السودان الافتراضي ... كلنا بيادق .. وعبد الوهاب وردي    إبراهيم شقلاوي يكتب: يرفعون المصاحف على أسنّة الرماح    د.ابراهيم الصديق على يكتب:اللقاء: انتقالات جديدة..    لجنة المسابقات بارقو توقف 5 لاعبين من التضامن وتحسم مباراة الدوم والأمل    المريخ (B) يواجه الإخلاص في أولي مبارياته بالدوري المحلي بمدينة بربر    الهلال لم يحقق فوزًا على الأندية الجزائرية على أرضه منذ عام 1982….    شاهد بالفيديو.. لدى لقاء جمعهما بالجنود.. "مناوي" يلقب ياسر العطا بزعيم "البلابسة" والأخير يرد على اللقب بهتاف: (بل بس)    شاهد بالصورة والفيديو.. ضابطة الدعم السريع "شيراز" تعبر عن إنبهارها بمقابلة المذيعة تسابيح خاطر بالفاشر وتخاطبها (منورة بلدنا) والأخيرة ترد عليها: (بلدنا نحنا ذاتنا معاكم)    لماذا نزحوا إلى شمال السودان    جمهور مواقع التواصل بالسودان يسخر من المذيعة تسابيح خاطر بعد زيارتها للفاشر ويلقبها بأنجلينا جولي المليشيا.. تعرف على أشهر التعليقات الساخرة    شاهد بالصور.. المذيعة المغضوب عليها داخل مواقع التواصل السودانية "تسابيح خاطر" تصل الفاشر    جمهور مواقع التواصل بالسودان يسخر من المذيعة تسابيح خاطر بعد زيارتها للفاشر ويلقبها بأنجلينا جولي المليشيا.. تعرف على أشهر التعليقات الساخرة    أردوغان: لا يمكننا الاكتفاء بمتابعة ما يجري في السودان    مناوي .. سلام على الفاشر وأهلها وعلى شهدائها الذين كتبوا بالدم معنى البطولة    وزير الطاقة يتفقد المستودعات الاستراتيجية الجديدة بشركة النيل للبترول    المالية توقع عقد خدمة إيصالي مع مصرف التنمية الصناعية    أردوغان يفجرّها داوية بشأن السودان    اللواء الركن"م" أسامة محمد أحمد عبد السلام يكتب: الإنسانية كلمة يخلو منها قاموس المليشيا    وزير سوداني يكشف عن مؤشر خطير    شاهد بالصورة والفيديو.. "البرهان" يظهر متأثراً ويحبس دموعه لحظة مواساته سيدة بأحد معسكرات النازحين بالشمالية والجمهور: (لقطة تجسّد هيبة القائد وحنوّ الأب، وصلابة الجندي ودمعة الوطن التي تأبى السقوط)    بالصورة.. رجل الأعمال المصري نجيب ساويرس: (قلبي مكسور على أهل السودان والعند هو السبب وأتمنى السلام والإستقرار لأنه بلد قريب إلى قلبي)    إحباط محاولة تهريب عدد 200 قطعة سلاح في مدينة عطبرة    السعودية : ضبط أكثر من 21 ألف مخالف خلال أسبوع.. و26 متهماً في جرائم التستر والإيواء    الترتيب الجديد لأفضل 10 هدافين للدوري السعودي    «حافظ القرآن كله وعايشين ببركته».. كيف تحدث محمد رمضان عن والده قبل رحيله؟    محمد رمضان يودع والده لمثواه الأخير وسط أجواء من الحزن والانكسار    وفي بدايات توافد المتظاهرين، هتف ثلاثة قحاتة ضد المظاهرة وتبنوا خطابات "لا للحرب"    أول جائزة سلام من الفيفا.. من المرشح الأوفر حظا؟    مركزي السودان يصدر ورقة نقدية جديدة    برشلونة ينجو من فخ كلوب بروج.. والسيتي يقسو على دورتموند    "واتساب" يطلق تطبيقه المنتظر لساعات "أبل"    بنك السودان .. فك حظر تصدير الذهب    بقرار من رئيس الوزراء: السودان يؤسس ثلاث هيئات وطنية للتحول الرقمي والأمن السيبراني وحوكمة البيانات    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    غبَاء (الذكاء الاصطناعي)    مخبأة في باطن الأرض..حادثة غريبة في الخرطوم    رونالدو يفاجئ جمهوره: سأعتزل كرة القدم "قريبا"    صفعة البرهان    حرب الأكاذيب في الفاشر: حين فضح التحقيق أكاذيب الكيزان    دائرة مرور ولاية الخرطوم تدشن برنامج الدفع الإلكتروني للمعاملات المرورية بمركز ترخيص شهداء معركة الكرامة    عقد ملياري لرصف طرق داخلية بولاية سودانية    السودان.. افتتاح غرفة النجدة بشرطة ولاية الخرطوم    5 مليارات دولار.. فساد في صادر الذهب    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    الحُزن الذي يَشبه (أعِد) في الإملاء    السجن 15 عام لمستنفر مع التمرد بالكلاكلة    عملية دقيقة تقود السلطات في السودان للقبض على متّهمة خطيرة    وزير الصحة يوجه بتفعيل غرفة طوارئ دارفور بصورة عاجلة    الجنيه السوداني يتعثر مع تضرر صادرات الذهب بفعل حظر طيران الإمارات    تركيا.. اكتشاف خبز عمره 1300 عام منقوش عليه صورة يسوع وهو يزرع الحبوب    (مبروك النجاح لرونق كريمة الاعلامي الراحل دأود)    المباحث الجنائية المركزية بولاية نهر النيل تنهي مغامرات شبكة إجرامية متخصصة في تزوير الأختام والمستندات الرسمية    حسين خوجلي يكتب: التنقيب عن المدهشات في أزمنة الرتابة    دراسة تربط مياه العبوات البلاستيكية بزيادة خطر السرطان    والي البحر الأحمر ووزير الصحة يتفقدان مستشفى إيلا لعلاج أمراض القلب والقسطرة    شكوك حول استخدام مواد كيميائية في هجوم بمسيّرات على مناطق مدنية بالفاشر    السجائر الإلكترونية قد تزيد خطر الإصابة بالسكري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عبدالرحمن علي طه (1901-...): نحو فلسفة تربوية وطنية حديثة (2) .. بقلم: حيدر إبراهيم علي
نشر في سودانيل يوم 17 - 01 - 2015

مثلت إعادة غزو السودان وتوقيع اتفاقية الحكم الثنائي عام1898م مرحلة جديدة ادخلته في اقتصاديات السوق العالمية وكشفته للعالم ليتأثر به ولو بقدر محدود.فلقد أنجز البريطانيون عملية إعادة احتلال السودان بنجاح.ولكن المسألة التي سرعان ما حيرتهم ،وظلت دون حل هي:ماذا يٌعمل به ؟ ودارت نقاشات حول الجدوى الاقتصادية والإستراتيجية، ويبدو أن جدواها الإستراتيجية كانت أكبر من الاقتصادية. وكان من البديهي أنه لن يترك لحاله لأن ذلك سيظهر ان الحملة والنجاح الذي حققته كان ضربا من العبث .كما كان سيترك مصر مرة اخري بدون حماية وفي خطر اولا من ناحية أمن حدودها الجنوبية، وثانيا من عدم تأمين احتياجاتها المائية التي لا يمكن ان تعيش بدونها،وربما ادي ذلك لاحتمال اعادة غزو السودان مستقبلا.ولكن في أول تقرير كتشنر1899 يقول:- "إن ما قام به الدراويش من استئصال كلي لنظام الحكم القديم قد هيأ الفرصة لبدء إدارة جديدة أكثر انسجاما مع حاجات السودان".وهذا يعني أن بعض البريطانيين، رأوا في السودان صفحة بيضاء يمكن أن يخطوا عليها التجارب التي يريدون.ولكن حسب (بيتر وودوارد):"... الامبريالية خلقت دولة بمعني جهاز حكومي،ولكنها جعلتها أيضا أقل من دولة لأنها مستعمرة،أي تابعة بشكل كلي لسلطة أخرى- وفي نفس الوقت هي ليست دولة/ امة بأي معنى،والتي تعني في مفهومها الفضفاض، الدولة الأكثر تطورية وبالتالي الأكثر مقبولية .. بدلا من ذلك هي دولة مفروضة واجنبية، ونسبيا هي بناء تم بطريقة فجائية..بناء مصطنع في أساسه،علي الأقل من وجهة نظر المجتمع المحلي".(كتاب:السودان- الدولة المضطربة 1898-1989.ترجمة محمد علي جادين،جامعة أم درمان الأهلية،2002:12(.
يسمي (محمد المكي إبراهيم) في تصنيفه لاجيال تلك الفترة: المهزمون، ورثة الهزيمة، واحفاد الهزيمة.ولكن الهزيمة العسكرية تركت أثريين حضاريين أو ثقافيين هامين الأول أنها وضعت:"نهاية مفاجئة للتأثير المهدوي علي الثقافة السودانية، ذلك التأثير الذي يبدو كأنما وقف قبل الأوان،،وقبل أن تتبلور انجازاته في شكل حضاري متميز السمات". أما الأثر الآخر الهام:" هو انفتاح أبواب السودان للحضارة الغربية والحماس الذي قوبلت به من أنصارها وأعدائها في جيل المهدويين المهزومين،ولكن الأثر الباقي والأهم هو الانبهار الذي هبط علي الجماهير السودانية".( الفكر السوداني أصوله وتطوره.الخرطوم،1989:40).
كانت هذه بداية المعركة بين الحداثة أو بالأصح التحديث مع التقليدية والمحافظة،والتي لم تتوقف حتي اليوم.وهي بلغة اجتماعية-اقتصادية ،قد أخذت في السودان شكل الصراع بين نخبة الافندية أو المصطلح السياسي لها :القوى الحديثة؛مقابل الطائفية،رجال الدين،والإدارة الأهلية، وسكان الريف،والبدو، أوالقوى التقليدية.وهي صورة تكررت في العالم العربي في شكل الصراع بين العلماء أو الفقهاء والافندية. وقد تعثرت كل محاولات دمج المؤسسة الدينية ضمن القوى الحديثة،لفك الاشتباك.فقد تعثرت دعوات الإصلاح الديني، وأخيرا خطوات تجديد الخطاب الديني. وفي هذا السياق يمكن فهم فلسفة الاستاذ (عبدالرحمن علي طه) التربوية ومواقفه من التعليم.فقد رأي في تربية حديثه،وتعليم متطور في مناهجه، وطرائقه، وأغراضه.وكان مثل هذا التعليم يمثل قطيعة مع تعليم الخلوة التقليدي القائم علي الحفظ والتلقين والعقوبة (ليك اللحم ولينا العضم). وكان التحدي الذي واجه الاستاذ كيف يلج عالم الحداثة دون أن يكون ذلك علي حساب التقاليد والعادات والتي صارت في أحوال كثيرة مترادفة مع العقيدة والأخلاق؟كانت هذه مقاربة فلسفته التربوية،وسبب ميله للريف وتجربة بخت الرضا.وقد كانت تجربة بكرا منحته القدرة علي الحركة والتجريب والحرية.وقد وقاه هذا الاختيار شرور الدوقمائية والتعصب والجمود والتقليد الأعمي، فكسب نفسه في النهاية.فقد كانت بالفعل كما يقول عنوان مقال لأحد أبنائها المخلصين د.محمد خير عثمان:"بخت الرضا..تربية بلا حدود".وهي فعلا بلا حدود:لا حدود بين النظرية والتطبيق،أو بين الفكرة والممارسة أو بين القناعة والسلوك .. لا حدود بين المدرسة والمجتمع ،لا حدود بين التربية المؤقتة والتربية المستمرة،أو التربية المبرمجة والمخططة مقابل التربية العفوية والتلقائية". ويكتب في مناسبة أخرى، أن بخت الرضا ليست تربية رافضة بل كانت تجربة توفيقية.رغم أنها رفضت طرق الخلوة من حيث التركيز علي الحفظ والتلقين والاستظهار بينما انطلقت بخت الرضا من شعار التعليم بالعمل والخبرة والتحليل والاستنباط.ويقول بأن بخت الرضا لم تكن لها نظرية تربوية بالمعنى الضيق لهذا المصطلح وإنما كانت لها "توجهات تربوية" تقوم علي مبدأ واقعي، وكانت البيئة الريفية السودانية هي مرجعيتها. (محاضرة في عيد الاستقلال قدمه في النادي السوداني بمسقط،يناير1994).وهو يقصد لم يكن لها نموذجا ثابتا تقلده،لأن هذه التوجهات التي ذكرها تمثل في حد ذاتها نظرية متكاملة.
يشير الاستاذ في ورقة علمية قدمها لجامعة كولمبيا بنيويورك عام1949 إلي فلسفته التربوية التي تفتح الامكانيات لانتاج النفوس العظيمة والقادة الحكماء،يقول:" أنن ندرك أن شعبنا يحتاج أكثر من أي شيء آخر إلي قادة حكماء يتحلون بالنزاهة والشجاعة.أننا لا نقدر علي اقامة نظام لانتاج النفوس العظيمة.ولكن بإمكاننا ابتداع نظام يتيح للعظمة الظهور ويشجعها علي ذلك، ولا يكبلها بالضيق المميت منهج سيء الإعداد.هل أنا علي حق؟ أم هل يجب أن نتوسع في انتشار التعليم بالرغم من ان فقرنا سيجعل هذا التوسع ضئيلا؟ هل يجب تحريك الخط الوسط بين الكم والكيف في اتجاه الكم أكثر مما اقترحه أنا؟"(أوراق...ص54).
كان(قريفث) والاستاذ منفتحين علي تجارب العالم التربوبة بوعى وانتقائية عملية ونقدية.ففي رد ل(قريفث) علي بعض النقد الخاص بأنهم نقلوا تجارب الآخرين،يقول:"لم لا نقتبس من غيرنا ونوفر المال الذي ننفقه علي التجارب ليصرف علي زيادة عدد المدارس؟ونحن نأخذ المادة والطرقة من غيرنا ونستفيد من خبرتهم وأبحاثهم في علم النفس واختبار الذكاء وطرق التدريس وفروع المعرفة المختلفة والأفكار الجديدة.وهذا شئ طبيعي لأن المبادئ التربوية عالمية تصلح لكل زمان ومكان".واضاف انه ما من أمة تريد تنشئة جيل قوي وثاب تنقل ما عند الآخرين من فنون التربية بلا وعى متجاهلة اختلاف المحيط الطبيعي والاجتماعي، فاختلاف ظروف كل قطر يجعل الاختلاف علي التفاصيل أمرا لابد منه.(فدوى...،ص124).وهذه فكرة الاصل والعصر او التراث والمعاصرة، تأتينا من خواجة وعمليا.وهذا ما قاله الاستاذ في خطاب لوزير التربية والتعليم(حسن عوض الله) ردا علي دعوة للمشاركة في مؤتمر لتطوير المناهج:" وما من شك أن إعادة النظر في مناهج الدراسة من حين لآخر،تأخذ به جميع الدول وخاصة الناشئة منها، فهي لا تدخر وسعا في الانتساب للمؤتمرات العالمية، وفي زيارة الأقطار الأخرى للتعرف علي مناهج الدراسة المستعملة في مدارسها، والوقوف علي كل ما يمت بصلة لتطبيق تلك المناهج كطرق التدريس،والكتب المقررة لكل مادة، والكتب المعدة للتلاميذ، والاهتمام بتخريج المدرسين والعناية بأمرهم بعد التخرج في متابعة نشاطهم بالفرق التجديدية".(أوراق..،ص188).وفي نفس الخطاب يذكره "أن العلم لا يعرف وطنا".
طرح الأستاذ الموجهات العامة لنظريته التربوية ، وهي كما قال عنها: "الاهداف والأغراض التي ترمي لتحقيقها مناهج التعليم الأولي هي نفس الأغراض والأهداف العالمية الثابتة".وقد لخصها فيما يلي:-
1- استعمال الفكر وترك الاستظهار الذي يميت العقل والقلب معا.
2- التربية الخُلقية بطريقة عملية.
3- التربية الوطنية بطريقة عملية.
4- الاستفادة من علم النفس في تطبيق الأصول المتقدمة بالطرق التي تتمشي مع ميول الطفل وغرائزه: التفسير القصصي،التمثيل،الزيارات الفعلية، تدوين الملاحظات...الخ.
5- ومن ثم إثارة الاهتمام بالدرس والتحصيل.(المصدر السابق،ص189).
نلاحظ تكرار وتأكيد مقولة"طريقة عملية" ويقصد بها العلم النافع.وكان الرسول الكريم يقول دائما أنه يخشي علي أمته من علم لا ينفع أو من عالم يضلها بعلمه.ومن هنا جاء اختلاف الاستاذ عن "الحداثيين"المرتكزين علي الإيديولوجيات والتنظير المجرد،وفي نفس الوقت – طبعا - مع المحافظين والتقليديين الحريصين علي استمرار الأمر الواقع مخلدا.فقد تميز الاستاذ علي كثير من اليساريين والشيوعيين والتقدميين ،الداعين للتغيير بل الثورة.فقد ظل هؤلاء مدنيين أو حضرين، ميالين لحياة البورجوازية الصغيرة في المدن رغم الشعارات التي تعلن الإنحياز للطبقات الكادحة.ولكنهم اهتموا بالنواحي التنظيمية مثل تكوين الاتحادات والنقابات.وهو هدف مطلوب في عملية التغيير،ولكنها غالبا ما تركز علي النضال السياسوي والمطلبي.وقد قام الاستاذ "الليبرالي" بمهام أصحاب الإيديولولوجيات الكبري حين اهتم بحملات محو الامية،وتعليم الكبار"كل واحد يعلم واحد"، وبالتعليم المرتبط بالعمل الزراعي،وتحسين أحوال الريف. فقد أراد "مركسة" الواقع، فالماركسية الحقيقية هي دراسة الواقع الفعلي،وفهمه جيدا، ثم الخروج بقوانين اجتماعية نابعة منه نفسه وليس من أذهاننا.وهذا ما فعله الاستاذ متفوقا علي اليساريين والتقدميين والذين عكسوا الأمر تماما.فقد حاولوا إدخال الواقع في الإيديولوجيا الجاهزة مكتفين بكبسولة المراحل التاريخية الخمس لتحليل التاريخ والمجتمع. فحملة محو الامية كان الأجدر أن يتبناها اليساريون والتقدميون في الخمسينيات والستينيات، ولكنهم كانوا مشغولين بنظريات الصراع الطبقي، والمجادلة حول وضعية البورجوازية الصغيرة والكبيرة.مثل هذه الحملة كانت ستقف سدا منيعا أمام الفكر الظلامي في الريف ،وبالتالي استحالة أن تفرض نخبة إسلاموية مشروعها المتخلف.وقد كان (عبدالرحمن علي طه) يستخدم بعفوية نفس لغتنا التي نستعرض بها تقدميتنا، ونستخدمها بتقعر وافتعال.ففي حديث له عن التدريب الخلقي،يقول:" لم يكن من الصعب التفكير في أنشطة في مدارسنا تتيح فرصا لتطور الشخصية،وإن كان ابتكار هذه الانشطة يبدو صعبا أحيانا.وقد مضي بعض الوقت قبل أن ندرك الصفات الأخلاقية اللازمة إذا كان لبلادنا أن تصبح حديثة وديمقراطية."(أوراق...ص57).
تفوق الاستاذ علي الفكر والتنظيم الإسلامويين في السودان، واللذان اختلفا حول أولوية السلطة أم التربية سابقة عليها في تغيير المجتمع؟فقد كانت نظريته قائمة علي التربية أولا مع التركيز علي التدريب الخلقي.وقد إنحاز الاسلامويون للسلطة أولا ثم تقوم هي بفرض التربية والأخلاق التي تقررها سياسيا.وكان(الترابي)يزجر من يقول بأولوية التربية:" كذلك لا مجال في سيلق دين التوحيد للمراء البعيد في خيار تقديم التربية الأخلاقية الاجتماعية بسياسة الدعوة أو الإصلاح التنفيذي المباشر بقوة السلطان،متي تمكنت منها حركة الإسلام.أما أكثر الذين ينادون بالتربية دون القانون بحجة التمهيد والتوفيق فانما يريدون تجريد حافز القرآن من الاستنصار بوازع السلطان وعزل الدين عن الحكم،ولا خير في تربية مزعومة تعطل الحكم بما أنزل الله". (كتاب: نظرات في الفقه السياسي.الناشر الشركة العالمية لخدمات الإعلام(بدون تاريخ )ص56).وكانت النتيجة أنهم أقاموا سلطة ثيوقراطية شمولية، فاغرقوا البلاد في الفساد والضلالة والانحلال:دولة اضاعت الأخلاق والتربية ومعهما الدين،رغم الارهاب والقطع من خلاف وجلد الفتيات في الاماكن العامة.وبقي لنا مشروع دولة بلا أخلاق ولا دين، وفيها يمكن التحلل من كل شئ مع سيادة فقه الضرورة.
من ناحية أخرى، أجمع الأفندية باختلاف إيديولوجياتهم علي رفض ارتباط التعليم الأولي بالريف والقرية، من منطلقات متباينة.بينما كان مؤسسو بخت الرضا يؤمنون بأن المدرسين يجب أن يتدربوا في وسط ريفي يبعث فيهم الاهتمام بالحياة الريفية وهي الحياة التي تحياها الأغلبية العظمى من سكان السودان.(فيصل عبدالرحمن،أوراق...،ص22).ومن جملة النقد الموجه لبخت الرضا أن إنشاء المعهد علي أسس ريفية بحتة لا ينظر الي المستقبل الذي يمكن أن يتطور إليه السودان وبعضهم قال بلغة أخري أن الاتجاه الريفي هو فخ استعماري يصرف السودان عن الاتجاه نحو الصناعة! ورأي رجال المعهد العلمي أن بخت الرضا تريد القضاء علي الخلاوي.(فدوى...،ص125).وقد تعرض المعلم (جوليوس نايريري) في تنزانيا لنفس المحنة،فكتب :" ولمّا كان الريف هو مجتمع الناس حيث يعيشون ويعملون، فإنه يتحتم علينا بترقية الحياة فيه ولكن هذا لا يعني أنه لن تقوم لنا صناعات في المستقبل القريب، ففي تنزانيا اليوم بعض الصناعات وسوف تشهد هذه الصناعات مزيدا من التوسع في المستقبل.ولكننا نجافي الواقع كثيرا لو خيل لنا أن أكثر من نسبة ضئيلة من المواطنين ستعيش في مدن تتوافر لهم فيها فرص العمل في منشئات صناعية حديثة.ومن هنا يتحتم علينا أن نجعل من القرى مواقع أفضل للحياة، تتهيأ فيها للجماهير الفرص لتحقيق ما تنشده من رفاهية وهناء".(التربية من أجل الاعتماد علي النفس.ترجمة علي النصري حمزة.الخرطوم،دار نشر جامعة الخرطوم،1978:17).فقد كان يري في الاهتمام بالريف أساس أي تنمية حقيقية في الدول حديثة الاستقلال، ولذلك طالب بأن يكون التعليم ريفيا وحديثا واشتراكيا في آن واحد.
ويورد أحد التربويين ملاحظة هامة ذات مدلولات عدة حين يكتب :" وعلي الرغم من أن أغلب الطلاب كانوا من بيئة ريفية مجاورة،فإنه لم يكن من اليسير ادخال وتعميم أهداف التربية الريفية.ذلك لأن معظم المدرسين السودانيين لم يكونوا ميالين للحياة الريفية،وذلك فضلا عن أن الرأي العام السوداني لم يحبذ اتجاه التعليم في هذا المنحى"(محمد عمر بشير ص200).ومرة أخرى يكتب(نايريري)عن هذه الظاهرة بصورة أعمق،مذكرا بأن:" تلاميذنا إنما يتعلمون الاستخفاف حتي علي آبائهم بدعوى أنهم جهلاء وغير عصريين وما ذلك إلا لأن نظامنا التعليمي الراهن يخلو مما يمكن أن يوحي للتلاميذ بأنهم يستطيعون أن يتعلموا من كبارهم شيئا ذا أهمية في الزراعة.ولهذا فإن هؤلاء الصغار يتشربون من ذويهم قبل أن يذهبوا للمدرسة معتقدات السحر ولا يتعلمون منهم خواص الاعشاب المحلية.ويتشربون التابو ولا يتعلمون طرق طهي الوجبات التقليدية ذات القيمة الغذائية،فإذا ما ذهبوا للمدرسة تعلموا فيها معارف عديمة الصلة بالحياة الزراعية- إنهم في الواقع، يتلقون أسوأ ما في النظامين".(مصدر سابق،ص25). ويقول (قريفث) في وداع الاستاذ (عثمان محجوب) الذي كلف بافتتاح فرع لمعهد التربية في الدلنج:"...ليس من الخدمة الفريدة في نوعها التي اسداها عثمان أفندي محجوب-هي تدريب أجيال طريقة الحساب(في إمكان آخرين أن يفعلوا ذلك)ولكن هي شغفه بالزراعة وبالحياة الريفية في وقت كان كل المدرسين تقريبا بلا استثناء منغمسين في العمل داخل الفصول،ومشغولين بمسرات المدينة".(فدوى،ص134).
كان (قريفث) يعرف صديقه جيدا، ويقرأ دواخله،ويعطيه قيمته الحقيقية،لذلك أدرك كيف يفكر الاستاذ.فكتب في وداعه:" وإذا كان لابد من اختيار شيء بارز في مساهمته فأني أحسب أن الفترة التي كانت فيها مسألة الحرية في المدرسة مضطربة من حيث تفهم النظام والسلوك،فإن عبدالرحمن افندي استطاع- بفكر ثاقب يحسن التوازن-أن يؤثر بشكل ملحوظ في أجيال متتالية من مدرسي المدارس الأولية في طور خطير من تدريبهم وبدء حياتهم العملية،وسيزداد تقديرنا لكل ذلك بمرور الزمن حين يضطلع هؤلاء المدرسون بمراكز ذات مسؤولية".(فدوى...،مصدر سابق،ص13).وهنا التقط الفكرة المفتاحية في فلسفة الأستاذ: مسألة الحرية.ثم أدرك الأستاذ التناقض الجوهري بين الحرية والجهل. ولذلك علق( الوزير عبدالرحمن علي طه)-بذكاء وحكمة نادرين- عندما هم بقص الشريط التقليدي في افتتاح مدرسة (خورطقت)الثانوية في 28 يناير 1950، لوح بالمقص ثم قال:" اليوم أقص رقبة الجهل في غرب السودان".(أوراق...،ص91)وهو سعيد فقد أكرمه القدر ولم يعش حتي يري الجهل والتعصب وهو يقص رقاب أهل غرب السودان.
(نواصل)
[email protected]
ملحوظة:
لم أقصد في المقال السابق التقليل من قيمة ابداع خليل فرح وتوفيق صالح جبريل الذي لا أمل سماع رائعته كل لتبعدني عن أي ضجر غادر.ولكن أفرق بين مستويين:بين إبداع رائع جماليا وفنيا (استطيقيا) فقط،وبين أن تتحول المعاني التي يخلقها الابداع إلي نمط حياة وثقافة قعدات ورؤية.وقد أضر هذا النمط ومازال يضر بمبدعي السودان ويقضي عليهم فيزيقييا أو روحيا- مبكرا.وقد كان (توفيق)نفسه أبرز هؤلاء الضحايا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.