راشد عبد الرحيم: الجنسية والقبيلة    أحمد السقا ينفي انفصاله عن زوجته مها الصغير: حياتنا مستقرة ولا يمكن ننفصل    منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية مارتن غريفيث: المدنيون في الفاشر يكافحون بالفعل من أجل البقاء على قيد الحياة    بايدن يؤكد استعداده لمناظرة ترامب    الأهلي يهزم مازيمبي بثلاثية نظيفة ويصعد لنهائي الأبطال    الأهلي يعود من الموت ليسحق مازيمبي ويصعد لنهائي الأبطال    أرنج عين الحسود أم التهور اللا محسوب؟؟؟    وصول طائرة للقوات المسلّحة القطرية إلى مطار بورتسودان    الصناعة.. قَدَر الخليج ومستقبله    السودان..تحذير خطير للأمم المتحدة    شاهد بالفيديو.. حكم كرة قدم سعودي يدندن مع إبنته بأغنية للفنان السوداني جمال فرفور    شاهد بالصور.. رصد عربة حكومية سودانية قامت بنهبها قوات الدعم السريع معروضة للبيع في دولة النيجر والجمهور يسخر: (على الأقل كان تفكوا اللوحات)    هل فشل مشروع السوباط..!؟    مخاوف من قتال دموي.. الفاشر في قلب الحرب السودانية    سوق العبيد الرقمية!    صلاح في مرمى الانتقادات بعد تراجع حظوظ ليفربول بالتتويج    أمس حبيت راسك!    راشد عبد الرحيم: وسقطت ورقة التوت    وزير سابق: 3 أهداف وراء الحرب في السودان    الصين تفرض حياة تقشف على الموظفين العموميين    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إقصاء الزعيم!    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خالدة زاهر .. من ضاحية الموردة: (أمير و قارون زاهر) .. ترجمة: أحمد كمال الدين
نشر في سودانيل يوم 22 - 06 - 2015

(المصدر: خالدة زاهر، من ضاحية الموردة: صحيفة إس إس إيه، المجلد 17، العدد 1 – 1997م)
المقال التالي يحكي عن حياة واحدة من أهم طالبات مدرسة الاتحاد الثانوية، وهو مأخوذ من موقع مركز الدراسات الإفريقية بجامعة بنسيلفانيا (الولايات المتحدة الأمريكية).
أود أن أقدم لكم بعضا من نساء الموردة. وإذ أفعل ذلك فإنني لا أود مطلقا هضم مساهمات النساء الأخريات، سواء في الموردة أو في أي منطقة حضرية أو ريفية أخرى في السودان، أو أن أدعي بأن هؤلاء النساء هن الوحيدات ذوات الإسهامات الجديرة بالذكر. إنني فقط، بالأحرى، أحاول أن أشرككم معي في بعض الروايات غير المحكية عن المنطقة التي أحببت وفيها ترعرعت، وبعيون مجموعة النساء اللواتي اخترتهن.
من أوائل النسوة اللائي أود أن اقدمهن لكم خالدة زاهر، التي غالبا ما أشرككم عنها بقدر من المعلومات أوفر مما سأفعل بشأن النساء الأخريات، وذلك بسبب مشاركتي لها في التاريخ الأسري. ولدت خالدة في الموردة يوم 8 يناير 1926م، وكانت البنت البكر للسيدة فاطمة العجب أرباب وزاهر سرور الساداتي. وفي ذلك الوقت كان التبكير بمولودة أنثى أو ولادة البنات بصفة عامة ليس محلا للفخر بالنسبة لعدد كبير من الأسر. ولعل ذلك كان بسبب انتشار التمييز بسبب الجنس. إلا أن خالدة ومنذ ميلادها كان والدها قد قرر تقديم جميع الفرص المتاحة لمساعدتها في تحقيق قدراتها. وللوصول إلى فهم نشأة خالدة لابد من المرور على التاريخ الشخصي لوالدها.
كان الراحل زاهر الساداتي، المولود في 2 ستبمبر من عام 1898م والمتوفى في 28 نوفمبر 1981م، ضابطا في الجيش. ولد في مدينة أمدرمان لأسرة مهاجرة من اقليم دارفور في غرب السودان، واستقر بها المقام في المنطقة خلال أيام المهدية. وكان قد ولد في نفس اليوم الذي استشهد فيه والده في معركة كرري، فربته والدته. وكان هذا عاملا مهما في حياة زاهر، حيث نمى ذلك فيه احتراما عميقا للمرأة و إيمانا بقدرتها على الانجاز ومقاومة الفناء، وهو ما تعلمه من والدته. التحق زاهر صبيا في قوات المشاة بالجيش في عام 1910م، ثم ترقى في سلك الجندية. وكما يخبرنا زاهر فقد طرد من مدرسة أمدرمان الأميرية لأنه تآمر مع زملائه في الصف لضرب مدرس الجغرافيا المصري المتعجرف، وهو ما كان يعتبر في ذلك الوقت نوعا من التمرد ضد السلطة الاستعمارية الجديدة، بغض النظر عن سن القائمين بالفعل. تم القبض عليهم على الفور وأخذوا إلى الزبطية أو مركز الشرطة، حيث اعتبرهم المفتش مباشرة غير ملائمين للتعليم النظامي، فكان الجيش هو المكان الوحيد الذي يمكن أن "يعلمهم". وبعد الالتحاق بالجيش مباشرة فقط زاهر والدته، التي كانت القريبة الوحيدة له من الدرجة الأولى، بعد أن توفي معظم أعضاء الأسرة في حروب المهدية.
على الرغم من عدم تمكن زاهر من أي فرصة لاكمال تعليمه النظامي إلا أنه كان مصمما على أخذ المعرفة من أي مصدر يتاح له في ذلك الوقت. لهذا كانت القراءة هي هوايته الرئيسة، وبخاصة التاريخ والسياسة التي انخرط فيها عمليا من خلال النشاط السري لجمعية اللواء الأبيض في العشرينيات. كما أن ولعه بالمعرفة أدى إلى نشوء علاقة قوية له مع أحد أوائل المؤرخين السودانيين، الشيخ محمد عبد الرحيم، الذي صار راعيا له. وكان الشيخ محمد عبد الرحيم واحدا من كتبة الخليفة عبد الله، وأخذ على نفسه تدوين تاريخ السودان كما رآه وسمعه، وكان يمتلك مكتبة كبيرة في منزله مفتوحة لطلاب المعرفة. كما كان ينشر مجلة أمدرمان التي أصبحت فيما بعد محطا لتدريب العديد من الكتاب والصحافيين والشعراء السودانيين من أمثال التجاني يوسف بشير.
أدى حرمان زاهر من إكمال تعليمه النظامي إلى أن يكون ذلك دافعا قويا ليكون التعليم والمعرفة من أوثق القيم في حياته، فضلا عن أنه طور في نفسه في وقت مبكر من عمره إحساسا قويا بقيمة الصواب والخطأ، وبأهمية أن يكون مفكرا مستقلا، يعيش مع نتائج قراراته الشخصية، بغض النظر عن فداحة هذه النتائج. و أدت هذه الظروف في نشأة زاهر إلى تشكيل شخصيته الصلبة و قيمه العميقة. كما أنه حرص على توريث هذه القيم المتينة إلى ابنته خالدة.
كان تعليم البنات في ذلك الوقت ظاهرة جديدة نسبيا، ونتذكر جميعا نضال العم بابكر بدري في محاولة تصعيد هذه القضية. كانت المدرسة الوحيدة للبنات في الموردة هي مدرسة "بسميلا" (مدرسة الآنسة ميلر الابتدائية للبنات)، التي أصبحت حاليا مدرسة الموردة الابتدائية للبنات الموجودة مباشرة أمام دار الرياضة على شارع الموردة. وهكذا بعد أن أكملت خالدة تعليمها الابتدائي أرسلها والدها إلى مدرسة الارسالية الثانوية العامة/ المتوسطة (Elersal'lia Junior High School) والتي كانت تديرها الكنيسة الانجليزية. وتشغل مباني تلك المدرسة حاليا مستشفى التجاني الماحي للأمراض العصبية في شارع الأربعين بالقرب من الصينية التي أهداها إلى مدينة أمدرمان السيد الهادي مرسال رجل الأعمال المرموق في عام 1960م.
أكملت خالدة تعليمها الثانوي العام في عام 1940م وكان ذلك انجازا مقدرا بالنسبة لفتاة صغيرة في ذلك الوقت، خاصة وأن معظم الفتيات كن يرغمن على ترك المدرسة في انتظار عريس المستقبل، أو الانتظام في سلك التدريس أو التمريض إذا ما حظين بدعم من أسرهن. إلا أن خالدة عبرت عن رغبتها في دخول الثانوية العليا بعد أن شجعتها مدرساتها على ذلك. وكانت المدرسة الثانوية العليا الوحيدة للبنات في ذلك الوقت هي مدرسة الاتحاد الثانوية، والتي كانت مدرسة خاصة تديرها الكنيسة، وكانت مخصصة حصرا لتدريس "بنات الخواجات" من الأجانب البريطانيين و الجاليات الأخرى من ذوي الأصول الاغريقية والأرمنية والإيطالية والسورية واللبنانية.
كان والد خالدة في ذلك الوقت مع كتيبته العسكرية في جنوب السودان. وحصلت خالدة على دعم والدتها وأخيها الأصغر أنور، إلا أنه لم يكن هنالك من بين أفراد أسرتها الصغيرة أو الأسرة الممتدة من كان يجرؤ على دعمها. وفي النهاية قامت بكتابة خطاب إلى والدها تعبر فيه عن رغبتها في دخول المدرسة الثانوية والحصول على رسوم الدراسة ودعم والدها، واستغرق هذا الأمر بعض الوقت، بينما كان تناول الموضوع في الجوار كالأمر المستحيل، حيث كان الجميع يتحدثون بأن خالدة ستذهب للدراسة مع بنات الخواجات. وعقد البعض اجتماعا بعد الآخر في نادي الضباط لمناقشة الموضوع، بل إن البعض أخذ في التندر: "ها ها .. زاهر عايز يطلع بتو مفتشة" وهو ما لم يكن معقولا حتى بالنسبة للرجال في ذلك الوقت. كما أرسل بعضهم رسائل إلى والدها في الجنوب للتأثير على قراره، واقترح عليها البعض بأن تتخلى عن جهودها لمواصلة دراستها، وأن تصبح بدلا من ذلك معلمة، لأنها بحسب رأيهم "بت فصيحة جدا"!
إلا أن والد خالدة وبعد التفكير في الموضوع برمته قام بإرسال رسالتين إلى الموردة، الأولى كانت لخالدة مشجعا لها على قرارها، والثاني إلى عمها محمد العجب، موجها إياه لمرافقة خالدة إلى مدرسة الاتحاد الثانوية في الخرطوم وتسجيلها للسنة الدراسية القادمة. وكان بديهيا أن محمد، عم خالدة، لم يكن راضيا، إلا أنه قام على مضض بالتوقيع على نماذج التسجيل باعتباره ولي أمرها، ممهدا الطريق بذلك لخالدة للبدء في اجراءات تقديم الطلب. لم يكن الأمر سهلا، حيث لم يكن في مدرسة الاتحاد الثانوية في ذلك الوقت أي فتاة سودانية بين الطالبات، ولم تكن إدارة المدرسة في عجلة من أمرها لمنح الموافقة النهائية. ولحسن حظ خالدة فقد وجدت دعما غير عادي من السيد أحمد يوسف هاشم، الصحافي السوداني الرائد، الذي كان رئيسا لتحرير صحيفة "السودان الجديد". فقد تصادف مع ذات الوقت الذي كانت فيه خالدة تناضل بشأن هذا الموضوع أن كان السيد أحمد يوسف هاشم يكتب سلسلة من المقالات عن تعليم البنات في السودان، أو بالأحرى عدم تعليمهن، مذكرا بوجود مدرسة ثانوية واحدة فقط في السودان للبنات، وهي مدرسة الاتحاد الثانوية، والتي ليس فيها طالبة سودانية واحدة. وبعد وقت وجيز من ذلك استلمت خالدة القبول من إدارة المدرسة لتبدأ تعليمها الثانوي في العام القادم.
واصلت خالدة سنوات تعليمها الثانوي محققة درجات جيدة جدا، وقد كان الأمر صعبا بوجه خاص لأن والدها خلال سنوات دراستها الثانوية كان بعيدا عنها في الكفرة وفي العلمين، منخرطا في القتال مع قوات التحالف في الحرب العالمية الثانية. وبناء عليه كان على خالدة التي هي البكر بينما كان أخوها أنور هو الابن الأصغر، أن تشارك في مسؤولية الوالدين تجاه باقي اخواتها و أخوانها الأصغر سنا. ومع كل ذلك، ولدهشة إدارة المدرسة فقد تمكنت خالدة من التخرج في المدرسة الثانوية محرزة درجات عالية جدا في عام 1946م، حيث لم يصدق البعض في إدارة المدرسة أن تتمكن فتاة سودانية من إحراز مثل هذه الدرجات الأكاديمية العالية، والتي أهلت خالدة لدخول أي كلية ترغب فيها. وأعربت خالدة عن الرغبة في دخول الجامعة ودراسة الطب!! وبمجرد إعلان اختيارها نشبت معركة أخرى.
لم تكن كلية غردون التذكارية، التي أصبحت فيما بعد جامعة الخرطوم، مفتوحة لكل السودانيين، سيما النساء، وكانت المعركة الأولى أمام خالدة هي الحصول على دعم أسرتها، وسارع والدها بتشجيعها لمواصلة تعليمها، حيث كان قد عاد من جبهة القتال ويعيش في الموردة، مما جعل باقي أفراد الأسرة وباقي الكبار في الجوار يمتنعون عن مواجهته في هذا القرار. وكانت المعركة الثانية هي الحصول على قبول من الكلية. وكان من حسن الطالع أن بعض الأساتذة التقدميين في مدرسة الاتحاد الثانوية استندوا على أداء خالدة ودرجاتها المتميزة كوسيلة لتحريض إدارة الكلية لمنح خالدة القبول في مدرسة الطب بكلية غردون الجامعية في عام 1946م. وبقبولها أصبحت خالدة أول سودانية تدخل الكلية ومدرسة الطب فيها. وكان القبول قد وصل في الوقت المناسب، لأن والد خالدة كان قد أعد العدة لارسالها إلى مصر فيما لو رفض قبولها في مدرسة الطب.
وكانت العقبة الأخرى أمام خالدة هي التكيف مع مواعيد وجدول الدراسة في الكلية، من الساعة السابعة صباحا وحتى الساعات المتأخرة من الليل في بعض الأحيان. ولم يكن في مدرسة الطب في ذلك الوقت سكن داخلي للطالبات، ولم يكن هنالك "كبري" (جسر) بين أمدرمان والخرطوم حيث كانت الكلية، إلا أن والدها دبر لها بسرعة أن تسكن مع صديق عمره الاميرالاي حسن الزين وزوجته فاطمة محمد عبد الرحيم، حيث اتفقوا على أن تقيم معهم خلال أيام الأسبوع وتذهب إلى منزلها خلال عطلة نهاية الأسبوع. وقدر لخالدة وفقا لهذا الترتيب أن تكون لها أسرتان في آن واحد، واستمرت تلك العلاقة بين الأسرتين حتى اليوم.
كان عام 1946 يمثل أيضا نقطة تحول في تاريخ حياة خالدة، فبالاضافة إلى بداية الدراسة الجامعية، كانت خالدة قد أصبحت نشطة جدا في الحياة السياسية الاجتماعية في ضاحية الموردة. و برزت أول علامات التطور في وعيها بقضايا المرأة عندما قامت خالدة مع اثنتين من صديقاتها بالجوار هما فاطمة طالب و محاسن عبد العال بتأسيس "جمعية الفتيات الثقافية" من أجل تعزيز تعليم النساء والمساعدة في تمكين الفتيات لاثراء حيواتهن الاجتماعية. والتقت خالدة، في ذات الوقت، بصديق حميم من أصدقاء شقيقها أنور، وهو السيد عثمان محجوب، الأخ الأكبر للسيد عبد الخالق محجوب ( وهو الأمين العام للحزب الشيوعي السوداني، والذي جرى إعدامه بواسطة النميري في يوم 28 يوليو 1971م). وفي ما بعد قام عثمان محجوب بتعريفها بالدكتور عبد الوهاب زين العابدين، وبعد ذلك وفي نفس السنة قام كل من عثمان محجوب والدكتور عبد الوهاب بتجنيد خالدة لتصبح عضوة في "الحركة السودانية للتحرير الوطني"، والتي أصبحت فيما بعد "الجبهة المعادية للاستعمار"، قبل أن تصبح "الحزب الشيوعي السوداني". وبهذا أصبحت خالدة أول إمرأة سودانية تنضم لمنظمة سياسية حديثة في التاريخ.
ومضت خالدة في ممارسة نشاطها السياسي في الجامعة وفي الحي، وفي عام 1948 ونتيجة للضغوط المستمرة من مؤتمر الخريجين تقدمت سلطات المستعمر بفكرة إنشاء جمعية تشريعية سودانية لامتصاص تلك الضغوط، ولكن مع الاحتفاظ بحق تعيين أعضاء الجمعية، مما أدى إلى معركة مع أنصار الشعب ممن كانوا ضد الفكرة الاستعمارية، وقادت الجبهة المعادية للاستعمار تلك المعركة، والتي عرفت في كتب التاريخ باسم "معركة الجمعية التشريعية"، والتي اتخذت من نادي الخريجين بأمدرمان ساحة لها، انطلقت منها سلسلة من الندوات والاجتماعات و ورش العمل. وأعلن الحزب عن رغبته في تقديم خالدة كواحدة من المتحدثين الرئيسين ضد الفكرة الاستعمارية لانشاء الجمعية التشريعية في واحدة من تلك الندوات، وكان ذلك في وقت كان فيه حضور امرأة لندوة سياسية أمرا غير عادي، ناهيك عن مشاركة فتاة في التحدث في الندوة.
وبلغ حب الاستطلاع بالجميع مداه، وفي يوم الندوة اجتمع خلق كثير في نادي الخريجين في ظهر يوم بالغ الحرارة. وعلى الرغم من شكوك الكثيرين إلا أن خالدة قدمت حديثا حماسيا جعل الجماهير تصدع بهتافات ضد السلطة الاستعمارية. ونتيجة لذلك تم اعتقال خالدة على الفور بواسطة الشرطة وأخذوها إلى الزبطية (مركز الشرطة) وكان ذلك اعتقالها الأول، بل كانت المرة الأولى التي تقوم فيها الشرطة باعتقال إمرأة سودانية بسبب آرائها السياسية. وانتشر خبر اعتقال خالدة بسرعة في أنحاء أمدرمان، وأخذ الناس يتحدثون بصوت مسموع عن واقعة اعتقال الشرطة ل "إمرأة" بسبب حديثها المناهض للسلطة الاستعمارية.
في ذلك الوقت كان والد خالدة في معسكر سجن بيت عتليت القريب من مدينة تل أبيب في فلسطين، بعد أن أصبح سجين حرب إبان حرب عام 1948م، ولهذا تولى عمها عثمان متولى مقابلة الشرطة التباحث معها بشأن اطلاق سراحها بكفالة؛ وهو ما فعلته الشرطة سريعا في ذات الليلة خوفا من انتشار البلبلة.
كان الاعتقال الثاني لخالدة في عام 1950م خلال تظاهرات طلابية في الحرم الجامعي. وفي هذه المرة أخبرها عمها بكل وضوح أن عليها التخرج من الجامعة أولا قبل الاستمرار في مزاولة أي نشاط سياسي، إلا أن ذلك كان بالنسبة لخالدة مما يسهل قوله أكثر من تطبيقه، لكنها تمكنت من التخرج من مدرسة الطب في عام 1952م، لتصبح أول طبيبة سودانية. وشكل عام 1952م منعطفا آخر في حياة خالدة، عندما تقدم صديقها ورفيقها لوقت طويل، عثمان محجوب، لخطبتها، لتبدأ بذلك معركة أخرى في وجه خالدة، لكنها كانت هذه المرة معركة ذات نبرة عنصرية قوية. كانت أسرة عثمان محجوب من قبيلة الشايقية، وكما ذكرت سلفا فمدينة أمدرمان كانت مقسمة تقسيما حادا على أساس عرقي، مما جعل أفراد الأسرتين يعترضون اعتراضا قويا على هذا الزواج. وكان سبب اعتراض عدد كبير من أسرة خالدة على الزواج هو لأن عثمان محجوب شايقيا، ولأنهم كانوا يريدونها أن تتزوج من ضابط أو ابن ضابط من منطقتها لا أن تتزوج مدرسا مثل عثمان. أما بالنسبة لأسرة عثمان فكان اعتراضهم على الزواج بسبب أن خالدة كانت مجرد فوراوية من غرب السودان ولا تكافئ معاييرهم. كان لكل شخص أجندته، ولم يكن هنالك على ما يبدو أي اعتبار للمشاعر الشابة للطرفين.
أما بالنسبة لوالدها الذي كان يكن احتراما شديدا لمحجوب عثمان، والد خطيب خالدة، فقد التقى بمحجوب وأكملا خطط الزواج، بالرغم من اعتراضات أعضاء الأسرتين. ولم يحضر أي من أعمام خالدة حفل الزواج، كما لم يحضره عدد كبير من افراد أسرة عثمان، بل انهم قاطعوا والده والأقربين من أفراد اسرته طوال السنوات التالية.
وفي عام 1952م رأت كل من محاسن عبد العال وفاطمة طالب و خالدة الحاجة إلى تأسيس منظمة تكون مظلة لتوحيد وتطوير قضايا المرأة؛ فقمن بتأسيس الاتحاد النسائي السوداني، وانتخبت خالدة كأول رئيسة للاتحاد. كانت كل خطوة اتخذتها خالدة في حياتها حتى ذلك التاريخ، مما يعتبر في هذا الوقت أمرا عاديا، كان تمثل لها معركة كبرى. بدأت خالدة حياتها المهنية كطبيبة بعد إكمال فترة الامتياز ما بين المستشفى العمومي في كل من أمدرمان والخرطوم.
وفي عام 1954م نقل الزوجان الشابان إلى مديرية بحر الغزال في جنوب السودان، ليعمل عثمان مدرسا في مدرسة رمبيك الثانونية وخالدة مفتشة طبية للمديرية، ومسؤولة عن الاشراف على المساعدين الطبيين في جميع القرى والمراكز الحضرية في المديرية. وبعد فترة وجيزة بدأت خالدة وعثمان أسرتهما الجديدة، لكنها استمرت في عملها أثناء تربية أطفالها، إذ كان عليها عبر السنوات التعامل كأمرأة عاملة مع ضغوط الحياة ومتطلبات الوظيفة والسلوكيات المناهضة لحقوق المرأة من قبل بعض زملائها، فضلا عن متطلبات الأسرة الكبيرة المكونة من أب وأم و زوجة أب وتسع أخوات و تسعة إخوان. يضاف إلى ذلك متطلبات نشاطها السياسي والاجتماعي المتمثل في الاجتماعات و "بيوت البكيات" و "السمايات" وغير ذلك من المناسبات الاجتماعية الأخرى.
وكان طبيعيا أن تقوم خالدة بزيارة المرضى في الحي في منازلهم أو في المستشفيات، فقط لأنها كانت "الدكتورة بنت الحلة". وعلى الرغم من كل ذلك، لم تلجأ خالدة للشكوى، بل إنها كانت تعتبر ذلك من قبيل الواجب. واستمرت خالدة تعمل في وزارة الصحة السودانية، رافضة جميع العروض الأخرى المغرية التي وصلتها من منظمات صحية اقليمية وعالمية. وفي منتصف السبعينيات ساعدت خالدة في تأسيس "مجمع صحة الطفل" في أمدرمان، والذي ضمه المبنى القديم الذي كانت تشغله إدارة مدرستها الاعدادية القديمة – "الإرسالية" – عند تقاطع شارع الأربعين وشارع العرضة في أمدرمان. وكانت آخر وظيفة لخالدة هي رئاسة قسم طب الأطفال في وزارة الصحة السودانية. تقاعدت خالدة زاهر في أواسط عام 1980م، ولها أربعة أولاد، إبنان (أحمد وخالد) و بنتان (مريم وسعاد)، وعاشت آخر حياتها ما بين انجلترا و القاهرة والسودان.
كتبت الدكتورة مارينا هيتشن (Dr. Marina Hitchen) الكلمات الآتية:
هذه المرأة كانت من أهم الطلاب؛ و وفقا للسجلات ففي شهر ديسمبر 1944 جلست فتاتان لامتحان الدخول لكلية غردون، كلتاهما قبطيتان؛ و حققت أنجيلا درجة المرور (الدرجة الثالثة)، أما مارغريت فقد فشلت في الأمتحان، وجلست للمرة الثانية لكنها فشلت أيضا. ومضت أنجيلا لدراسة الآداب، وعرفت بأنها أول إمرأة يتم قبولها في كلية غردون.
وبأحرف صغيرة في ذات السجلات نرى أن خالدة زاهر جلست أيضا للامتحان، ومرت بالدرجة الثانية، وقبلت لدراسة الطب. وكانت كلية غردون قد جمدت القبول لمدرسة الطب حتى عام 1946م مما فرض على خالدة الانتظار عاما كاملا، فذهب البريق لانجيلا. ويذكر المقال أن خالدة كانت أول إمرأة في كلية غردون إلا أن ذلك ليس صحيحا. وقد تعرضت خالدة للعراقيل للوصول إلى مدرسة الاتحاد لأن المدرسة على ما يبدو لم تكن حريصة، بخلاف ما تدعي، على قبول المسلمين من السودانيين. وبهذه المناسبة فقد كانت خالدة ممتازة في عام 1944م. إنني أريد لهذا المقال أن ينشر في هذه المدونة (Blog) حتى لا تقع ثانية فريسة النسيان.
_____________________________
هذا المقال مترجم عن الانجليزية، والأصل موجود في موقع مركز الدراسات الإفريقية بجامعة بنسلفانيا عبر هذا الرابط:
http://www.africa.upenn.edu/Newsletters/ssa171.html http://www.africa.upenn.edu/Newsletters/ssa171.html
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.