخدمة المدنية انما طبقت فية كل ما خطر ببالها من فقة الغنائم و النهب المبرر دينيا ، فكانت النتيجة انهيار كامل لجهاز الدولة و من ثم مظاهر الدولة الحديثة. و لا يغيب على فطنة القارئ الهدف من القضاء على الخدمة المدنية فهو القضاء على تنظيمات المجتمع المدنى الحديثة ممثلة فى النقابات. عندما تغيب مظاهر الدولة بأنهيار المظهر المدنى المتمثل فى الخدمة المدنية و فقدان الثقة فى حمايتها ، يلجأ المواطنون للبديل المتاح و القريب لوجدانهم و هو القبلية للاستقواء بظلها . استشرت الجوانب السلبية و المظلمة للقبلية و المتمثلة فى الاستعلاء الاجتماعى و الثقافى كما لم يكن من قبل ، فأضحت هى المقياس لكل شىء ابتداء من التميز الثقافى و الاجتماعى و المهنى الى الخدمات و العدالة الاجتماعية و توزيع ثروات الوطن والتمتع بقيم المواطنة و حماية الدولة. و بخطة ممنهجة من الاسلام السياسى, عملت الانقاذ على اعلاء شأن القبلية لاضعاف تنظيمات المجتمع المدنى الحديثة من الاحزاب ة النقابات و الاتحادات لقدرتها على المساهمة فى التغيير و مرونتها فى التنظيم واضفائها الطابع القومى لتحركاتها . عكس مؤسسة القبيلة المكبلة بكثير من القيود , حيث يسهل لها ذلك حماية نظامها و القضاء على كل التحركات التى تهدده ضاربة عرض الحائط بخطورة اعلاء القبلية على النسيج الوطنى و بقاء الدولة السودانية. و كنتيجة حتمية لانتشار القبلية و اضمحلال اهتمامات الانسان السودانى و إعلائه لهذا الاطار الضيق ،ضعف الوازع الوطنى واستشرى عدم اللامبالاة الشديد بالقضايا الوطنية العامة . ويظهر خطورة ذلك فى عدم التجاوب مع المهددات الوطنية و مساواتها بقضايا الصراع حول السلطة لضعف غريزة حفظ الدولة كغريزة جماعية تستنهض فى حالة المهددات العامة . كثيرون تأخذهم الدهشة و التساؤل المشروع بسلوك الانقاذ , لماذا لم تحرك الانقاذ ساكنا فى الاعتداءات الكثيرة على التراب الوطنى من قبل الدول الجارة مثال ذلك احتلال المصريين لمثلث حلايب و الإثيوبيين للفشقة و التشاديين لمنطقة دلمى فى اقصى الغرب فى الوقت الذى تملاء الدنيا ضجيجا فى احتلال مدينة من قبل الحركات المسلحة السودانية . يرجع ذلك الامر فى الواقع لمعرفة الانقاذ ان استنهاض الروح الوطنية اصبح امرا عصيا بعد ان أشبعتها تقتيلا بتحطيم التنظيمات المدنية الحديثة كالاحزاب و النقابات و الاتحادات القادرة على هذا الضرب من الحشد لقوميتها و بتغذية القبلية و اعلاء شأنها ، و أن لا احد سوف يتجاوب معها باعتبارها معركتهم وحدهم . بالاضافة الى اللجوء الانتهازى للدين فى كل القضايا حتى القضايا الوطنية الامر الذى اختلط معة امر الدين بالوطن الذى من المفترض أن يسع الجميع. و من المظاهر الاخرى لتفكك الدولة و التى لاتقل خطورة عن المظاهر المتمثلة فى انهيار الجيش و السلك المدنى و انتشار القبلية و ضعف الوازع الوطنى ، هو الانهيارات الكبرى للمشاريع الاستراتيجية للدولة السودانية المتمثلة فى قطاعات الزراعة و النقل و الصناعة . و أهمية هذه المشاريع ليست فقط فى مساهمتها فى الدخل القومى و الخدمات التى تقدمها , و أنما فى تفاعل ابناء الوطن الواحد و تجميعهم فى بوتقة واحدة و الاحساس بالمواطنة و العدالة الاجتماعية و المساهمة فى الانتاج القومى . مثال ذلك مشروع الجزيرة و سكك حديد السودان و سودانير و غيرها حيث كانت تعتبر هذه المشروعات البوتقة الواحدة لجميع أبناء الوطن وتعد من أميز المواقع لتلاقح و تفاعل أبناء الوطن . كما ذكرنا أن تفكك و تحلل الدولة يحولها الى دولة فاشلة قد تحمل نذر خطيرة قد تؤدى الى التجزؤ السياسى ,و الامور الآن لا تتحمل تقاعس ابناء الوطن من انتشال وطنهم من المصير المظلم الذى قد ينتظره و من عبث نظام الاسلام السياسى الفاشل , و يتطلب فى المقام الاول اعادة الحياة لمنظمات المجتمع المدنى باعتبارها صمام الامان من الانزلاق للتفكك السياسى.