تتقدم الأُمم من خلال الاستفادة من الخبرات التراكمية في شتى مجالات المعرفة والاستفادة من الصف الأول ومن يليهم من الخبراء لنقل المعرفة. والغريب في الأمر أن السودان ظل طوال عدة حقب زمنية ومنذ الاستقلال يستغنى عن خيرة الخبراء في مجال الخدمة المدنية بحجة وصول سن المعاش أو الصالح العام وكلاهما خسارة كبيرة إذ من المفرض أن يكون معيار الفصل من الخدمة لأسباب الخيانة أو الفساد أو عدم القدرة على أداء مهام الوظيفة وفقاً لمعيار الخدمة. لقد خسر السودان خيرة أبنائه لصالح الدول العربية إذ يجد الذين يُحالوا الى المعاش أو الصالح العام طريقهم بسهولة الى دول العالم بصفة عامة ودول الخليج بصفة خاصة فكم من موظف أحيل الى المعاش تم توظيفه في الخارج كمستشار ويُعضوا عليهم بالنواجذ. القائمة طويلة جداً ولا يمكن حصرها. وفي الآونة الأخيرة أُحيل بعض الأشخاص الذين اعرفهم معرفة جيدة الى المعاش وهم بكامل قدراتهم العقلية والجمسانية وهم سعادة الفريق عادل العاجب تلك الشخصية التي تتمتع بعدة ملكات في مجالات اللغة والقانون والإدارة والأمن إذ كنت أتوقع أن يُعين مستشاراً لوزير الداخلية أو في رئاسة الجمهورية أما الشخصية الثانية فهى الدكتور سليمان جابر مدير المحاجر السابق بوزارة الثروة الحيوانية فهو من الشخصيات التي تتمتع بخبرة امتدت لأكثر من ثلاثين عام ولا زال نشطاً في مجال تخصصه. الشخصية الثالثة هى السيد/ عبد الدافع الخطيب الذي عمل محلقا اعلامياً في كينيا وأدى دوره بكفاءة عالية وكان السبب في فتح السفارة السودانية في لوساكا ( زامبيا) عام 1990م إذ كان يغطي زامبيا اجتهاداً منه وتمكن من تحجيم نشاط حركة تحرير السودان التابعة لجنوب السودان وعندما أصبح وكيلاً لوزارة الاعلام كان صديقاً للصحفيين وقدم مساهمات كبيرة حتى كرمته رئاسة الجمهورية . إنه قادر على العطاء حتى الآن ويمكن أن يكون مستشاراً مدى الحياة لوزارة الاعلام فالسودان بحاجة الى خبراته. وفي هذا السياق هناك عدد من السفراء الذين - وللأسف - يُحالوا الى المعاش دون الاستفادة من خبراتهم التراكمية فلماذا لا تنشئ وزارة الخارجية مجلساً للسفراء السابقين بنفس رواتبهم السابقة لرسم وتطوير السياسة الخارجية فهم الأكثر معرفة بالسياسة الخارجية من غيرهم لاحتكاكهم المباشر بسياسات الدول التي عملوا فيها. أذكر أيضاً من السودانيين المخلصين العميد معاش محجوب مهدي – مدير الخطوط الجوية السودانية سابقاً-الذي كان في غاية النزاهة في العمل ورفض تنحية بعض العاملين في الخطوط الجوية للصالح العام وتم فصله من منصبه لهذا السبب. إذا أراد السودان التقدم فعليه إعادة النظر في سياسة الإحالة الى المعاش فعلى سبيل المثال تمت إحالة سفيرة الولاياتالمتحدةالأمريكية لدى زامبيا الى المعاش بعد بلوغها سن الستين ووجه لها سؤال عن مستقبلها المعاشي فأجابت "لقد تم اختياري في وزارة الدفاع لإلقاء محاضرات عن الدبلوماسية لفترة غير محددة". الشئ الذي يثير التساؤل هو أنه يمكن تعيين أي سياسي حتى ولو بلغ سن الثمانين وزيراً مع أنه قد لا يتمتع بالخبرة فلماذا يُحال من يتمتع بخيرة طويلة وهو في سن الستين للمعاش بينما يتنعم غيره الأكبر منه سناً بمزايا وزارية؟ لماذا لا ننظر الى دول الخليج لنحصي كم عدد السودانيين فوق سن الستين وهم على راس العمل؟ الخبر الجيد أن الحكومة حرمت الإحالة للمعاش أو الفصل من الخدمة للصالح العام وعلى ضوء هذا يجب أن يصبح ذلك جزءاً من الدستور الدائم بحيث لا يحال أي موظف للمعاش الا لأسباب الخيانة أو الفساد أو عدم القدرة العقلية أو الجسمانية في أداء مهام الوظيفة. ينبغي لكل وزارة أن تكون على صلة وثيقة مع الذين أحيلوا للمعاش من أجل الاستفادة من خبراتهم حتى يدركهم الموت.إن علينا أن نستفيد من فحوى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم بأن من لديه غرس عند قيام الساعة فليغرسه ولا شك في أن للمعاشيين غرساً يمكنهم أن يغرسوه في الاقتصاد السوداني عند الشدة . آن الأوان لأن يتم تكريم المعاشيين وإلغاءالمعاش العادي واستبداله بمعاش مقترن بالعمل مع رواتب مجزية تحفظ لهم كرامتهم وتبقيهم داخل السودان فهم بمثابة الآباء الذين لا يستغنى الأبناء عن نصائحهم مهما تقادمت بهم الأعمار. [email protected]