مر علي خاطري حديث تبادلته مع عدد من الزملاء قبل عدة سنوات حول ثقافات المتنوعة الدول وهوياتها المختلفة. وأذكر أن الحديث تناول جوانب عدة للثقافة والهوية, إلا أنه تطرق بصورة خاصة الي مفردة " خلاسي" والتي علق عليها أحدهم في معرض حديثه حينها بما معناه أنها مفردة تحمل في داخلها بعض من دلالات سالبة وأشار تحديداً الي فقدان الهوية وضياعها. فرددت عليه وقتها بأنني لا اتفق معه علي ان صفة "خلاسي" تدل علي فقدان وضياع الهوية. فالخلاسي بالمعني البيولوجي كما يقال ,انما هو انسان هجين .. والهجين كما هو معروف في علم الاحياء ياخذ عادة افضل ما في الطرفين من صفات. الا ان ما تناوله الحديث حينذاك من أن هوية الخلاسي تذوب وتتوزع في هويات متعددة هي إشارة صحيحة نوعا ما في رأيي , و دونك السودان كنموذج "خلاسي اصيل" يبحث عن هوية "لا خلاسية". فتراه متنازعاً ما بين هويته التي بين جنبيه وهواه الذي بين عينيه. فالسودان مثلاً نصف عربي ونصف زنجي (أنظر قصيدة: بعض الرحيق أنا والبرتقالة أنت, للشاعر السوداني المجيد محمد المكي إبراهيم) والتي يقول فيها: الله يا خلاسيه يا حانةٌ مفروشةٌ بالرمل يا مكحولة العينين يا مجدولة من شعر أغنية يا وردة باللون مسقيّه بعض الرحيق أنا والبرتقالة أنت يا مملوءة الساقين أطفالا خلاسيين يا بعض زنجيّه يا بعض عربيّه وبعض أقوالى أمام الله ومع ذلك لا نستطيع القول ان السودان ضائع الهوية , وانما يصلح أن يقال انه تائه عن طريق هويته.. فالهوية السودانية تعاني من تنازع ما بين بعضها الأفريقي وبعضها العربي. تقولب ذلك التنازع في عدة أشكال منها الأدبي كمدرستي "الغابة والصحراء", ومنها السياسي مثل الأحزاب القومية وغير ذلك. إلا أن تلك "المتاهة المصطنعة" التي يعيش فيها بعض السودانيين لن تدوم طويلاً إذا نظروا وكرروا النظر إلي قرارة أنفسهم وتمعنوا في داخل ذواتهم. إن الناظر الي ارث السودان الحضاري المتراكم علي مدي العصور لا يري سوي إرثاً خلاسياً. ذلك الإرث الممتد منذ ما قبل التاريخ حتي صار مهداً للحضارة الفرعونية التي إمتدت شمالاً إلي مصر ومازالت أثارها التي تعود إلي عدة آلاف من السنين باقية إلي اليوم شاهداً علي شعب طوع الصخر دهوراً.. انظر الي إرثه الافريقي الماثل في سحنات السودانيين وألسنتهم.. وأنظر لإرثه المسيحي قبل أن يتحول لاحقاً إلي الإسلام وتعاليمه السمحة.. وكل من المسيحية والإسلام اديان سماوية تسعي لتهذيب النفس الإنسانية وتنقيتها وترقيتها.. وانظر الي إرثه العربي لساناً وثقافة وبعض من دماًء.. يكاد ذلك الإستقطاب الحاد ما بين مكوني الهوية السودانية الذي تجده عند بعض المثقفين ينعدم إذا ذهبت الي بعض أحياء أمدرمان القديمة الآن. هنالك ستجد القبطي المسيحي والمسلم السني والصوفي وستجد أسر من قبائل سودانية مختلفة يتجاورون ويتزاورون..جاءوا من الشرق والغرب.. ومن الشمال والجنوب والوسط.. لا يربط بينهم سوي هذا الإرث المشترك.. ستري كل ذلك أمامك وستتيقن حينها بأن السودان خلاسي عرقاً وحضارةً.. هويً وهويةً. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.