ابتسامات البرهان والمبعوث الروسي .. ما القصة؟    انتدابات الهلال لون رمادي    المريخ يواصل تدريباته وتجدد إصابة كردمان    مشاد ترحب بموافقة مجلس الأمن على مناقشة عدوان الإمارات وحلفائها على السودان    مركز الملك سلمان للإغاثة يدشن تسليم الدفعة الثانية من الأجهزة الطبية    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    شمس الدين كباشي يصل الفاو    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    الإمارات وأوكرانيا تنجزان مفاوضات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة    المؤسس.. وقرار اكتشاف واستخراج الثروة المعدنية    القلق سيد الموقف..قطر تكشف موقفها تجاه السودان    الداخلية السودانية: سيذهب فريق مكون من المرور للنيجر لاستعادة هذه المسروقات    مدير شرطة ولاية النيل الأبيض يتفقد شرطة محلية كوستي والقسم الأوسط    السودان..مساعد البرهان في غرف العمليات    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    تدرب على فترتين..المريخ يرفع من نسق تحضيراته بمعسكر الإسماعيلية    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    تجارة المعاداة للسامية    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    سوق العبيد الرقمية!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تَخيَّر فِردَوْسَكَ تلقاه : غَوايَةُ السَّمْراءِ .. بقلم: جمال محمد إبراهيم
نشر في سودانيل يوم 27 - 04 - 2014

قطعةٌ مِن كتابِ "هُنيدة"، مُهداة إلى صديقي مُصطفَى مُدّثر..
[email protected]
قالَ الأخطلُ يُحدّثني عَن "هُنيدة" التي يعرف، وكأنّي كنت معهُ رفيقاً في سنواتِ العَصْر الأمَويّ تلك، وشاهداً على العنفِ النّاعم في حين، ولا مُنتمٍ إليهِ في حينٍ آخر :
- سَمْراءُ في لونِ زيتونةٍ غضّة، وَفي مذاقِ عسلٍ جبليّ . "هُنيدة" . كانت في السادسة عشرة. - قال شاعر(1) جاء بعد قرونٍ بعدي- "صغيرةٌ لا تملاء الكفّ، ولكن مُتعبة. ." في جسدٍ عشريني لافح في سخونتهِ. في استداراتهِ بضاضةٌ ثريّة وليونةٌ مهلكة. حين تلاقتْ نظراتنا ذاتَ مَساءٍ حالم، رأيتها بعينَيّ شاعر، ورأتني هيَ بعينَي لبوَة. كلما تمعّنت في تقاطيعِ "كاترين زيتا جونز"(2) ، رأيت عينين تتحفّزان لنيل شهوة بعيدة ، لا تُقتطف بيُسر. لم يكن بجفنيها ذلك الوسْع الّلافت، بل في صغرِهما إشعاعٌ آسرٌ وقوة ٌجاذبةٌ وصحوةٌ كالإغفاءِ. رأيتُ في العينين صَبْوَةً برّاقةً وشهْوَةً طالعة وتحفّزاً لانقضاض . ألفيتُ فمَاً مزموْماً لا يسع إصبعاً يلجُه. نَظَرْتُها مَليّاً حتى تتجاوز الذّاكرة ذلكَ المُعتاد . ذلكَ الخامِد . لكن لا تُسقِط في استيقاظها ذلك الزّخمَ الفوّار، وَلا ذلك الّلافتَ المُتوثّب. الطّاريءُ الواخِزُ في انتظار الزّمن، لا يستخفِت أبداً بريقه، ولا يَستعمِر جذوته . يظلّ كما أراد له القدرُ : إستثناءاً في الذاكرة، حبيساً في قيودٍ، لا يبرحها .
لم أحدّثهُ برأيٍّ، بلْ سألتُ نفسي : كيفَ رأى صاحبي الرّاوي تلك الفاتنة "كاترين زيتا جونز" في يفاعَتها المُهلكة، وَما أنا بمُستيقنٍ إنْ كانت قد شهدَتْ بعضَ سنوات ذلك الخليفة الأمَويّ الذي بعثَ عسَسَهُ يُحاصرون عاشقته الولهَانة في سُمرتها البهيّة، وقد غشيتها غاشيات الرغبة. . ؟ أيُخادع الزمنُ أُناساً كلّ هذه المخادعة، كلّ هذه المناسخة، أم هي مَراياهُ تتكّسّر فتستحضر غياباً آفلاً، وتستدني مليحةً مثل "كاترين زيتا جونز"، في زمنِ الخُلفاءِ الأماجد، والجنرالات المُلتحين، فتكون مثل "هُنيدة" عنده . .؟
نظرَ الرّاوي يتفرّسَ في وجوهَ مَن هُم حوله. قرأ عن "الوليد بن يزيد"، أو سمعَ عنهُ مِن الأخطل. تلفّتَ كمَن يتقصّى حولهُ شبحَ "الوليد" أو طيفَ "عبد الملك"، في سيرة بني أميّة، فلا يصِل بصرُهُ إلى شيء. يَرتدّ البصرُ حسيرا. ثمّ جالَ بخاطرهِ أنّ فضاءَ الرّملِ في اتصال مجرّاتهِ، سيستدعي امتلاءَ الغابات، إلّا أنْ يكون التاريخُ مقطوعاً من أصلهِ الجُغرافي. السيرة تتناسخ وتتوالد في دفاتر الرّاوي وكُتبهِ. .
في مدينةِ الشجرِ الكثيفِ شرقيّ "جبال القمر"، غربي بحيرة "فيكتوريا"، كان الأنناسُ هناكَ في خباياهُ الإستوائية ، عَسَلاً صرفاً، يَندسّ وراءَ غلافٍ خَشنِ المَلمَسِ. أشجارُ الشاي في كثافتها وقِصَر أغصانها، مثل جيش من أقزامٍ يستزرعون الأوديةَ والتلالَ الخضراءَ إلى جنبات الأفقِ، ثماراً وفاكهة. ذاكرة الرّمان تصحو حينَ يستأنف الرّذاذ إلقاء قصائدهِ في غاباتِ عُكاظ، وعُكاظ كما في زعمِ التاريخ، هيَ سوقٌ للشِّعرِ على جَفنٍ في رمضاءٍ . تجارة مِن كلامٍ، لا يغفو لها صاحبٌ في زمَن الحجّ وضوضاء التجارة.
في مدينةِ التّرابِ، يُلقىَ الشِّعرُ في غاباتٍ لا تدركها كثبانُ الرّملِ، ولا تتثنى على ايقاعِ ملاحنها، خواصِرُ في صَحراءِ الليل . ذلكَ لا يبدو متّسقاً وأحوال الشِّعر، وَلا مُقترباً مِن أحوال الزّمن الأمَويّ، يخرج طليقاً في القرنِ الحادي والعشرين، بلا أدنى كوابح ولا جدران نار. بدا في السياق الماثل هنا، مثل ترتيل آيات الكتاب في جوفِ كنيسٍ، أو هي أجراسٌ تُقرع مِن فوق قبابِ مسجدٍ من مساجد الأمويّين الجامعة في أنحاءِ دمشق، ثم تكون صلاة، والخلافةُ غائبة في الأندلس، وما مِن أثرَ للأخطل في أنحاء المُدن التّرابية..
وبرغمِ غرام الرّاوي بالقُبّعات يخلعها بين القصّةِ والقصّة، حمراء في حينٍ، وخضراء في حينٍ آخر، أوبيضاء بلا دلالات، تعينه على التقصّي، فإنّهُ كتبَ وكأنّه لا يعرف عن صاحبهِ شيئاً، ليزيد الّلبسَ تعقيداً، ويُضفي على الوقائعَ غموضا :
( قالَ : حدّثني مَنْ وثقتُ بجنونهِ، عَن "السّمراءِ" الشبقةِ "هُنيدة"، وقد عرضتْ لصاحبنا في مخدعٍ تخيّراه سِرّاً لمتعتهما ، في مدينة التُّراب تلك:
- قطعة الشوكولاتة . . مُتماسكة صلبة، ولكن في ليونةٍ خبيئة . . تستحضر ذاكرة الشهْوَةِ شبقَ البنتِ "السّمراء" . في مُدنِ الخطّ الاستوائي، الوفرةُ تقتل القيمةَ والنُّدرة، إذ تُسترخَص الأنثى وتُستَملك عنوةً، وكأنّها فاكهة بريّة من عطاء الطبيعةِ، تُؤكل بلا مقابل . لكن حينَ التفّتْ ساقُ "كريستينا" اليُمنى على ساقها اليُسرى، في ليلة عيد الميلاد المجيد تلك، في مسكني المدسوس تحت تشابُكِ الأكاسيا، وفي ظلالِ انفعالات الحشائشِ القصيرة، مَهمومة لغياب الوردِ في ليلة عيْد، تذكّرتُ كيفَ كانت صورتها في روايتي "دفاتر كمبالا" : أميرة من أميرات قبيلة "الأنكولي" في تلالٍ، تطلّ سافرة على "جبال القمر"، غربيّ يوغندا. قطعة أنداءٍ من شوكولاتة . أم تراها هيَ "هُنيدة" قد نفرتْ نفرتها الأولى، وتجلّت لي صبيّة في مخملها الإستوائي، وتدلّت عند تخومِ الغابات على خطّ الوهْمِ الاستوائي، فمّا لحق "الوليدُ" بها، وما أدرك أن الدّوارق خالية ، فلا نزلَ القطرُ . . ؟ )
يَسكت بُرهةً ثمّ يضحك . لا أعرف عمّن حدّثني : أعن السمراء "هُنيدة" في زمانها الأمَويّ، أم عَن الفاتنة "كاترين زيتا جونز" في سنوات القرنِ العشرين اللّاهبة، أمْ عن "كريستينا" مستلقية تحتَ عريشةٍ ، تحُفّ بها أشجارُ الشاى والبُنِ وفاكهة الباباي، والبدَنُ مبتلٌ مِن مياه النّيل، دافئة من منابعها! ؟
استهوتني ضحكته المقتضبة وَهوَ يحكي، ثمّ رسّخَ مِن جنونهِ، مُستطرداً:
- عند بداياتِ تلِّ "نكاسيرو"(3)، في منعطفِ الطريق الذي يشقّ بطن مدينة الغيْم والشجر نصفين، يقع وادٍ أخضر وتلالٌ تطالع السماء. نظرت مليّاً وحزمتُ أمري، وووطّنتُ شبقي ، على محاصرةٍ، لن تكون خاسرة . قطعة من الشوكولاتة تطلّ من جديد، بين شجر الأكاسيا الفارِه. وردةً خجولة على غصنها، ثمّ تسمق كسنديانةٍ تغري بالتسلّق والاحتضان واعتناق الليونة، والانكباب بلا تريّث .
قالَ مُستطرداً مِن تفتّحِ ذاكرتهِ الهَشّة :
- قطعةُ الشوكولاتة، "كريستينا"! لكنّي رأيتها "هُنيدة" وقد تمثلتْ لي في لبوسٍ مُختلفٍ، تقفز الى الذّاكرةِ بلا استئذان . خرجتْ من تصاويرِ مجلاتي القديمة ، في أبيضها وأسودِها ، ومن عصرها الأمَويّ. . .
قال الرّاوي : سكَتَ صاحبي عَن الكلامِ، وكأنّه يبحث عَن ليلةٍ تُكمِل حكايته الواحدة بعد الألفِ، ثُمّ قالَ لي، مِن قبل أنْ تأخذني الظّنونُ بعصرهِ الأمَويّ، والزّمانُ في تحوّله نحوَ الألفيةِ الثالثة :
- كنتُ مُغرَماً بالمجلاتِ تعرض صورَ الحسناوات في ذلك الزّمانِ الأمويّ، الذي لم تكُن فيه ثوراتُ الاتصالِ قد شاعتْ وانداحتْ . نتداول المجلات نُعالج بها مراهقاتنا الفجّة، ولا حيلة لنا غيرها . في الأماسي الدفيئة، تستدعي أحلامُ اليقظةِ نساءاً مُمتلئات عافيةً وشبقا ، ولا نخجل من مُضاجعتهنّ إلى حدِّ الإمتلاء، والتدفّق في الخيالِ البعيد. لا تثنيك الصورةُ الحيّة عن العبث بانثناءات الجسد البضّ، فتحتكر حنوّه إلى حدودِ الإنفجار. في الأمسيات الدفيئةِ، تسأل أجسادنا أسئلة البوحِ واكتشاف غابات الأنثى المخضرّة بدعاً : فاكهةٌ مستديرة، وليونة ٌ مُستساغة ، وخوخٌ في زغبه، حلمٌ غائب . في مائدة الشهوة، أعناب ورُمّان وتفّاح وخوخ بزغبٍ، وآخر بغير زُغب . لكَ أن تسأل رئتيك فتتنفس ما تحتاج. تخيّر فردوسك، تلقاه. .
قطعةُ الشيكولاتة الاستوائيّة. . "هُنيدة" ، هناك أيضا .
قالتْ لهُ مَزهوّة ً بكثرةِ مُحاصريها، والسّيوفُ لوامِع :
- كيفَ لا تراني أنتَ ، والأقمارُ تضيءُ لكَ ما حولي . .؟
قالَ لي هوَ ، كأنّهُ يُجيبني وَلا يُجيبها :
- لا تضاريسُ جسدِها حدّثتني، ولا الأقمارُ كشفتْ لي عَن خبيءِ ثناياها. الفاكهةُ في أغصانها مُعلّقة، تكاد تقفز لشفاهٍ جائعة، وَقد فاجأها انتصافُ النّهار، ثمّ هيَ تجفل من أيدي طالبيها، إجفالَ الطريدةِ من صائدها. الساقُ المُمتليء غيوماً، يكاد برقها أن يمطر على الجفاف المُطبق مِن حولي . "السّبروت": الأرض الخراب ، تسأل أينَ النّدى، وأينَ غيثُ الإغاثة، وأينَ الشّبق المدفون، يرفع رأسه مشرئباً، يتململ من جفافه ؟
رأتني والرّماحُ على أهبتها، مفضوحاً نصبها، و"تي. إس. إليوت" في كاملِ غيبوبتهِ، والدّغل خَرابٌ بائن(4) .
أسفرَ قلبُها عن مَحبّةٍ وَعَن ولعٍ جارفٍ بعاشِقها. وقال الشّاعرُ للرّاوي:
- قوّضَ ثباتي في نهاراتٍ غائمة ، إشتهاءُ الممنوع . . هدّ كتفيّ ولعٌ باقتناءِ المحظور. بالنّزوعِ لقضمِ الفاكهة كلّها، لا للثمِ قشرتها الليّنة، إكتفاءا.
عجينةُ الشّبقِ تتشكّل بين خاصرتها والسُّرّة . مُلتاعةٌ هيَ، متلهّفة تشتاق لبستانيٍّ يأخذ من توحّشِ أغصانها، ما يُعيد إليها الإستدارة الجميلة، ويزيل أوراق خضرتها ، فيتعرّى البضّ فيها ، يتقطر النديّ منها ، فلا يَسلم الجسدُ ولا القلبُ ولا العقلُ ممّا بهِ . تَموْت الشّهوةُ وتحيا، عند قدمَي سمرائي الملسوعة من نظراتي وسهامي . تدنو ساعةُ الظّفرِ الأمويّ، ويكاد يندلق نبيذُ الشهْوَةِ من دورقه. حينَ أقبلتْ "هُنيدةُ" على القصعةِ، ورأتْ ما فيها ، توجّستْ هنيهة، ثمّ همَسَتْ :
- هل تحبّني . . ؟
قالَ يُحدّثني مُهتاجاً ، وَخشيَ أنْ يُحدّثها هيَ :
- كانتْ شهوتُها طاغيةً، ورغبتُها صارخة، في ذلك النّهار. نارُها في اشتعالٍ، وهيَ قُربي، وأنفاسها في وريدي . لفحَني الّلهيبُ ولفحَها . رأيتُ سُمرةً تتلهّب في سعيرها، ولا تخشى ثلجَ الفجر، متلفّعاً ببياضَه الدّاكن السواد . أمسكتُ بها كمَنْ يُمسك ويُحاذِر أن تُسقطهُ عاصِفاتُ الوَجدِ. أوقفَتْ أنفاسَها لي، وأسبلتْ جفنَي غزالٍ واستكانتْ واستسلمتْ واستجارتْ. عند المغيبِ، اندسّتْ الشمسُ وراءَ الغلالات البديعة، ولكن لمْ أمسك لساني – وقد أغواه الشيطانُ- عن لعقِ شفتيها وفمِها، لثماً وتقبيلا .
لم تثبت قطعةُ الشوكولاتة على حالٍ، وأخذها ذوبانُ الوجدِ إلى شبقِ الإنسيال، واستحالتْ صَخرةُ جسدِها، أنهاراً سلسالة بلا توقّف .
همَسَتْ "هُنيدة" مُجدّداً:
- هل تُحبّني . . ؟
سألتهُ هيَ، لكنّه أجابني أنا. أنا الرّاوي غير المَعنيّ بإحداثيّات الشوكولاتة، إذ لا أكاد أستبينُ أيَّ النساءِ يعني : "كريستينا" ، أمْ "هنيدة" ، أم "كاترين زيتا جونز" . . ؟
حدّثني وقال متسائلاً :
- من سيَسرُد في ليلةٍ واحدةٍ مِن ألف ليلةٍ، قصّةَ قُبلةٍ لا تاريخ لها ولا جغرافيا . . ؟ توسَّد لساني لسانها. غابتْ الشمسُ وراءَ أفقِ الشّهوة. هل يباركني شيطاني في مسائي، أم أنكر أنا شيطاني وفضيحتي، قبلَ صياحِ الديك ؟
قالتْ مُستعطفة، تستفتيَ قلبه :
- بعد المغيبِ يَنهمر الليلُ انهماراً . أتراكَ تُحبّني في هذا الليل المُحلَوْلِك ؟
باغَتها آمِراً ، وقد استحضرَ سُلطانَ العِشقِ :
- تجرّدي لي يا قيثارة وَجْدي . .
ثم انثنَى إليها، والسّماءُ غِناءٌ وَمرَح. كتبَ الرّاوي :
حدّثني هوَ، حديثَ الواثقِ مِن شَهوتهِ، المفتونِ بحكاياته، فقال :
- تداعينا إلى وكرٍ مهجور. لم تكن "كاترين زيتا جونز"، ولا حتى شبح جسدِها في الفضاءِ معي، بل كانت هيَ : قطعة الشيكولاتة النّديّة . "هُنيدة" لا غيرها. بهيّة لامِعة تكاد تضيء والليلُ حالكٌ مُسوَد. لفّنا وَجْدُ الصّباح، واستمطَرنا سُحبَ الرَّغبة، وما استكفينا شبقا .
- هل تُريني تصاويرك التي حدّثتني عن روْعتها . . ؟
ضَحِكَ المجنونُ، وَقد رأى من آياتِ الفاتنةِ "كاترين زيتا جونز" أمامه، ما رأى . نسيَ في غمارِ القصّة أنّ العصر الأمَوي، لا يعرف مجلاتٍ تحوي تصاويرَ، أو رسومَ فاضحةً بألوانِ الماء، أو صوراً تتحرك شخوصاً في أسطح بلّور وكأنّها في أبعادٍ ثلاثة. ما حوَتْ مكتبة "الوليد بن يزيد" في قصر الخلافة مجلات الخلاعة والتهتك تلك. لم يرَ الرّاوي إلى ذلك، أثراً ل"بلاي بوي" ولا رأى مقاتلَ الحوتِ في بَردِ شطئآنها وسواحلها، ولا "جسد" جُمانة حدّاد(5) في جبال لبنانها، يوخز الشهوة ويأسر عقلها ، ولم يصل الحاسوب وأضاليله بعد، إلى دهاليز الخلافة .
لم تستوقفه دهشتي ولا حاجباي يرتفعان وينوّهان بما أحسّ ، بل استرسلَ غير مُبالٍ:
- سررتُ بها ومِنها . جلسنا والتصاويرُ بيننا . نظرتُ ونظرتْ . فتاةٌ في غلالتها تجلس بين فخذَي ذكرٍ مفتولٍ من سيقان الشهوة . إصبعها بين شفتيها تتحرق للعق الغائب المخفيّ .
تلاقتْ أنفاسُه بأنفاسها، والدّهشة سُكْرٌ بيّن. تجرّد الجسدُ من اضطرابه، وتولّاها بالمحبّةِ والشّبقِ ورهبةِ القلب، يتوق إليها توقَ الصّوفيّ المتوَلّه بلا حُجب ولا أستار، إلى ربوبية وجدانه. وقفتْ رماحُهُ قبيل أن تحتدم المعركة. تسمّر بَصَرُ الشهوة عند رمحٍ واحدٍ رفع رأسه مُشرئباً إليها، ورمق المُهرُ فارسه. توجّستْ خيفةً، ولكن انفتحتْ شفتاها تلهّفاً واشتياقاً لرمحٍ واخز، والرّمحُ في غِمده لا يزال خبيئا .
لم تعُد قطعةُ الشيكولاتة مَحضَ قطعةٍ ، بل هيَ جمرةٌ لاهِبة ، تُضيء محبّةً وولعا. تجاوزتْ رواية المجنون تلك، مساحات الظلام وعصور الإظلام، كما استدبرتْ عصورَ الاستنارة والعشقِ المفتوح على مصاريعه .
غادرَتْ عصرَها الأمويّ، ثمّ عصَفَ بها زمانٌ مجنونٌ . .
تلاحقتْ أنفاسهُ بأنفاسِها، وَصْلاً واتصالا، واستوَى القائمُ بالقاعد، واستدارتْ الاتجاهات، بجاذبيةٍ طاغية، وامتزج قلبها بجسده ، وكادت أن تستكمل نقصانها، وأن تسدّ ثغورها، وأن تجفل من حرارتها جمراتُها. في انتباهة الشهوةِ، غلبتْ حصونُها رماحه، فرأى- ثانيةً - من آياتها الحُسنى مَا رأى . جمرُها أحرق ثلوجَه، فما صارَ مُمكناً تراجعُ مقاتلهِ أو النّكوص. شربَ من خمرِ شفتيها ما يُسكر سكّان الفردوسِ في آخرةٍ موعودة، بدنانٍ لا ينضب نبيذُها. سالتْ البضاضة أنهاراً واستبدّ به الوجدُ.
في قيامةِ الجسَدِ، سألتهُ :
- هل تَعرفني . . ؟
لكنّهُ آثر أنْ يحدّثني - هذا القادم من عصرٍ لا أعرفهُ تماماً – وآثرَ أن يتجاهل صوتَ السائلةِ المُلتاعةِ ، فقال لي :
- ما أنكرَني جَسَدُ الشيكولاتة ، بل احتواني في فيوضِهِ فانهمرتُ عليهِ، وتطيّبتْ مِن ثغرِ الفاتنةِ السّمراء "كريستينا" ، ورشفتُ رشفاتٍ مُسكراتٍ، واستدفأتْ من رمانتيها دواخلي، وسألتُ عن لؤلؤتين أطلتا عليّ في انهماري مِن سَحَاب ولعي بها، فما استعلمْتُ جوابا. ثمّ رأيتُ عَصْفَ الجسدِ بصلابةِ تفاحتيهِ توخزان الندّى، وتسدّان عليّ طرائق التّراجع ، فانكفأتُ على شهوتي ورماحي ومقاتلي، وما قاومَتْ مَنْ تهَاوتْ بينَ أصابعي صريعة، وسَالتْ أنداؤها عسَلاً صُراحاً، وعطراً فائحاً، وشيكولاتة متذاوبة. ما احتجتُ لفكِّ الشّفرةِ، والغابة انفتحتْ أمامي عُرياً وشبقاً جارفا. .
- ما لكَ. . هل تهابَ مذاقَ فاكهتي . . ؟
حدّثها هذه المَرّة، غير هيّابٍ، غير حافلٍ بمَن حوله :
- سألتكِ يا أنتِ أن ترحمي سَبروتي ، فإنّي غائبٌ عن نفسي وعن شهوتي ، كيفما تكون. . والوجودُ محضُ خراب ، حسبه الشاعر الانجليزي "تي. إس.إليوت" أرضاً تتهاوى وخسرانا..
قالت في تضرُّعِها ، غير آبهةٍ بعسَسِ الخليفة الأمَويّ وسيوفهم مُشرعة، يحاصرون تعريشةَ مسكنها :
- لن ينال منّي بَنو أميّة. . خذني إليكَ حلالاً ، أو انتهبني انتهابا . .
تسابقتْ رِماحي إلى حُصونها بغيرِ عَناءِ. هل سمعها الأخطلُ معي. .؟
قطعةُ الشيكولاتة . نعم، لكنها الآن سُيولٌ مِن زبدِ الشهوةِ، ملآنة دوارقها .
- ترفّق بحصوني . . تُفاحي ورُمّاني ، أما الخوْخة . . .
الخيولُ الأصيلةُ لا تعرف التراجعَ عندَ النِّزال. أمسكَ الفارسُ بعُرفِ جواده، واستحضن عُنقاً مَرمَريّاً ذائبا. بينَ التفاحِ، تراءتْ غيومُ الشّبقِ كفلقِ صَباحٍ قادمٍ . لحوافر الخيلِ صِوات قُبيل الصّهيل، وعندَ الاعتناقِ ، لا مناص من إكمال الجذوةِ تشتعل فلا تخبو .
قالَ المجنونُ يُحدّث نفسهُ، قبيلَ المغيب :
- فرَسي أنتِ يا نديّة الأعطاف . .
لمْ يتوَغّل عَسَسُ الخليفة الأُمَويّ إلى داخلِ تعريشةِ الخُلود ، وَ"هُنيدة" لا تكاد تحتمل عُريَها البادي في الغَلالة الحريرية، والسّيوف مُشهرَة ، والأخطلُ، الشّاعر النّصراني ليس هنا.
- كُوْنِي مَطراً يا مُهْري، واستبقِني بين روادفك وتمهّلي. عليّ أن أقاتل بكِ عِداتي ومُنازليَّ. .
صاحَ المجنونُ يحدّث فراغَ الوادي، وتُراب المدينة يتحوّل عواصفَ من رملٍ حَجَبتْ غَواية اللحظةِ :
- لانتْ ليَ أعطافُها، وأنا مُستظهرٌ مِنها بَدناً يتذاوب كحريرِ المخملِ. ينسال كنهرٍ من رغبةٍ ومِن جُموح . رماحي مسنونة بين ظهرانيها، تُجاهد أن توخز مَهابط نداها، فتتطهّر من ثلوجها ونيرانها، والحصُون بعد عَصيّةٌ على الفاتحين .
لكنّهُ استيقظَ من غيبوبتهِ مغربَ اليومِ، وسألَ "هُنيدة" ، وكأنّها ليستْ تلكَ الجنيّة المَحضة، تتراقص جَزلى في أحلامهِ، وتُغادر صفحات مجلاته وتصاويره، المشحونة شبقاً ووجدا، فيستطلع جسدها الهُلاميّ ، مُحدّثاً :
- هلْ ترينَ معركتي فيكِ وانهزامي عليكِ ، برغم حُجب الترابِ وأستارِ المَغيبِ. . ؟
لمْ تجبهُ ولم يُجِبْها على ما ارتسم مِن عُجْبٍ في عينيها، بل طفقَ يحدّثني مُستغفراً قلبَهُ العاشق :
- فَطِنَتْ فرَسي لِما ساوَرَني مِن وَعثاءِ الامتطاءِ عُسْرٌ، ومِن مُغالبةِ الغيومِ استصعابٌ وهي مَواطرُ مُرعِدة، ومِن الإظلامِ حوالِكٌ وهوَ غيابٌ مُدلهم .
قلتُ أحدّثهُ مؤازراً :
- يا رعَى اللهُ عصرَكَ أيّها الأُمَويّ . . أتخال نفسك قدْ تجاوزتَ كل هذه القرون إلى القرنِ الحادي والعشرين، بآلةِ الزّمنِ (6)، دونَ تكلفة تُذكر. . ؟
نظرتُ حولي والمغيبُ آفلٌ . كان الرّاوي قد غافلني، فسَجّل في أوراقه قولاً جاء على لساني كالشِّعر:
لقد كانت "هُنيدة" مَحْضَ حُلم . .
و"كريستينا" مَحْضَ رؤيا . .
و"كاترين زيتا جونز" مَحْضَ وَهْم . .
وسقطَ الرّاوي صَريْع دهشتهِ ، فمَا هُنيدة" التي رأى إلّا خيالاً محضا. .
انتهت
هوامش
(1) هو الشاعر السوداني الفحل محمد المكّي ابراهيم في ديوانه:" أمّتي"،الخرطوم، 1968.
(2) ممثلة هوليودية حسناء ذات صيت .
(3) "نكاسيرو" واحد من تلال سبعة تحيط بكمبالا عاصمة يوغندا، كما السوار بالمعصم.
(4) الإشارة هنا إلى قصيدة إليوت الشهيرة: "الأرض الخراب".
(5) أصدرتْ الشاعرة اللبنانية جُمانة حدّاد مجلة"جسد" من بيروت في عام 2009.
(6) الإشارة لرواية الكاتب الانجليزي ه. ج. ويلز، الشهيرة :"آلة الزمن"


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.