حين أُغلق جسر "النيل الأزرق" التاريخي في العاصمة السودانية الخرطوم، "الشاهد" على الثورة ضد الإستعمار، ضاق الناس من تفاقم أزمة السير، ومن أكداس السيارات التي فاضت عنها الشوارع. وتحولت العاصمة بمدنها الثلاثة "الخرطوم، أم ردمان، بحري" والتي يعد الجسر "سرتها" ونقطة ملتقاها، فساد بين الناس زعيق متواصل من أبواق السيارات، فالسير البطئ في لهيب الخرطوم الحارق جهنم تمشى على إطارات. لم تتعثر حركة السير وحدها، بل تعثرت رياضة المشي في "ممشى الحوامل"، وهو ملحق خشبي شيد على حافة الجسر الغربية، ل"تتمشى" النساء الحوامل من زوجات الطبقات الثرية، أما القطارات فلم تفلح السلطات في سد الجسر بوجهها. نسوة الخرطوم كن يمارسن رياضتهن ويتفرجن من علٍ على العشاق في "كازينو النيل الأزرق" أسفل الجسر، قبل أن تطيح الأيديولوجيا بالكازينو الشهير، وقبل أن يطيح قرار "متعجل"، بعام من عمر عابري الجسر. وحسب إفادات رسمية، فإن "الممشى" سيتحول إلى مسار ثان للسيارات، وذكرت هيئة الطرق والجسور بولاية الخرطوم أن المسار الجديد، سيخصص للمشاة والسيارات الصغيرة. ويربط جسر النيل الأزرق الخرطوم والخرطوم بحري منذ 108 أعوام، ويعرف ب"كوبري الحديد"، أو أحياناً "كبري الجامعة" لقربه وارتباطه بجامعة الخرطوم أقدم الجامعات السودانية (1902)، وهي من أعرق الجامعات في إفريقيا والشرق الأوسط. المارة يقولون أن سلطات الولاية لم تراع كل هذا الحنين، وأغلقت الجسر في وجوههم، ابتداءً من 6 اكتوبر، لمدة عام كامل لأغراض الصيانة، وقالت إنها تحسَّبت لمعالجة الاختناقات المرورية المتوقعة. وبلغ طول "كوبري الحديد" عند تأسيسه أكثر من نصف كيلومتر، ويتكون من مسارين لعبور السيارات والقطارات، أما الثالث فهو ممر للمشاة، وكان أهل الخرطوم يطلقون عليه "ممشى الحوامل". قبل إغلاقه، أعلنت السلطات المحلية ترتيبات فنية لمواجهة الإغلاق، لكن حسابات الحقل لم توافق حسابات البيدر، فسال الزحام مدراراً في كامل المدينة، ولم تسع الجسور البديلة "المك نمر، والقوات المسلحة، والمنشية" حركة السير الكبيرة. يقول المهندس الصافي أحمد آدم، مدير هيئة الطرق والجسور بولاية الخرطوم ل"الأناضول" إن "جسر النيل الأزرق انتهى عمره الافتراضي، ومأمول من أعمال الصيانة الجارية منحه عمراً إضافياً قدرة 70 عاماً". ويضيف: "لقد أوكلت الدراسات والاختبارات لشركات وطنية ودولية ذات خبرة وكفاءة، لتعمل على تأهيله بشكل شامل، بما في ذلك مراجعة حالته ومساراته وبنيته التحتية ومسار القطار وغيرها". ويتابع: "الصيانة الجارية كبيرة ومهمة، وتحتاج لعام كامل لاكتمالها". ويجزم: "روح المسؤولية الفنية والوطنية، أجبرتنا على اختيار التوقيت المثالي لبدء الصيانة والوقت الذي قد تستغرقه". لكن التفسيرات الهندسية لم تفلح في إزالة الضجر من الزحام، فانتقل إلى المنتديات والمختصين، فعقدت "الجمعية الهندسية" الأسبوع الماضي بجامعة الخرطوم، ورشة لتبادل "الشكاوى والتوضيحات" الناتجة عن إغلاق الجسر. وحمل وزير النقل الأسبق الفاتح محمد في حديثه لتلك الورشة، على السلطات للتأخر في صيانة الجسر، ما اضطرها لإغلاقه عاماً كاملاً، وتساءل: "لماذا لم تتحرك السلطات إلا بعد خراب الجسر". وشن الوزير السابق هجوماً كاسحاً على وزارة البنى التحتية بولاية الخرطوم، وقال إنها أوكلت أعمال الصيانة لجهات غير معروفة. وأضاف: "الشركة التي صنعت الجسر، تأسست عام 1877م موجودة، فلماذا لم تُعهد إليها صيانة هذا الإرث الهندسي التاريخي". وتابع: "جسر النيل الأزرق يعد مفخرة إنجليزية، باعتباره الأطول والأجمل جنوب الكرة الأرضية، قبل قرن من الزمان".