عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. (1) ثمّة فرقٌ كبير بين ما يكتبه القراء في بريد أيّ صحيفة سودانية، وبين مقالات الرأي التي يكتبها كتاب راتبونومن أهل خبرة في مجالاتهم اللصيقة بهموم الوطن المنكوب، تستكتبهم أيّ صحيفة وتنشر مقالاتهم الراتبة، مرة أو مرتين، وفي أيامٍ محدّدة في كلّ أسبوع . يلاقي أغلب كُتابِ الرأي الراتبين ممّن عرفت واستفسرت، عنتاً في ترتيب علاقاتهم مع الصحف التي تستكتبهم. عادة تسعى الصحافة الرصينة وراء الأقلام الرصينة التي تكتب عن تجربة وعن خبرة، وعن دراية بهموم الوطن، لتستجذب قراء جدد . تجد أصحاب الصحيفة يستكتبون أصحاب تلك الأقلام بمقابل مادي ، يعكس التقدير الواجب لنوع من الكتابة الإبداعية، وذلك تقليد يعرفه القاصي والداني في عوالم الصحافة . ولأن كُتاب الرأي يتناولون موضوعاتٍ تتصل بقضايا وملفات تستحوذ على الأهتمام، فتجد الصحف تتناقس على استقطابهم ، بل وتغدق عليهم تقديراً مادياً مستحقا، ولا يقارن بالطبع بما يتلقاه الصحفيّالمهنيّ الذي يعمل بعقودٍ راتبة تتحدّد بموجبها الواجبات والالتزامات والحقوق . . (2) هي همسة من سفير متقاعد وكاتب إلى قرائه القريبين إلى قلبه، الذين سيغيب عنهم عنوان مقالاته : "أقرب إلى القلب"، في الصحف الورقية السودانية. . لقد ظللتُ منذ أمدٍ طويل أزاول كتابة مقالات مطولة في الصحف اليومية، وتغطي موضوعات تتصل بقضايا السياسة الخارجية ، وأيضاً بملفاتٍ تتصل بالمهنة التي امتهنت لسنوات طويلة، وتقاعدتُ عنها راضيا مرضيا، برغم أن قلمي يمشي على شوكٍ ويعبر مطبات. وللقاريء الذي يتابع ما أكتب وأنشر في هذه الصحف، سيجد في سطوري الكثير من المعلومات وبعض التحليل، الذي لا يثقل على قاريء الصحيفة اليومية. ومن يلاحظ ما عليه أسلوبي من التزام بلغة عربية أحافظ على جودتها ورصانتها ، ليس لرغبة في الحذلقة والمناورة بالمعارقف اللغوية ، ولكن لقناعتي أن الصحيفة اليومية ، حتى وإن كانت تستهدف عموم القراء ، فإن ذلك ليس بمدعاة للنزول بلغة الصحيفة إلى الأسلوب الأدنى والمعتاد . لا أتصور أن يكون دور الصحيفة هو تزويد القاريء بمادة مقروءة جاذبة ، ولكن عليها أيضاً أن لا تغفل عن الارتقاء باللغة التي تكتب بها موضوعات الصحيفة . تسمع أكثر الناس برماً بالصحف، يتخذون مواقف سالبة ويجدهم يرددون : هذا كلام جرايد! وهم لا يعنون المحتوى وحده، بل ينوهون بأسلوب العرض، مبناه وشكله ولغته. وإن مضينا إلى أكثر من ذلك، فإنك تجد الكثير من الصحفيين المهنيين و"الموظفين الصحفيين" هذه الآونة، يزاولون الكتابة الصحفية باستسهالٍ لا يأبه باسلوب الكتابة، ولا بالشكل الذي يخرج به الموضوع، بحجة الاقتراب من القاريء العادي. ولك أن تراجع صفحات الرياضة أو الصفحات الفنية ، فستجد في بعض ما يكتب ، شيئاً لا يدعو للإطمئنان إلى اللغة التي يكتب بها البعض. . (3) قصدتُ من حديثي هذا أن ألفت النظر وأؤكد على حقيقة بديهية، وهي أن للصحف دوراً تعليمياً وتثقيفياً تجب مراعاته. ذلك كان ديدن قلمي بحثاً وراء بصمة تميّز كتابتي وتجتذب عيون القراء وأيضاً عقولهم. الحجّة التي تقال إن قراء الصحف معنيون بالإطلاع السريع، أو أنّ جلّ اهتمامهم هو بالموضوع والمحتوى، ولا شأن لأكثرهم بالأسلوب أو الشكل أو سلامة اللغة التي تكتب بها موضوعات مثل هذه الصفحات المتخصصة، هي حجّة مردودة . إن للصحافة دوراً مكملاً لدور المؤسسات التعليمية، فننقل عنها في كلامنا المحكي ما يزيد معرفتنا بلغتنا المحكية، ويغذيها بفصيح الكلام ورصينه. دعوتي أن لا تتنزل الكتابة الصحفية، بكل تخصص صفحاتها، إلى تخيّر أسلوب ولغة موادها، بما يرتقي بلغة القراء ويزيد ثراءها ونقاءها، ولكن دون أن تسقط تلك الكتابة في مطبات الحذلقة، ودون أن تلهث وراء اختيار غريب الكلام غير المعروف، فيهرب القراء وينفرون. وبذات المستوى ، فإن على كتاب الصحف – في فهمي المتواضع- النأي عن اللغة الشائعة والمجانية ، وتلك التي تنحدر باللغة ولا ترتفع بها . رأيتُ بعض الصحف تنقل عن أشخاصٍ وقياديين ممّن يتابع الناس تصريحاتهم ، كلاماً باللغة العامية العادية والمجانية، بما لا يتناسب ومكانتهم السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية. ثمّ أعجب كل العجب، حين أقرأ "مانشيت" صحيفة وبخطٍ بارز وبلونٍ أحمر، كلاماً باللغة المحكية وإسفافاً منقولاً عن مسئول كبير ، يثير السخرية عليه ، أكثر ممّا يثيره الخبر والمعنَى الذي قصده ذلك المسئول، بل فيه- حقيقة- ما يدفع المرؤ إلى الإزدراء به وتجاهل ما نطق بلسانه. . إن للكاتب الصحفي، وكاتب الرأي أيضاً ، أن يبتدعا لنفسيهما تلك البصمة التي تميز قلم الصحفي وتلوّن موضوعاته، بحيث يعرف من يطلع على تلك الكتابة إسم الكاتب قبل أن يقرأه مطبوعاً أسفل أو أعلى الصفحة. هذه خطراتٌ عنتْ لي وأنا أعلن زهدي في الكتابة في الصحافة الورقية السودانية ، بعد تجربة غير سارة ، جنيتْ فيها دروساً يستحق الواحد أن يقف عليها ويتدبر أمره مستقبلا معها. تتضاغف حسرتي على حال صحافة السودان التي وضع لبناتها رجال كبار مثل متولي العتباني ومحمد حمد السلمابي وبشير محمد سعيد وعبدالله رجب ومحمد الخليفة طه الريفي. تلك بعض أسماء قفزت إلى ذاكرتي فيما هم أكثر من ذلك بكثير. . (4) لقد ظللتُ أكتب عموداً اسبوعياً في إحدى صحف "الخرطوم" ، ونظير اتفاق شفاهي عبّر فيه صاحب الصحيفة أن الاستحقاق المادي الذي سأتلقاه نظير مقالي الأسبوعي عنده، هو أقلّ ممّا هو المتوقع، وأن العبرة بجودة المقالات وهي رصينة ومقروءة . ولك أن تعلم عزيزي القاريء- وأنك ربما تابعت بعض تلك المقالات الأسبوعية التي كتبتها ونشرتها تلك الصحيفة - أنّي ظللتُ أكتب مواظباً وملتزماً ودون انقطاع، لأكثر من عام، فما ظفرتُ من الاستحقاق المادي الذي حدثوني أنهُ أقلّ بكثير من جودة مقالاتي، إلا بالنذر اليسير ..! ولقد جال بخاطري أن أهل المهنة من الصحفيين – ومنهم صاحبي رئيس تلك الصحيفة- ربما يحسنون الظنّبسفيرٍ مثلي تقاعد عن مهنته الدبلوماسية، وتحوّل كاتباً في الصحافة المقروءة، كنوعٍ من الهواية وتزجية وقت الفراغ العريض.. أو من بالغ في حُسن الظن يحسبني "سفير مُرطّب" ، كما يقولون في أحاديث "الشمارات" . غاب عن الظنّ أن صاحبكم وهو سفير، لم يخرج من مهنته إلا بالقليل الذي يقيم أوده. ليس من شقة ابتناها لتعود عليه بكراء مناسب. لا . ولا ركشة يستوفر من إيجارها رزقاً لعياله، بل ينتظر أول كل شهر، مبلغ معاشالسفير، الذي يبلغ حفنة جنيهات تغطي معيشة يومين أو ثلاثة. إلا أن الله وهبه قلما يكتب، والحمد لله من قبل ومن بعد. . (5) خرجتُ من تلك الصحيفة غير نادمٍ، ولكن رفعت يدي عن المطالبة بما تراكم من استحقاقٍ نظير مقالاتي، التي تابعها قراء أعزاء، أجزم أنهم لا يعلمون أن آلافاً من الجنيهات من استحقاقاتي، بقيتْ ديناً هالكاً عند صاحب تلك الصحيفة، وهو صحافي أقدر مكانته وقلمه . مضيتُ إلى حالي غير راغبٍ في الكتابة في الصحف ، واكتفيت بالكتابة في "سودانايل"، تلك الصحيفة الالكترونية التي يديرها من مهجره ، صديقي الأستاذ طارق الجزولي، ويتلقاني فيها أنبل القراء وأصفاهم. ولعلم القراء فإن رصد الموقع لمقالاتي، أورد ما بين 700 إلى 1000 مطالع خلال هذا العام(2015) ، وأيضاً نحو 3000 مطالع في المتوسط، للأعوام السابقة. غير أن نفراً من أكرم الأصدقاء، طالبوني بأن لا أقطع إطلالتي عبر أيّصحيفة ورقية أخرى، ففعلت . وعدتُ إلى الكتابة في صحيفة ورقية أخرى، أكرمني صاحب تحريرها أول أمري وأمره، إلا أن "المؤمن" هذه المرّة قد لدغ من ذات الجُحر ثانية ّ ، وما ارعوى. صبرتُ صبراً طويلا ، وإمّا فعلت أكثر من ذلك فكأني أكون كمن يتسول رزقه. عرفتُ أن من التزم شفاهة بتقييم ما أكتب، وأمّن لي استحقاقاً قبلتُ به على ضعفه، لم تقبل "جهة أخرى"، تدير تلكم الصحيفة من طرفٍ خفي، في استمرار سداد ذلك الاستحقاق لي على ضعفه، وكانت تملك – يا لأسفي- الصوت الأعلى. . هكذا آثرتُ أن أمسك قلمي عليّ، وخرجتُ من الصحيفة الثانية ، وأنا أرثي لحال من هم على أمرها . لقد بان لي أن الأمر كله هو عند "صاحب عقدٍ وحلّ" ، يقيم في طوابق أخرى من البناية، ولا يراه الناس نهارا . وعلمت لاحقاً أني لست وحدي من يعمه في غفلته ! أقلام كثيرة وشهيرة تتابعون كتاباتها ، هم معي ملدوغون في ذات الجُحر. . (6) يقول أصدقائي غير مصدقين : كيف وبعض من يكتبون، مثل صديقك فلان، وصاحبك علان الذي تعرف،يحصدون أموالاً بالملايين. . ! وحينَ سمع شكواي أخ صديق قال ساخراً : لعلهم لا يعرفون أن الواحد لو طلب "فكة" ورقة خمسين جنيهاً من صاحب بقالة هذه الأيام، لتسلمها ناقصة جنيهاً، هي عمولة "الفكة". لكل شيء قيمة يا صديقي، إلا مقالاتك هذه ! ضحكتُ طويلا ، وأنا أجد بينهم من يحضّني على البحث عن جحرٍ آخر...! الخرطوم - أول نوفمبر 2015