بدء أعمال ورشة مساحة الإعلام في ظل الحكومة المدنية    سفارة السودان بالقاهرة: تأخر جوازات المحظورين "إجرائي" والحقوق محفوظة    ما بين (سبَاكة) فلوران و(خَرمجَة) ربجيكامب    ضربات سلاح الجو السعودي لتجمعات المليشيات الإماراتية بحضرموت أيقظت عدداً من رموز السياسة والمجتمع في العالم    قرارات لجنة الانضباط برئاسة مهدي البحر في أحداث مباراة الناصر الخرطوم والصفاء الابيض    غوتيريش يدعم مبادرة حكومة السودان للسلام ويدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار    صقور الجديان" تختتم تحضيراتها استعدادًا لمواجهة غينيا الاستوائية الحاسمة    مشروبات تخفف الإمساك وتسهل حركة الأمعاء    منى أبو زيد يكتب: جرائم الظل في السودان والسلاح الحاسم في المعركة    نيجيريا تعلّق على الغارات الجوية    «صقر» يقود رجلين إلى المحكمة    شاهد بالفيديو.. فنانة سودانية مغمورة تهدي مدير أعمالها هاتف "آيفون 16 برو ماكس" وساخرون: (لو اتشاكلت معاهو بتقلعه منو)    شرطة محلية بحري تنجح في فك طلاسم إختطاف طالب جامعي وتوقف (4) متهمين متورطين في البلاغ خلال 72ساعة    بالفيديو.. بعد هروب ومطاردة ليلاً.. شاهد لحظة قبض الشرطة السودانية على أكبر مروج لمخدر "الآيس" بأم درمان بعد كمين ناجح    ناشط سوداني يحكي تفاصيل الحوار الذي دار بينه وبين شيخ الأمين بعد أن وصلت الخلافات بينهما إلى "بلاغات جنائية": (والله لم اجد ما اقوله له بعد كلامه سوى العفو والعافية)    منتخب مصر أول المتأهلين إلى ثمن النهائي بعد الفوز على جنوب أفريقيا    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان شريف الفحيل يفاجئ الجميع ويصل القاهرة ويحيي فيها حفل زواج بعد ساعات من وصوله    شاهد بالفيديو.. وسط سخرية غير مسبوقة على مواقع التواصل.. رئيس الوزراء كامل إدريس يخطئ في اسم الرئيس "البرهان" خلال كلمة ألقاها في مؤتمر هام    لاعب منتخب السودان يتخوّف من فشل منظومة ويتمسّك بالخيار الوحيد    كيف واجه القطاع المصرفي في السودان تحديات الحرب خلال 2025    إبراهيم شقلاوي يكتب: وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    كامل إدريس في نيويورك ... عندما يتفوق الشكل ع المحتوى    مباحث قسم الصناعات تنهي نشاط شبكة النصب والاحتيال عبر إستخدام تطبيق بنكك المزيف    عقار: لا تفاوض ولا هدنة مع مغتصب والسلام العادل سيتحقق عبر رؤية شعب السودان وحكومته    البرهان وأردوغان يجريان مباحثات مشتركة    وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    تراجع أسعار الذهب عقب موجة ارتفاع قياسية    ياسر محجوب الحسين يكتب: الإعلام الأميركي وحماية الدعم السريع    شاهد بالصور.. أسطورة ريال مدريد يتابع مباراة المنتخبين السوداني والجزائري.. تعرف على الأسباب!!    وزير الداخلية التركي يكشف تفاصيل اختفاء طائرة رئيس أركان الجيش الليبي    "سر صحي" في حبات التمر لا يظهر سريعا.. تعرف عليه    والي الخرطوم: عودة المؤسسات الاتحادية خطوة مهمة تعكس تحسن الأوضاع الأمنية والخدمية بالعاصمة    فيديو يثير الجدل في السودان    ولاية الجزيرة تبحث تمليك الجمعيات التعاونية الزراعية طلمبات ري تعمل بنظام الطاقة الشمسية    شرطة ولاية نهر النيل تضبط كمية من المخدرات في عمليتين نوعيتين    الكابلي ووردي.. نفس الزول!!    حسين خوجلي يكتب: الكاميرا الجارحة    احذر من الاستحمام بالماء البارد.. فقد يرفع ضغط الدم لديك فجأة    استقالة مدير بنك شهير في السودان بعد أيام من تعيينه    كيف تكيف مستهلكو القهوة بالعالم مع موجة الغلاء؟    اكتشاف هجوم احتيالي يخترق حسابك على "واتسآب" دون أن تشعر    رحيل الفنانة المصرية سمية الألفي عن 72 عاما    قبور مرعبة وخطيرة!    حملة مشتركة ببحري الكبرى تسفر عن توقيف (216) أجنبي وتسليمهم لإدارة مراقبة الأجانب    عزمي عبد الرازق يكتب: عودة لنظام (ACD).. محاولة اختراق السودان مستمرة!    البرهان يصل الرياض    ترامب يعلن: الجيش الأمريكي سيبدأ بشن غارات على الأراضي الفنزويلية    مسيّرتان انتحاريتان للميليشيا في الخرطوم والقبض على المتّهمين    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (حديث نفس...)    مياه الخرطوم تكشف تفاصيل بشأن محطة سوبا وتنويه للمواطنين    الصحة الاتحادية تُشدد الرقابة بمطار بورتسودان لمواجهة خطر ماربورغ القادم من إثيوبيا    مقترح برلماني بريطاني: توفير مسار آمن لدخول السودانيين إلى بريطانيا بسهولة    الشتاء واكتئاب حواء الموسمي    عثمان ميرغني يكتب: تصريحات ترامب المفاجئة ..    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عبدالرحمن علي طه (1901-...): نحو فلسفة تربوية وطنية حديثة (2) .. بقلم: حيدر إبراهيم علي
نشر في سودانيل يوم 17 - 01 - 2015

مثلت إعادة غزو السودان وتوقيع اتفاقية الحكم الثنائي عام1898م مرحلة جديدة ادخلته في اقتصاديات السوق العالمية وكشفته للعالم ليتأثر به ولو بقدر محدود.فلقد أنجز البريطانيون عملية إعادة احتلال السودان بنجاح.ولكن المسألة التي سرعان ما حيرتهم ،وظلت دون حل هي:ماذا يٌعمل به ؟ ودارت نقاشات حول الجدوى الاقتصادية والإستراتيجية، ويبدو أن جدواها الإستراتيجية كانت أكبر من الاقتصادية. وكان من البديهي أنه لن يترك لحاله لأن ذلك سيظهر ان الحملة والنجاح الذي حققته كان ضربا من العبث .كما كان سيترك مصر مرة اخري بدون حماية وفي خطر اولا من ناحية أمن حدودها الجنوبية، وثانيا من عدم تأمين احتياجاتها المائية التي لا يمكن ان تعيش بدونها،وربما ادي ذلك لاحتمال اعادة غزو السودان مستقبلا.ولكن في أول تقرير كتشنر1899 يقول:- "إن ما قام به الدراويش من استئصال كلي لنظام الحكم القديم قد هيأ الفرصة لبدء إدارة جديدة أكثر انسجاما مع حاجات السودان".وهذا يعني أن بعض البريطانيين، رأوا في السودان صفحة بيضاء يمكن أن يخطوا عليها التجارب التي يريدون.ولكن حسب (بيتر وودوارد):"... الامبريالية خلقت دولة بمعني جهاز حكومي،ولكنها جعلتها أيضا أقل من دولة لأنها مستعمرة،أي تابعة بشكل كلي لسلطة أخرى- وفي نفس الوقت هي ليست دولة/ امة بأي معنى،والتي تعني في مفهومها الفضفاض، الدولة الأكثر تطورية وبالتالي الأكثر مقبولية .. بدلا من ذلك هي دولة مفروضة واجنبية، ونسبيا هي بناء تم بطريقة فجائية..بناء مصطنع في أساسه،علي الأقل من وجهة نظر المجتمع المحلي".(كتاب:السودان- الدولة المضطربة 1898-1989.ترجمة محمد علي جادين،جامعة أم درمان الأهلية،2002:12(.
يسمي (محمد المكي إبراهيم) في تصنيفه لاجيال تلك الفترة: المهزمون، ورثة الهزيمة، واحفاد الهزيمة.ولكن الهزيمة العسكرية تركت أثريين حضاريين أو ثقافيين هامين الأول أنها وضعت:"نهاية مفاجئة للتأثير المهدوي علي الثقافة السودانية، ذلك التأثير الذي يبدو كأنما وقف قبل الأوان،،وقبل أن تتبلور انجازاته في شكل حضاري متميز السمات". أما الأثر الآخر الهام:" هو انفتاح أبواب السودان للحضارة الغربية والحماس الذي قوبلت به من أنصارها وأعدائها في جيل المهدويين المهزومين،ولكن الأثر الباقي والأهم هو الانبهار الذي هبط علي الجماهير السودانية".( الفكر السوداني أصوله وتطوره.الخرطوم،1989:40).
كانت هذه بداية المعركة بين الحداثة أو بالأصح التحديث مع التقليدية والمحافظة،والتي لم تتوقف حتي اليوم.وهي بلغة اجتماعية-اقتصادية ،قد أخذت في السودان شكل الصراع بين نخبة الافندية أو المصطلح السياسي لها :القوى الحديثة؛مقابل الطائفية،رجال الدين،والإدارة الأهلية، وسكان الريف،والبدو، أوالقوى التقليدية.وهي صورة تكررت في العالم العربي في شكل الصراع بين العلماء أو الفقهاء والافندية. وقد تعثرت كل محاولات دمج المؤسسة الدينية ضمن القوى الحديثة،لفك الاشتباك.فقد تعثرت دعوات الإصلاح الديني، وأخيرا خطوات تجديد الخطاب الديني. وفي هذا السياق يمكن فهم فلسفة الاستاذ (عبدالرحمن علي طه) التربوية ومواقفه من التعليم.فقد رأي في تربية حديثه،وتعليم متطور في مناهجه، وطرائقه، وأغراضه.وكان مثل هذا التعليم يمثل قطيعة مع تعليم الخلوة التقليدي القائم علي الحفظ والتلقين والعقوبة (ليك اللحم ولينا العضم). وكان التحدي الذي واجه الاستاذ كيف يلج عالم الحداثة دون أن يكون ذلك علي حساب التقاليد والعادات والتي صارت في أحوال كثيرة مترادفة مع العقيدة والأخلاق؟كانت هذه مقاربة فلسفته التربوية،وسبب ميله للريف وتجربة بخت الرضا.وقد كانت تجربة بكرا منحته القدرة علي الحركة والتجريب والحرية.وقد وقاه هذا الاختيار شرور الدوقمائية والتعصب والجمود والتقليد الأعمي، فكسب نفسه في النهاية.فقد كانت بالفعل كما يقول عنوان مقال لأحد أبنائها المخلصين د.محمد خير عثمان:"بخت الرضا..تربية بلا حدود".وهي فعلا بلا حدود:لا حدود بين النظرية والتطبيق،أو بين الفكرة والممارسة أو بين القناعة والسلوك .. لا حدود بين المدرسة والمجتمع ،لا حدود بين التربية المؤقتة والتربية المستمرة،أو التربية المبرمجة والمخططة مقابل التربية العفوية والتلقائية". ويكتب في مناسبة أخرى، أن بخت الرضا ليست تربية رافضة بل كانت تجربة توفيقية.رغم أنها رفضت طرق الخلوة من حيث التركيز علي الحفظ والتلقين والاستظهار بينما انطلقت بخت الرضا من شعار التعليم بالعمل والخبرة والتحليل والاستنباط.ويقول بأن بخت الرضا لم تكن لها نظرية تربوية بالمعنى الضيق لهذا المصطلح وإنما كانت لها "توجهات تربوية" تقوم علي مبدأ واقعي، وكانت البيئة الريفية السودانية هي مرجعيتها. (محاضرة في عيد الاستقلال قدمه في النادي السوداني بمسقط،يناير1994).وهو يقصد لم يكن لها نموذجا ثابتا تقلده،لأن هذه التوجهات التي ذكرها تمثل في حد ذاتها نظرية متكاملة.
يشير الاستاذ في ورقة علمية قدمها لجامعة كولمبيا بنيويورك عام1949 إلي فلسفته التربوية التي تفتح الامكانيات لانتاج النفوس العظيمة والقادة الحكماء،يقول:" أنن ندرك أن شعبنا يحتاج أكثر من أي شيء آخر إلي قادة حكماء يتحلون بالنزاهة والشجاعة.أننا لا نقدر علي اقامة نظام لانتاج النفوس العظيمة.ولكن بإمكاننا ابتداع نظام يتيح للعظمة الظهور ويشجعها علي ذلك، ولا يكبلها بالضيق المميت منهج سيء الإعداد.هل أنا علي حق؟ أم هل يجب أن نتوسع في انتشار التعليم بالرغم من ان فقرنا سيجعل هذا التوسع ضئيلا؟ هل يجب تحريك الخط الوسط بين الكم والكيف في اتجاه الكم أكثر مما اقترحه أنا؟"(أوراق...ص54).
كان(قريفث) والاستاذ منفتحين علي تجارب العالم التربوبة بوعى وانتقائية عملية ونقدية.ففي رد ل(قريفث) علي بعض النقد الخاص بأنهم نقلوا تجارب الآخرين،يقول:"لم لا نقتبس من غيرنا ونوفر المال الذي ننفقه علي التجارب ليصرف علي زيادة عدد المدارس؟ونحن نأخذ المادة والطرقة من غيرنا ونستفيد من خبرتهم وأبحاثهم في علم النفس واختبار الذكاء وطرق التدريس وفروع المعرفة المختلفة والأفكار الجديدة.وهذا شئ طبيعي لأن المبادئ التربوية عالمية تصلح لكل زمان ومكان".واضاف انه ما من أمة تريد تنشئة جيل قوي وثاب تنقل ما عند الآخرين من فنون التربية بلا وعى متجاهلة اختلاف المحيط الطبيعي والاجتماعي، فاختلاف ظروف كل قطر يجعل الاختلاف علي التفاصيل أمرا لابد منه.(فدوى...،ص124).وهذه فكرة الاصل والعصر او التراث والمعاصرة، تأتينا من خواجة وعمليا.وهذا ما قاله الاستاذ في خطاب لوزير التربية والتعليم(حسن عوض الله) ردا علي دعوة للمشاركة في مؤتمر لتطوير المناهج:" وما من شك أن إعادة النظر في مناهج الدراسة من حين لآخر،تأخذ به جميع الدول وخاصة الناشئة منها، فهي لا تدخر وسعا في الانتساب للمؤتمرات العالمية، وفي زيارة الأقطار الأخرى للتعرف علي مناهج الدراسة المستعملة في مدارسها، والوقوف علي كل ما يمت بصلة لتطبيق تلك المناهج كطرق التدريس،والكتب المقررة لكل مادة، والكتب المعدة للتلاميذ، والاهتمام بتخريج المدرسين والعناية بأمرهم بعد التخرج في متابعة نشاطهم بالفرق التجديدية".(أوراق..،ص188).وفي نفس الخطاب يذكره "أن العلم لا يعرف وطنا".
طرح الأستاذ الموجهات العامة لنظريته التربوية ، وهي كما قال عنها: "الاهداف والأغراض التي ترمي لتحقيقها مناهج التعليم الأولي هي نفس الأغراض والأهداف العالمية الثابتة".وقد لخصها فيما يلي:-
1- استعمال الفكر وترك الاستظهار الذي يميت العقل والقلب معا.
2- التربية الخُلقية بطريقة عملية.
3- التربية الوطنية بطريقة عملية.
4- الاستفادة من علم النفس في تطبيق الأصول المتقدمة بالطرق التي تتمشي مع ميول الطفل وغرائزه: التفسير القصصي،التمثيل،الزيارات الفعلية، تدوين الملاحظات...الخ.
5- ومن ثم إثارة الاهتمام بالدرس والتحصيل.(المصدر السابق،ص189).
نلاحظ تكرار وتأكيد مقولة"طريقة عملية" ويقصد بها العلم النافع.وكان الرسول الكريم يقول دائما أنه يخشي علي أمته من علم لا ينفع أو من عالم يضلها بعلمه.ومن هنا جاء اختلاف الاستاذ عن "الحداثيين"المرتكزين علي الإيديولوجيات والتنظير المجرد،وفي نفس الوقت – طبعا - مع المحافظين والتقليديين الحريصين علي استمرار الأمر الواقع مخلدا.فقد تميز الاستاذ علي كثير من اليساريين والشيوعيين والتقدميين ،الداعين للتغيير بل الثورة.فقد ظل هؤلاء مدنيين أو حضرين، ميالين لحياة البورجوازية الصغيرة في المدن رغم الشعارات التي تعلن الإنحياز للطبقات الكادحة.ولكنهم اهتموا بالنواحي التنظيمية مثل تكوين الاتحادات والنقابات.وهو هدف مطلوب في عملية التغيير،ولكنها غالبا ما تركز علي النضال السياسوي والمطلبي.وقد قام الاستاذ "الليبرالي" بمهام أصحاب الإيديولولوجيات الكبري حين اهتم بحملات محو الامية،وتعليم الكبار"كل واحد يعلم واحد"، وبالتعليم المرتبط بالعمل الزراعي،وتحسين أحوال الريف. فقد أراد "مركسة" الواقع، فالماركسية الحقيقية هي دراسة الواقع الفعلي،وفهمه جيدا، ثم الخروج بقوانين اجتماعية نابعة منه نفسه وليس من أذهاننا.وهذا ما فعله الاستاذ متفوقا علي اليساريين والتقدميين والذين عكسوا الأمر تماما.فقد حاولوا إدخال الواقع في الإيديولوجيا الجاهزة مكتفين بكبسولة المراحل التاريخية الخمس لتحليل التاريخ والمجتمع. فحملة محو الامية كان الأجدر أن يتبناها اليساريون والتقدميون في الخمسينيات والستينيات، ولكنهم كانوا مشغولين بنظريات الصراع الطبقي، والمجادلة حول وضعية البورجوازية الصغيرة والكبيرة.مثل هذه الحملة كانت ستقف سدا منيعا أمام الفكر الظلامي في الريف ،وبالتالي استحالة أن تفرض نخبة إسلاموية مشروعها المتخلف.وقد كان (عبدالرحمن علي طه) يستخدم بعفوية نفس لغتنا التي نستعرض بها تقدميتنا، ونستخدمها بتقعر وافتعال.ففي حديث له عن التدريب الخلقي،يقول:" لم يكن من الصعب التفكير في أنشطة في مدارسنا تتيح فرصا لتطور الشخصية،وإن كان ابتكار هذه الانشطة يبدو صعبا أحيانا.وقد مضي بعض الوقت قبل أن ندرك الصفات الأخلاقية اللازمة إذا كان لبلادنا أن تصبح حديثة وديمقراطية."(أوراق...ص57).
تفوق الاستاذ علي الفكر والتنظيم الإسلامويين في السودان، واللذان اختلفا حول أولوية السلطة أم التربية سابقة عليها في تغيير المجتمع؟فقد كانت نظريته قائمة علي التربية أولا مع التركيز علي التدريب الخلقي.وقد إنحاز الاسلامويون للسلطة أولا ثم تقوم هي بفرض التربية والأخلاق التي تقررها سياسيا.وكان(الترابي)يزجر من يقول بأولوية التربية:" كذلك لا مجال في سيلق دين التوحيد للمراء البعيد في خيار تقديم التربية الأخلاقية الاجتماعية بسياسة الدعوة أو الإصلاح التنفيذي المباشر بقوة السلطان،متي تمكنت منها حركة الإسلام.أما أكثر الذين ينادون بالتربية دون القانون بحجة التمهيد والتوفيق فانما يريدون تجريد حافز القرآن من الاستنصار بوازع السلطان وعزل الدين عن الحكم،ولا خير في تربية مزعومة تعطل الحكم بما أنزل الله". (كتاب: نظرات في الفقه السياسي.الناشر الشركة العالمية لخدمات الإعلام(بدون تاريخ )ص56).وكانت النتيجة أنهم أقاموا سلطة ثيوقراطية شمولية، فاغرقوا البلاد في الفساد والضلالة والانحلال:دولة اضاعت الأخلاق والتربية ومعهما الدين،رغم الارهاب والقطع من خلاف وجلد الفتيات في الاماكن العامة.وبقي لنا مشروع دولة بلا أخلاق ولا دين، وفيها يمكن التحلل من كل شئ مع سيادة فقه الضرورة.
من ناحية أخرى، أجمع الأفندية باختلاف إيديولوجياتهم علي رفض ارتباط التعليم الأولي بالريف والقرية، من منطلقات متباينة.بينما كان مؤسسو بخت الرضا يؤمنون بأن المدرسين يجب أن يتدربوا في وسط ريفي يبعث فيهم الاهتمام بالحياة الريفية وهي الحياة التي تحياها الأغلبية العظمى من سكان السودان.(فيصل عبدالرحمن،أوراق...،ص22).ومن جملة النقد الموجه لبخت الرضا أن إنشاء المعهد علي أسس ريفية بحتة لا ينظر الي المستقبل الذي يمكن أن يتطور إليه السودان وبعضهم قال بلغة أخري أن الاتجاه الريفي هو فخ استعماري يصرف السودان عن الاتجاه نحو الصناعة! ورأي رجال المعهد العلمي أن بخت الرضا تريد القضاء علي الخلاوي.(فدوى...،ص125).وقد تعرض المعلم (جوليوس نايريري) في تنزانيا لنفس المحنة،فكتب :" ولمّا كان الريف هو مجتمع الناس حيث يعيشون ويعملون، فإنه يتحتم علينا بترقية الحياة فيه ولكن هذا لا يعني أنه لن تقوم لنا صناعات في المستقبل القريب، ففي تنزانيا اليوم بعض الصناعات وسوف تشهد هذه الصناعات مزيدا من التوسع في المستقبل.ولكننا نجافي الواقع كثيرا لو خيل لنا أن أكثر من نسبة ضئيلة من المواطنين ستعيش في مدن تتوافر لهم فيها فرص العمل في منشئات صناعية حديثة.ومن هنا يتحتم علينا أن نجعل من القرى مواقع أفضل للحياة، تتهيأ فيها للجماهير الفرص لتحقيق ما تنشده من رفاهية وهناء".(التربية من أجل الاعتماد علي النفس.ترجمة علي النصري حمزة.الخرطوم،دار نشر جامعة الخرطوم،1978:17).فقد كان يري في الاهتمام بالريف أساس أي تنمية حقيقية في الدول حديثة الاستقلال، ولذلك طالب بأن يكون التعليم ريفيا وحديثا واشتراكيا في آن واحد.
ويورد أحد التربويين ملاحظة هامة ذات مدلولات عدة حين يكتب :" وعلي الرغم من أن أغلب الطلاب كانوا من بيئة ريفية مجاورة،فإنه لم يكن من اليسير ادخال وتعميم أهداف التربية الريفية.ذلك لأن معظم المدرسين السودانيين لم يكونوا ميالين للحياة الريفية،وذلك فضلا عن أن الرأي العام السوداني لم يحبذ اتجاه التعليم في هذا المنحى"(محمد عمر بشير ص200).ومرة أخرى يكتب(نايريري)عن هذه الظاهرة بصورة أعمق،مذكرا بأن:" تلاميذنا إنما يتعلمون الاستخفاف حتي علي آبائهم بدعوى أنهم جهلاء وغير عصريين وما ذلك إلا لأن نظامنا التعليمي الراهن يخلو مما يمكن أن يوحي للتلاميذ بأنهم يستطيعون أن يتعلموا من كبارهم شيئا ذا أهمية في الزراعة.ولهذا فإن هؤلاء الصغار يتشربون من ذويهم قبل أن يذهبوا للمدرسة معتقدات السحر ولا يتعلمون منهم خواص الاعشاب المحلية.ويتشربون التابو ولا يتعلمون طرق طهي الوجبات التقليدية ذات القيمة الغذائية،فإذا ما ذهبوا للمدرسة تعلموا فيها معارف عديمة الصلة بالحياة الزراعية- إنهم في الواقع، يتلقون أسوأ ما في النظامين".(مصدر سابق،ص25). ويقول (قريفث) في وداع الاستاذ (عثمان محجوب) الذي كلف بافتتاح فرع لمعهد التربية في الدلنج:"...ليس من الخدمة الفريدة في نوعها التي اسداها عثمان أفندي محجوب-هي تدريب أجيال طريقة الحساب(في إمكان آخرين أن يفعلوا ذلك)ولكن هي شغفه بالزراعة وبالحياة الريفية في وقت كان كل المدرسين تقريبا بلا استثناء منغمسين في العمل داخل الفصول،ومشغولين بمسرات المدينة".(فدوى،ص134).
كان (قريفث) يعرف صديقه جيدا، ويقرأ دواخله،ويعطيه قيمته الحقيقية،لذلك أدرك كيف يفكر الاستاذ.فكتب في وداعه:" وإذا كان لابد من اختيار شيء بارز في مساهمته فأني أحسب أن الفترة التي كانت فيها مسألة الحرية في المدرسة مضطربة من حيث تفهم النظام والسلوك،فإن عبدالرحمن افندي استطاع- بفكر ثاقب يحسن التوازن-أن يؤثر بشكل ملحوظ في أجيال متتالية من مدرسي المدارس الأولية في طور خطير من تدريبهم وبدء حياتهم العملية،وسيزداد تقديرنا لكل ذلك بمرور الزمن حين يضطلع هؤلاء المدرسون بمراكز ذات مسؤولية".(فدوى...،مصدر سابق،ص13).وهنا التقط الفكرة المفتاحية في فلسفة الأستاذ: مسألة الحرية.ثم أدرك الأستاذ التناقض الجوهري بين الحرية والجهل. ولذلك علق( الوزير عبدالرحمن علي طه)-بذكاء وحكمة نادرين- عندما هم بقص الشريط التقليدي في افتتاح مدرسة (خورطقت)الثانوية في 28 يناير 1950، لوح بالمقص ثم قال:" اليوم أقص رقبة الجهل في غرب السودان".(أوراق...،ص91)وهو سعيد فقد أكرمه القدر ولم يعش حتي يري الجهل والتعصب وهو يقص رقاب أهل غرب السودان.
(نواصل)
[email protected]
ملحوظة:
لم أقصد في المقال السابق التقليل من قيمة ابداع خليل فرح وتوفيق صالح جبريل الذي لا أمل سماع رائعته كل لتبعدني عن أي ضجر غادر.ولكن أفرق بين مستويين:بين إبداع رائع جماليا وفنيا (استطيقيا) فقط،وبين أن تتحول المعاني التي يخلقها الابداع إلي نمط حياة وثقافة قعدات ورؤية.وقد أضر هذا النمط ومازال يضر بمبدعي السودان ويقضي عليهم فيزيقييا أو روحيا- مبكرا.وقد كان (توفيق)نفسه أبرز هؤلاء الضحايا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.