عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. تناقض مريب نلمحه في صلب المقولات التي تجد رواجاً في الآونة الأخيرة، هي تلك التي ترى في النموذج (الخلوتي والعرفاني والصوفي) نموذجاً حياً لإسلام حقيقي، ومكمن هذا التناقض أن من ينشر هذه الآراء تقوم مرجعيته على رفض أشكال هذا النوع من التدين، فهو في نظره يكرس للتبعية ويعمق فكرة الطاعة العمياء، وقد يكون السبب وراء هذا التناقض في رأينا يتمحور حول نية من ينتجون هذا الخطاب منع الدين من دخول الحياة السياسية، فهم في قرار وعيهم لا يريدون إلا ديناً على النمط المسيحي، وهو رفع الستار عن أية أدوار يمكن أن يلعبها العقل الإسلامي في قضايا الراهن. لكن ثمة تيارات للوعي الإسلامي في مطلع القرن الماضي، حينما دخل عنصر جديد على الساحة ليخلص العقل السوداني من رهق الطائفية بفرعيها المتعاون علانية مع خطط المستعمر والرافض في جهره أدبياتها، وإن كان يتمثلها في وعيه الباطن سياسياً واجتماعياً، وفي ذلك جاءت تيارات الإسلام الحداثي، ممثلة في آراء الدكتور الترابي التجديدية، ونقول أنه قد تركبت التربة الاجتماعية السودانية على مزاج إفريقي كامل الدسم، حتى أن نوبيتنا ومسيحيتنا بل وإسلامنا كذلك انجرف في تيار إفريقية السودانيين، فبات كل دخيل من القيم المعرفية مشروط بحتمية الانقياد بالمطلق لصالح تبيئة خاصة، وخاصة جداً، لتحول الوافد بضميره إلى ضمير المتكلم بالأنا الراسخة في وجدان الأمة السودانية، فالممالك النوبية في جسمنا الحضاري كانت متأفرقة بالشكل الذي سمح للرحالة والكشافة بأن يسمونا بأحباش سود الوجوه من لظى شمس القارة، فقد أطلق المصريون اسم "تانهسو" على كل ما يقع في جنوب بلادهم والتي تعني (بلاد السود) وهنا فالذي بقى من روح النوبة حتى بعد مسيحيتها هو المعبد Temple ومن المهم جداً التركيز على فكرة تأسيس المكان في وعي أي حضارة، فقديماً كانت بلاد اليونان تحتكر المعنى الاجتماعي لها في (معبد دلفي)، وكذلك جوبتير الدمشقي الذي انتهى أطلالاً عند الجامع الأموي، ولا ننسى ما كان للكاتدرائيات من مكانة معتبرة عند المتدينين، وأيضاً معابد الشمس وما كان الفراعنة يقدسونه من مخرجات وقرارات كهنة آمون، وذلك فإن كل التراتيل في العقائد القديمة تتمحور حول فكرة المكان وقداسته، وفي مصر القديمة نجد دعاء إلى مين-حورس: "تعبد فى مين، وإبتهل لحورس الرافع ذراعه. سلاما عليك، أيا مين، فى مختلف تجلياتك. إنك من تعلو رأسك ريشتان عاليتان . أيا ابن أوزيريس، الذى ولدته إيزيس، أيها الإله الأعظم فى معبد إينوت". وهنا ففكرة العمارة؛ عمارة المكان وأشكال اليقين الثقافي بل واللغوي كذلك يتبقى لها دور واسع وغامض في استخلاص المعنى من الحياة، والعرب كانت تعترف بمجسمات الحجر كأداة لإعادة تفريع بل لنقول ترتيب الحضور السياسي والاقتصادي لقبائلها، وفي ذلك كان الحج الجاهلي في أسه فعلاً تحررياً من قبضة المكان لصالح تعددية ماكرة وفرتها لهم الآلهة في صحن الكعبة وما جاورها. فذاك النابغة الذبياني يعتذر للنعمان بن المنذر ولتأكيد صدقه يحلف برب الكعبة التي يقدسها وهو الجاهلي، ويحلف بالأصنام: (فلا لعمرُ الذي مسَّحتُ كَعْبَتَهُ وما هُريق على الأنصابِ من جَسَدِ ) أو قول زهير بن أبى سلمى في الصلح بين عبس وذبيان (فأقسمتُ بالبيتِ الذي طاف حولَه رجالُ بنوه من قُريش وجُرْهمِ) والشاهد أن يقين العادة له سلطان، إذن يظل (المكان) حاضراً في أي فعل اجتماعي. العرفان الفارسي.. نموذج غلبة القيم: والنموذج الفارسي يعضد فكرتنا هنا بأن التدين حالة من الجوار بين الراسخ والوافد، وبفعل قوة أحدهما يتخذ مكانه الأعلى، فالحضارة الفارسية هزمت على أيدي العرب ودخلت في الإسلام، ولكنها أعادت تكييفه لصالحها في فترات عديدة خرجت بذلك، ولعل حركة الشعوبية في العصرين الأموي والعباسي أو من أطلق عليهم أهل التسوية خير دليل، إن جذوة العادة والراسخ لا تتغير بسهولة، بل تظل واعية بنفسها ولو في بنية اللاشعور، ولكن المثال الأكثر وضوح ما نلمسه في التصوف الفارسي، ذلك الذي دمج الدين الإسلامي الوافد عليهم وتصييره بالقوة تبعاً لقيمها، ونقرأ عند الأستاذ محمد عابد الجابري في كتابه (العقل الأخلاقي العربي – دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية – نقد العقل العربي (4) ط 2 (2006)) في معرض حديثه عن انتقال التصوف العرفاني داخل حظيرة الثقافة العربية كملمح رئيس في تسرب القيم الفارسية داخل منظومة القيم العربية الإسلامية، يقول: (ومن هذه النماذج الذي ذاع صيتها في بداية انتقال الموروث الصوفي الفارسي إلى الثقافة العربية، شخصية من خراسان (قديماً كانت تضم خراسان الكبرى منطقة جغرافية واسعة. من الناحية التاريخية: يشمل إقليم "خراسان الإسلامي" شمال غرب أفغانستان مثل مدينة حيرات وأجزاء من جنوبتركمانستان، إضافة لمقاطعة خراسان الحالية في إيران. من مدنه التاريخية: حيرات ونيسابور وطوس تعرف باسم مشهد اليوم وبلخ ومرو .. (راجع الموسوعة الحرة) يتردد اسمها كثيراً في مؤلفات المتكلمين في التصوف والمؤرخين له، وقد جعله القشيري (توفي 465 ه) أول شيخ من شيوخ الصوفية التي أرخ لهم، ويعتبر عند كثيرين "أول زاهد على وجه الحقيقة". إنه إبراهيم بن أدهم المتوفي 161ه.. ص 433. وقول الأستاذ الجابري أيضاً في الكتاب ذاته : ( إنه الموروث الصوفي الفارسي، بأشكاله المختلفة، الذي استوطن هاتين المدينتين (الكوفة والبصرة) اللتين كانتا عاصمتين ثقافيتين قبل بناء بغداد، وكان جل سكانها من الفرس..) ص 431. والجابري يرى أن الشعوبية الفارسية استطاعت أن تجعل من تفلسف الفيلسوف والطبيب ابن سينا محاولة لبناء باطنية تدفع بالثورية الإسلامية المضادة لأهل السنة (أو ما عرف بالشيعة الإسماعيلية) والتي بقيت تحمل في ثنايا أيديولوجيتها تناقضاً صارخاً بين الشكل الثوري (من حيث هي أيديولوجيا الطبقات الفقيرة والمحرومة وبين المضمون الباطني (المُؤسْطَر) المتخلف والذي يعود إلى المانوية (دين ماني بن فتك، ولد في 216م في مدينة بابل، والذي أدعى أنه يوحى إليه وهو في الثانية عشرة من عمره فمزج الزرادشتية بالمسيحية والبوذية كذلك). وصحيح أن للأسطورة منطقها الخاص، كما يكتب الجابري، "بوصفها شكلاً من أشكال التعبير ونمطاً من أنماط التصور له منطقه الخاص". غير أن ما يقلقه هو هذا التوظيف العرفاني للأساطير، كما تمثَّل في الأيديولوجيا الشيعية؛ التوظيف الذي بلغ ذروته في التأويلات الباطنية للفكر الشيعي التي وجدت تعبيرها الحيَّ في فلسفة ابن سينا الشعوبية. ويعرف الجابري العرفان أنه "جملة التيارات الدينية التي يجمعها كونها تعتبر أن المعرفة الحقيقية بالله وأمور الدين هي تلك التي تقوم على تعميق الحياة الروحية واعتماد الحكمة في السلوك، مما يمنح القدرة على استعمال القوى التي هي من ميدان الإرادة فالعرفان يقوم على تجنيد الإرادة بديلاً عن العقل"، فالعرفاني الذي يتخلق من الأسطورة الهرمسية (تنسب الهرمسية كعلوم وفلسفة دينية إلى هرمس المثلث بالحكمة الناطق باسم الإله)، وينادي بالكشف والرؤيا والحلم والتأويل، ثم يمارس أبسط أنواع التفكير وأدنى درجاته، ويكرِّس باستمرار الهروب إلى عالم العقل المستقيل، بالإضافة إلى أنه يساهم في تكريس نظرة سحرية للعالم من خلال العرفان، كظاهرة وكنظرية. فيركزها الجابري في الآتي: "العرفاني يهرب باستمرار إلى عالم الميثولوجيا المفلسفة، العرفان، كموقف وكنظرية، تكريسٌ للنظرة السحرية للعالم، أولاً وأخيراً؛ فهو تكريس أيضاً للبنية العامة للثقافات القديمة التي يشكِّل فيها الفكر السحري، وليس العلم، الفاعل الأساسي –هذا حسب معلوماتنا الراهنة (القول للجابري). وهل يمكن تحقيق نهضة بالسحر؟، وأن الكشف العرفاني ليس شيئاً فوق العقل، كما يدعي العرفانيون، بل هو أدنى درجات الفعالية العقلية؛ وليس شيئاً خارقاً للعادة، فهو ليس منحة من طرف قوة عليا، بل هو فعل العادة الذهنية غير المراقَبة، فعل المخيِّلة التي تغذِّيها، لا المعطيات الذهنية الموضوعية الحسيّة، ولا المعطيات العقلية الرياضية، بل معطيات شعور حالم غير قادر على مواجهة الواقع والتكيُّف معه والعمل على السيطرة عليه مادية أو عقلية أو كليهما معاً، فيلجأ إلى عالم خيالي خاص به، ينتقي عناصره من الدين والأساطير والمعارف الشائعة"(بنية العقل العربي، ص379؛ تكوين العقل العربي، ص343). وفي حالتنا السودانية سنحاول إن نعيد طرح السؤال حول أفريقية إسلام أهل السودان أو ما سميناه (اقتصاد الفكي).. الإسلام الإفريقي في السودان: فقد بان لمن يدرس تاريخنا الاجتماعي في السودان أننا أبناء الإسلام الإفريقي، كيف؟ نعني بالإسلام الإفريقي، أن الدين في ظاهريته يكتسب حضوره اللامع من قدرته اللامتناهية من التجذر عميقاً باستصحاب وعي المؤمنين الجدد ويقينهم الراسخ فيما يحملونه من فهم للحياة وأسئلتها، وبذا فإن من الحق القول بتباين فكرة تدين أي مجموعة بشرية عن أخرى، فالعرب في الجاهلية توفر لهم حد أدنى من العقلانية الكلاسيكية فإنها مكنتهم من استيعاب التدين الجديد بصورة معنوية في المقام الأول وما منازعتهم الأولى إلا أنها متسمة بشيء من اللامبدئية، نقرأ في سورة يونس الآية (78) : (قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ) وهنا فالثابت ليس مبدأ رفض القاعدة في التوحيد أو العقيدة بصورة أكمل، بل هو رفض يتحرك من منطقة اللاشعور، لأنه ليست ثمة اختيار عقلاني في المسألة، أو قوله تعالى الآية (183) من سورة آل عمران (الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) إذ نتبين أثر البعد الاجتماعي وأثر القيم الراسخة في تفهم الوافد، نقرأ في تفسير الطبري، قوله: حدثت عن الحسين قال: سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله" :بقربان تأكله النار" كان الرجل إذا تصدق بصدقة فتقبلت منه ، بعث الله ناراً من السماء فنزلت على القربان فأكلته . وفي معرض تأكيد النص القرآني على فساد البيان الرافض لدين الله في سورة الأنعام الآية (148) (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) وتخرصون هنا كما يرد في التفسير مقصد ضعف الحجة، وهنا فالعادات والمتجذر من الفعالية القيمية داخل أي مجتمع يضع شروطه في قبول التغيير أو حتى الإصلاح، ولذا فالنموذج الماثل لأي معرفة تصل لنهاياتها المنطقية أن تستعين بما تملكه من تراكم وانشغالات لتقف بها في حالة من الدفاع عن النفس، وهنا فلن يصعب علينا القول بأن المكان وهو ما نعني إنه لا مجال للحديث عن المكان دون الزمان، أي لا إمكانية حقيقية في تصحيح أي رؤية تحليلية وموضوعية لأي درس معرفي بلا تتبع للزماني ضمن المكاني. لقد حل (الفكي) السوداني محل (الساحر) الإفريقي كما يقول محمد أبو القاسم حاج حمد في كتابه: (السودان والمأزق التاريخي وآفاق المستقبل)، وهذا المقال هو بداية تأسيسية للقضية ، وسيكون لنا عودة لمناقشتها بالتفصيل في المقال القادم.