[email protected] (1) وقفت كثيرا عند الخبر الذى تداولته الصحف المحلية والاجنبية عن اتجاه نظام الانقاذ لتعيين نائب لرئيس الجمهورية من أبناء منطقة دارفور. وقد زادت بعض المصادر فذكرت ان النائب الرئاسى قد يكون من المقربين لدوائر حزب المؤتمر الشعبى. خطر لى ان المخططين الاستراتيجيين للنظام ربما اهتدوا الى هذا المسعى مدفوعين بقناعاتهم حول الدور المفصلى والمؤثر لذلك الحزب على صعيد الازمة الدارفورية. وهو دور لا ينكره الا من جهل تاريخ الازمة وتفاعلاتها منذ انطلاقتها الاولى فى العقد المنصرم. غير ان ذلك لم يكن هو ما شد اهتمامى على اية حال. الذى وجدت نفسى اقف عنده وأتفحصه مليّا هو جوهر الفكرة الاصلية التى انطلقت منها دعوة تعيين نائب للرئيس من اقليم دارفور. الفكرة تتأسس على فرضية نظرية، وهى ان تعيين شخصية سودانية تنتمى الى كيان عرقى او منطقة جغرافية معينة من شأنه ان يضمن رضاء وولاء ومشاركة هذا الكيان، او تلك المنطقة الجغرافية، بروح طيبة وقلبٍ منشرح فى المنظومة السياسية الاوسع. والفكرة والفرضية فى تمام أمرهما تعبران بلا شك عن بصيرة نافذة فى التنظير والتدبير لا غبار عليها، بل ان الشواهد تقوم على نجاعتها، لا على المستوى الوطنى فحسب، بل وعلى المستويين الاقليمى والدولى أيضا. فالبشر هم البشر، على سعة الكون وعلى مدار التاريخ، يتألفهم المال وتستهوى افئدتهم السلطة. فاذا كان هذا الفريق من اهل السودان تسود ثقافته المحلية حكمة شعبية من شاكلة ( سلطة للساق ولا مال للخنّاق)، فكيف يخامرنا الشك فى صواب استراتيجية التلويح بالمناصب الشريفة وتلقائية مردودها فى مواجهة الظلامات السياسية التى يشكو منها ابناء ذلك الاقليم؟ بيد ان هذه الفرضية، على سلامة عمودها النظرى واستقامة شواهد ممارستها فى حيّز التطبيق، لا تصلح لكل زمان ومكان. وانا زعيمٌ بأن النموذج الدارفورى فى حاضره الراهن لا يشكل تربةً صالحة لتجذير هذا الصنف من الاستراتيجيات. والاسباب هنا مزدوجة، بعضها يتعلق ببنية النظام الذى يتبناها ضمن مصفوفةٍ متوخّاه للانفلات من عقال الازمة، وبعضها الآخر يتصل بذلك الفصيل من شعب السودان الذى تراوده العصبة المنقذة عن طموحاته المدججة بالسلاح، وتضرب الى مرضاته أكباد الابل. (2) عرفت التجربة السياسية السودانية فى ظل ديمقراطيات ما بعد الاستقلال صيغة مجالس السيادة التى جسدت رمز رئاسة الدولة ووحدتها حيث كان الحرص جلياً على تأمين التمثيل الجغرافى القبلى بموازاة التمثيل الحزبى السياسى. وقد راعى النظام المايوى، عقب ذلك، نفس الاعتبارات والمعايير فى بناء دولته وتشكيل أبنية حكمه. وفى الحالات النادرة التى اخفق فيها وتقاصر عن استيعاب المعانى الكامنة فى اطروحة التمثيل الاقليمى واستحقاقاته كمضاد حيوى للظلامات الجهوية وافرازاتها البالغة التعقيد، فان النظام المايوى تعلم دروسه وتجاوزها عبر ابتلاءات شديدة القسوة والمرارة، دفع فواتيرها من سمعته ومكانته وهيبته. كان ابرز هذه الابتلاءات هو الثورة الشعبية العارمة التى اجتاحت اقليم دارفور وقلبت عاليها سافلها فى العام 1981، وذلك حين اختار الرئيس نميرى، عند بدايات تطبيق نظام اللامركزية والحكم الاقليمى، العميد الطيب المرضى، الذى ينتمى الى احدى قبائل كردفان، ليكون حاكما لاقليم دارفور الموحد عهدئذٍ. فقد رفض الثوارالحاكم المعين وقالوا: بل يحكم دارفور رجلٌ من دارفور. وكان ان تراجع الرئيس نميرى مكرها ونزل على ارادة الثوار صاغرا، فأعفى العميد الطيب المرضى واقام على الاقليم من رضى به اهلها، وهو السياسى المعتق احمد ابراهيم دريج. واحسب انهم كانوا سيرضون بغيره من ابناء الاقليم ايضا فى تلك الواقعة بالذات، فقد كان الدافوريون يومها يرمون عن قوسٍ واحدة، اذ كانت خميرة الثورة ومادتها هى الاحساس المشترك بالتحقير والتشهير واستصغار الشأن، وذلك بعد اختارت القيادة المايوية جميع حكام الاقاليم من ابنائها، ما عدا اقليم دارفور الذى ملكت زمامه لواحد من ابناء اقليم آخر! وقد راعى قادة الانتفاضة الرجبية مبادئ المحاصصة القبلية والجغرافية الى حد كبير عند تشكيل مؤسسات الحكم الانتقالى فى العام 1985. وخلال حقبة التعددية الثالثة تأكد مبدأ التمثيل الاقليمى عند تأهيل مؤسسات الحكم وشغل مناصب الدولة على نحو لم تخطئه العين المجردة. و كان من أول ما لاحظه الناس يوم أهلّ فجر الثورة المنقذة فى العام 1989 هو ان مجلس قيادة الانقلاب تضمن أسماء لثلاثة ضباط جنوبيين، كما تضمن اسماً لضابط من منطقة جبال النوبة، فى سابقة لم تعرفها الانقلابات التى شهدها السودان من قبل. ولا يعد ذلك مستغربا باستصحاب حقيقة أن سياسيين دهاقنة من بجدة الشيخ حسن الترابى كانوا وراء الانقلاب. (3) لماذا اذن جاءت الاستجابة وردود الفعل لبالونة الاختبار التى اطلقها النظام بشأن تعيين نائب للرئيس من منطقة دارفور خافتة وسالبة ولا مبالية فى جملتها؟ اغلب الظن ان الدافع الرئيس يكمن وراء حقيقة ان المعنيين بالمبادرة، على مستوى الفاعلية والممارسة السياسية، وقطاع كبير من هؤلاء خرجوا هم انفسهم من معطف الحركة الاسلامية وثورتها المنقذة، يعرفون الكثير عن لعبة المناصب واصولها وقوانين ادارة اوراق اللعب فى اروقة الحركة ماضياً، وفى صوالين النظام حاضراً، فقد "عجنوا الدقيق وخبزوه معا". وهم يعرفون لزوماً ان المناصب الرسمية ذات المسميات الشريفة فى كتاب النظام القائم لا تعنى بالضرورة المشاركة الفعلية فى صنع القرار السياسى داخل ماكينة الدولة (الا بقدر ما يشارك الزهاوى ابرهيم مالك الوزير المراسمى للاعلام – على سبيل المثال لا الحصر - فى صناعة ذلك القرار). ذلك ان هناك قانونا يحكم هذا النوع من المشاركة، ولكنه قانون داخلى مُغلق الدائرة، يشبه قوانين الماسونية، تقتصر المعرفة به والولاء لاحكامه على المحركين لدواليب السلطة الاصلية واجنحتها من جانب، والملتحقين بالنظام من المرتضين المكتفين بالمسميات المراسمية الفخرية وامتيازاتها من جانب آخر. لذلك فانه فقط فى ظل نظام حكم ترعاه هذه الحركة تجد ضمن هياكل السلطة وكلاء وزارت يفوق نفوذهم نفوذ الوزراء القائمين على الوزارات نفسها ويتجاوزها بما لا يُقاس. وتجد وزراء دولة يمارسون سلطات شبه رئاسية ويهيمنون على مفاتيح حركة الآلة الحكومية، بينما الوزراء المركزيون لا هنا ولا هناك، تقتصر صلاحياتهم الحقيقية على اصدار الاوامر للسعاة باحضار الشاى والقهوة ومستلزمات الضيافة للزوار. ولا بد ان المعنيين بمنصب نائب رئيس الجمهورية من زمرة الدارفوريين، يعرفون ذلك أيضاً حق المعرفة، ويدركون ان مثل ذلك المنصب قد ينتهى بشاغله الى طقوس بروتوكولية خاوية المضمون، دون تأثير حقيقى على عملية تخصيب مكونات صناعة القرار السياسى. ودونهم – وهم الشهود العدول - تجارب من ارتادوا منصب نيابة الرئيس فى سالف ازمان الانقاذ، بدعوى تأمين التمثيل الاقليمى، من لدن اللواء (شرطة) جورج كنقور اروب والبروفيسور موسيس مشار. لذا فقد بَهُت المنصب الشريف فى عيون من قصدتهم الاشارات من اهل دارفور وباخ فى قلوبهم فانكروه وزهدوا فيه، والتمسوا عزاءهم عند أبى تمام: السيف اصدق إنباءً من الكتب! (4) ولكن هناك ايضا دافع ثانٍ يضعف موضوعيا من عافية وحيوية فرضية تحويل المناصب الدستورية العليا الى اداة للمصانعة السياسية والمساومة الوفاقية بأمل تقريب وتعظيم فرص الوصول الى حل تصالحى سلمى للازمة. اقليم دارفور ليس اقليما منسجماً موحداً تتماهى تحت سمائه قومية واحدة. والذى يدرك طبيعة التراكيب الجغرافية والقبلية والعرقية فى ذلك الجزء من السودان يدرك بالضرورة ان هناك حالات تمتنع فيها واقعيا امكانية الوصول الى شخصيات تحظى باجماع او موافقة غالبة، او حتى برضا وتأييد ذى وزن مقدّر، لا سيما فى ظل اوضاع سياسية بالغة التعقيد كتلك التى بين ناظرينا، تقاطعت فيها الاجندة وتضاربت المصالح واستعظمت الطموحات العشائرية وبلغت المشاعر العدائية ذروتها. وبالتالى فان اختيار نائب لرئيس الجمهورية يبايعه فريق من القوم دون مباركة الفرق الاخرى لن يعدو تأثيره عند هؤلاء الاخيرين سوى مزيد من الاستحكام والتمترس حول الظلامات ومصطلحات التهميش والهرج السياسى. وهكذا ينتهى حال النيابة الرئاسية الى ان يكون (وجعة) اقليمية من حيث اريد له ان يكون (فزعة) قومية. ولكن السؤال الاكثر الحاحاً هنا هو: اذا كانت خطط التحول الديمقراطى، كما تنبئنا كتب العصبة المنقذة، تقضى بقيام انتخابات ديمقراطية مباشرة فى ظرف عدة اشهر من يومنا هذا، يختار السودانيون فى غضونها بارادتهم الحرة من يمثلونهم لحكم البلاد، فما وجه العجلة وما الحكمة فى اختيار نائب لرئيس الجمهورية من اقليم معين فى هذا الوقت بالذات بزعم ارضاء بنيه وموافقة رغائبهم؟ لما لا نصطبر قليلاً الى ما بعد الاستحقاق الانتخابى، فربما الهمنا الله استراتيجيات اكثر جدوى وأمضى فِعالاً، من تقسيم المناصب والتلويح بامتيازاتها، تحسم امر التطلعات الاقليمية بصورة اعمق بعدا واكثر شمولية، على نحوٍ يستوعب حالة التشظى القبلى والعرقى الراهن الذى ارهق بلادنا من أمرها عُسرا، وكبّدها من المشقات ما لا تطيق! د. محمد السيد سعيد غيّب الموت الدكتور محمد السيد سعيد نائب رئيس مركز الاهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية واحد المع الاكاديميين والصحافيين المصريين واكثرهم احتراماً. كان طريقى قد تقاطع مع طريق الراحل الكبير فى يوليو من العام الماضى عندما اعادت صحيفة "البديل" المصرية التى كان يرأس تحريرها نشر مقال لى بعنوان ( فى بيتنا رجل مصرى )، ثم اعقب ذلك بتعليقين مطولين باسمه نشرهما فى يومين متتاليين. وقد رأيت فى المادتين روحاً عدائية فعقبت عليهما فى حينهما بمقال عنوانه (عودة الى الرجل الذى فى بيتنا). كما خصصت صحيفة ( الاحداث) افتتاحيتها للرد على موقفه ذاك. غير اننى وجدت فى شخص الدكتور محمد السيد سعيد، عندما تعرفت عليه لاحقا، مثالا للانسان الصادق الكريم والمثقف الوطنى المتصالح مع مبادئه. ولم اكن قد علمت عن معاناته وصراعه الباهر مع الداء العضال الذى انتهش جسده. فقد كان الرجل، رغم هول المرض ومعاناته، حريصا على الوفاء بمسئولياته فى حقول البحث العلمى والعمل الصحفى حتى آخر لحظة من حياته الوريفة المنتجة التى اوقفها على خدمة قضية الوعى. رحمه الله واثابه عن كريم سجاياه وجزيل عطائه خير المثوبة. ابراهيم سعد حامد انتخبت الجالية السودانية الامريكية بمنطقة واشنطن الكبرى لجنة قيادية جديدة خلفا للجنة السابقة التى انتهت دورتها فى سبتمبر الماضى والتى رأسها المهندس ابراهيم سعد حامد. وعلى الرغم من اننى لست من اهل واشنطن الا اننى اجد لزاما على ان اتوجه ببعض عبارات التقدير للمهندس ابراهيم، كونى من الشاهدين على الانموذج المتميز للعمل العام الناضج الرشيد الذى قدمه خلال العامين الماضيين. استحالت "واشنطن السودانية"، تحت قيادة ابراهيم الى مركز اشعاع سياسى وثقافى وفنى يضج بالحيوية والنشاط الابداعى. وقد اسعدنى كما اسعد الآلاف غيرى أنه - واعضاء لجنته - حرصوا على تضمين كل المحاضرات والندوات العامة والمناشط الاخرى التى رعوها واشرفوا عليها خلال العامين الماضيين فى اشرطة فيديو مبذولة لمرتادى موقع الجالية السودانية الامريكية على الشبكة الدولية (www.sacdo.com). وهو الموقع الذى يعد بدوره انجازا من ارفع انجازات المهندس ابراهيم، وقد بذل فى سبيل انشائه ورعايته وادارته من طاقاته وامكانياته ووقته وخبراته الفنية بذلاناً بلغ معه معدل النقرات على روابطه رقما يعد بالملايين. بعد ان استقطب الى صفحاته الالكترونية حشدا كبيرا من الكتاب والفنانين والمبدعين السودانيين، فأصبح الموقع مصدرا من المصادر المعرفية السودانية الاكثر انتشارا على الشبكة الدولية. تحية من القلب لهذا الرجل الصادق المثابرالمقتدى بهدى ربه ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون). والتهنئة والامنيات الطيبات بالتوفيق والسداد للرئيس المنتخب للدورة الجديدة الدكتور صديق بدوى ومعاونيه. عن صحيفة ( الأحداث ) مقالات سابقة: http://sacdo.com/web/forum/forum_topics_author.asp?fid=1&sacdoname=%E3%D5%D8%DD%EC%20%DA%C8%CF%C7%E1%DA%D2%ED%D2%20%C7%E1%C8%D8%E1&sacdoid=mustafa.batal