لفرط ثقتها فى نفسها بسبب قلة الخبرة السياسية أو لخطأ فى التقدير فان الحركة الشعبية تضع قضية أبيي – مع أنها قضية عادية جداً و من السهل حلها فى إطار تفاوضي – فى موضع مقدس للغاية و الأدهي و أمرّ – وهذا ايضاً بسبب انعدام الخبرة السياسية – فان الحركة بدت وكأنها تضع الجنوب كله و قضاياها العالقة مع الشمال و كل وجودها فى مقابل هذه القضية ، بما أعطي شريكها الوطني لمحة كانت كافية بالنسبة له للتعامل معها بأوراق رابحة ، عالية القيمة . فقضية أبيي وعلى العكس من ما تروج له الحركة ليست قضية ارض جنوبية أخذت من الجنوب وآن الأوان لإرجاعها ، فلو كان الأمر بهذه البساطة فقد كان من الطبيعي ان يتم ذلك الإرجاع على مائدة التفاوض حينما جري التفاوض حولها وينتهي الأمر . كما أن القضية ايضاً لو كانت هكذا لكان مفاوضي الحركة قد حصلوا -على الأقل- على حق تبعيتها للجنوب فى الفترة الانتقالية الى حين تقرير مصير تبعيتها فى الاستفتاء . هذا كله لم يحدث مما يُستشف منه أن الحركة لم تكن بحوزتها اى حجة قوية بشأن إرجاع ارض جنوبية الى الجنوب ولهذا رضخت لتبعية المنطقة للشمال و لرئاسة الجمهورية ريثما يجري استفتاء فيها ، إذ من المفروغ منه ان المنطقة جزء من إقليم كردفان التابع للشمال . ولكن دعونا من كل ذلك ولنحاول أن نتأمل كيف ستحصل الحركة على المنطقة حرباً أو سلماً طالما أنها تصر على أخذها ورفضت كافة العروض والأطروحات بما فى ذلك أطروحات أصدقائها الأمريكيين ؟ إن الخيارات بالنسبة للحركة فى الواقع محدودة للغاية ، وكلها صعبة، وهما فى الواقع خياران : الأول الانصياع كلية لبنود البروتوكول التى تنص على الاستفتاء والاستفتاء يتضمن مشاركة بقية القبائل بالمنطقة ، بما فى ذلك المسيرية وهو ما رفضته الحركة ولا تزال ترفضه وثارت بسبب ذلك الأزمة، أو أن تدخل فى تسوية سياسية (فى منتصف الطريق) لحل تكاملي . أما الخيار الثاني وهو الحرب بانتزاعها عنوة عبر حل عسكري كامل تسيطر فيه على الأوضاع و تحافظ على ذلك لبقية العمر! إذا رضيت الحركة بالخيار الأول فان من المتوقع - بنسبة عالية جداً- عند التصويت أن تقع أبيي كثمرة ناضجة فى سلة الشمال سواء لجغرافيتها التى لا تقبل التحريك ، أو لنسيجها الاجتماعي الأقرب لوجدان الشمال فى ظل غلبة قبائل المسيرية على دينكا نقوك ، وفى هذه الحالة تكون الحركة قد خسرت (وبطريقة ديمقراطية و قانونية) قضية جعلت منها قضية عمرها. و إذا رضيت بالتسوية السياسية و هى تسوية لن تمنحها المنطقة كاملة خالصة و الى الأبد بحال من الأحوال فى ظل وجود حقوق لقبائل المسيرية يصعب و يستحيل تجاوزها ، فهي خاسرة لا محالة ؛ أما إذا لجأت للحرب وفرض الأمر الواقع وهذا ما بات يبدو فى الأفق ، فان المهمة ستكون مستحيلة لأنها لن تنجح فى احتلال أرض شمالية تابعة للرئاسة السودانية، وان نجحت فإنها لن تستطيع مواجهة الحجج القانونية ، وإن نجحت فى تجاوز هذه الحجج القانونية فان من غير المتصور – بحال من الأحوال أن تحافظ - بقية عمرها- على ارض اغتصبتها بالقوة . وهذا ففي الحالتين تبدو الحركة خاسرة لا لشئ إلاّ لأنها عملت على الدوران حول قضية لم تكن تستحق كل ذلك !