هذه مقالات متتابعة تحكي عن حياة الشيخ بابكر بدري كما رواها هو في كتابه المسمى تاريخ حياتي .. ولقد قام هذا المحرر بتلخيص ذلكم الكتاب ، وها هو ينشره للنفع العام ، في حلقات متتابعة، على غرار (بداية المجتهد ونهاية المقتصد). لعمري لن يستغني المجتهد عن قراءة الكتاب الأصل. أما المقتصد والذي لا يجد سعة في وقته، أحسب أن هذه المحررات ستعطيه الفكرة والمعلومات الكفيلة بالتعريف بالشيخ المعلم المجاهد التاجر الفقيه والسياسي ايضاً.، رحمه الله وأحسن إليه.أرجو أن يسعد القراء بهذا العمل.. رب بارك لي وأربي صالح العمل القليل.. وأنسجن بالنور دربي واحفظني لا أميل. الصادق عبدالله عبدالله [email protected] قرارات الخليفة بمنع التجارة مع سواكن: في هذه الظروف استقدم الخليفة عبدالله جيش محمود ود أحمد من الفاشر. وكثر في السوق الريال المجيدي، الذي كان يصرف للجنود. وقد ألغته الحكومة في سواكن، ولم يعد وسيلة تبادل. فأصبح يباع بنصف ثمنه، كمعدن فضة وليس نقوداً. وعندما بلغت الشكوى الخليفة جمع كل التجار ، ليخبروه بالأمر. وقد تبين للخليفة أن التجار يدخلون إلى سواكن ، حيث كان يفاد بأن التبادل التجاري يتم في نقطة ككريب. ليصدر الخليفة قراراً بمنع التجار من الدخول إلى سواكن التي كانت تحت سيطرة الحكومة المصرية. وقد كانت نتيجة منع دخول التجار إلى سواكن شح البضائع وارتفاع أثمانها وأثمان الغلال. في شعبان عام 1898م/1315ه ولد ابراهيم بدري، وقد تدهورت حالتنا ولم نستطع عمل سماية له كحالنا الأول. بينما أنا في تلك الحالة، طلبني صديق موسى للسفر معه إلى رفاعة. وقد كانت له غلال يخشى عليها من المصادرة في تلك الظروف الحرجة. وقد كان العامل في رفاعة مختار محمد قريش الرباطابي، الذي عملت معه من قبل، ولدي معه صلة ذات خصوصية. ولما شرحت موقفى لصديق سلفني أردب، لحاجة أسرتي. وقد كان لصديق ما أراد من سلامة مطاميره (مخازن الغلال التي هي عبارة عن حفر تحت الأرض). كما أعطاني مختار ستة أرادب، أرسلتها مع صديق موسى ليستلمها والدي منه بام درمان. ولما رجعت لأم درمان، بلغنا أن خليفة المهدي انتوي فتح الطريق مع سواكن. وقد أصبحنا في حالة من الارتباك، بين فتح الخرطوم ووصول جيش الحكومة إلى بربر . وفى أحد الأيام كذلك، جئت من السوق، وقد وجدت أثاث زوجتي حفصة في حوش الديوان. فسالت مريم والدتها عن السبب. فقالت: أبوك طلقنا. فقلتُ لها (رغماُ عن رغبتي الاكيدة في زوجتي، خصوصاً بحجرها التوأمان أول أولادي على صغرهما) إذا كان والدي لا يرضى ببقاء ابنتك معي، فإن كلامه يمضي عليّ. فأخبرت هي ابنتها (زوجتي) ثم شاع الخبر. دخلت عليّ السهوة أختي وقالت النسوان نقلن أمتعتهن كلها. فقلتُ لها في إمكاني أن اتزوج امراة اخرى وأن ألد أولاداً، لكن ليس في إمكاني أن اشتري والداً أبداً. فإذا لم يرض والدي فإن كلامه يمضي بلا شك. فذهبت السهوة لهن وأكدت لهن ذلك. ثم ذهبت السهوة إلى أبي سألته عن السبب واخبرته بكلامي. فقال لها إن كانت ترغب في زوجها، فلتأتي لي هنا وتقول ولدك عديل (أي عادل). فرجعت لها السهوة وأتت بها عند أبي واسمعته اعتذارها بقولها (ولدك عديل)، فقال لها أرجعي إلى بيتك. أنا عفوت عنك، وبابكر لا يستطيع أن يسألك عن هذا الكلام (سبب الطلاق) أبداً، فما سألتها عنه ابداً. الأيام الأخيرة في المهدية: دخلت سنة 1899م/1316 ه وقد سبقتها أحداث زعزعت اعتقاد المعتقدين، إلا من عصم الله، وقليل ما هم. فقد سقطت كسلا في يوم السابع من ربيع آخر سنة1312ه/1895 ، وسقطت دُنقُلا في الخامس عشر من ربيع ثاني سنة 1314ه/1897م ، وواقعة المتمة في غرة صفر سنة 1315 ه/1898، وسقوط ابي حمد في الثامن من ربيع اول سنة 1315 ه/ 1898م ووصول السكة حديد أبو حمد. واحتلال شندي في التاسع والعشرين من شوال سنة 1315 ه/1898، وأكبر من كل ذلك إنكسار جيش الأمير محمود في النخيلة بنهر أتبرة في يوم الجمعة الثالث عشر من ذو العقدة سنة 1315ه. /1898م وقد أنفلت الأمر في الجزيرة وكثر فيها النهب والسلب. وبعد واقعة النخيلة فكر خليفة المهدي في الدفاع عن أم درمان، وأحدث تغييراً في قيادات الجيش، ثم استنفر الخليفة القبائل في الجزيرة والنيلين بحيث يأتي الرجال القادرين على الجهاد، ولا تحضر النساء ولا الأطفال. وقد حدث في ذلك اختلال عظيم وانقلاب لحال الناس،، ذلك بعد أن كان أهل الجزيرة عنصراً هامّاً في فتح الخرطوم في مطلع المهدية. قضيت سنة 1898م/1316 ه، والسنتين قبلها في التعلُّم والمطالعة. حيث طالعت ديوان ابن الفارض، تفسير الكشاف، وكان عندي شرح معلقات الزوزوني، ولم أكن ميّالاً له، لأنه لا يبعث الروح الدينية، كما يبعثها كتاب الحكم لإبن عطاء الله السكندري. كانت النفوس تستعد للموت، والأخبار المروعة تصم الآذان. فالكل يتساءل ما الخبر؟ وكان الجو مشحوناً بالشائعات. كنتُ قد دعوت بعض اصدقائي للغداء معي. ثم خرجتُ منهم لأنظر مدى جاهزية الغداء. وعندما عدتُ إليهم سألوني ما الخبر؟، ولم تكن المدة التي خرجتُ فيها إلا بضع دقائق، ولم أتعد سور المنزل. قلتُ لهم نعم. جاءت ثلاثة وابورات وصلت حلة مديني (شمال شلال السبلوقة، بالضفة الغربية للنيل، إحدى قرى حجر العسل)، لتأخذ الغلال. ضربها جماعة محمود وكسروا منها واحدة ، ورجعت الأخريات. فنقل بعضهم هذا الخبر، مع علمه أني نسجته من عندي. حتى انتشر الخبر وبلغني ، قلتُ لمبلغي أنا الذي صنعتُ هذا الخبر على سبيل الفكاهة. ومن الغريب أنّه بعد أسبوع حدث هذا بالفعل. بعد عقد نية الخليفة الدفاع عن أم درمان ارتفعت أسعار الذرة سريعاً، حتى بلغ الأردب منه بستة وثلاثين ريالاً، هذا لتنافس الناس أصحاب العائلات الكبيرة لشراء مؤنتهم. أما أنا ومن معي فلم نشتر. أضطررت أخيراً أن استلف ذرة من موسى يعقوب. وكان ذلك في يوم الاثنين الثلاثين من أغسطس سنة 1898 م، أي قبل سقوط أم درمان باربعة أيام. وفي يوم الثلاثاء لم أستطع استلام الذرة، لمّا سمعنا وصول الوابورات إلى أطراف أم درمان. وأصبح يجول بخاطري إذا ما حوصرت أم درمان، أو تغلب جيش الحكومة على الخليفة وخرج من أم درمان. هذا وقد ذقت تعب الهجرة مع جيش ود النجومي. فكيف ننجو إذا حدث الحصار. فجرى على لساني أبيات من حكم ابن عطاء الله، وهي كالآتي: أيها المبلو صبرا لا تضق للكرب صدرا لم تحط بالغيب خبرا لا تدبر لك أمرا فأولي التدبير هلكى وأرض كل ما أردنا واستفد مما افدنا للنوائب أن تردنا سلم الأمر تجدنا نحن أولى بك منك فأطمأن قلبي. يليه (واقعة كرري ونهاية المهدية)