يبدو أن الأحداث والتطورات الأخيرة التي شهدتها المنطقة العربية لجهة الثورات والاحتجاجات التي شهدها بعض دولها.. قد أيقظت الأمين العام للأمم المتحدة السيد «بان كي مون» من سباته، فراح يدلي بالتصريحات، ويقدم النصائح، ويطلق التحذيرات لهذه العاصمة أو تلك.. كأنه وجد في هذه التطورات الفرصة المناسبة حتى ينفض عن نفسه غبار السلبية (أو التواطؤ) الذي اتسمت به سياسته ومواقفه حيال العديد من قضايا المنطقة على مدى ما يقرب من أربع سنوات هي عُمر توليه الأمانة العامة للمنظمة حتى الآن. لقد أراد الرجل أن يقدم نفسه كداعم للإصلاح ومدافع عن حقوق شعوب المنطقة في الحرية والديمقراطية، فإذا به يكشف عن معاييره المزدوجة، فالرجل الذي يتقلد أعلى منصب دبلوماسي في العالم، وتتطلب طبيعة مهمته أن تتسم مواقفه وتصريحاته التي تعبر عنها بالتوازن والحيادية والموضوعية يبدو في كثير من المواقف حيال بعض القضايا والأحداث مفتقدًا هذه الصفات وأصول التعامل الدبلوماسي السليم، ولعله ليس أدل على ذلك من تصريحاته الأخيرة حيال البحرين، التي يحذر فيها الحكومة من عواقب الاستخدام المفرط للعنف ضد المتظاهرين، الذي يصفه بأنه يشكل انتهاكًا للقانون الدولي الإنساني.. فمثل هذا الموقف يكشف عن عدم إدراك واضح لحقيقة ما يجري في البحرين، أو أنه ينظر إلى الأحداث بعين واحدة. إن دعوة «كي مون» للحكومة والمعارضة إلى الحوار مقبولة. بيد أن الموقف السابق يبدو من خلاله كأنه قد أطلق حكما عاما بإدانة طرف وتبرئة ساحة الطرف الآخر، الذي يتحمل مسؤولية ما حدث بسبب الإصرار على الخروج على الشرعية وسيادة القانون.. رغم أن الأمين العام لديه من الأدوات ومصادر المعلومات (وأبرزها المكتب الإعلامي للأمم المتحدة في المنامة الذي يرأسه شخص بدرجة سفير) ما يمكنه من استقاء المعلومات الصحيحة حيال ما جرى ويجري في المملكة منذ الرابع عشر من فبراير الماضي. إن ذلك الموقف المتحيز للأمين العام هو ما يجعلنا نفسر سبب ضعف ما حققه من إنجاز للمنظمة الدولية على مدار السنوات الأربع الماضية (أي منذ توليه الأمانة العامة في يناير 2007) بل لقد تراجع دور المنظمة، حتى أصبحت مواقفها أو بالأصح مواقفه صدى لمواقف الولاياتالمتحدة وحلفائها وفي مقدمتهم إسرائيل، ولاسيما ما يرتبط بقضايا الشرق الأوسط والمنطقة العربية التي تهمها وتضطلع فيها بدور أو بآخر. فمن ينسى موقفه المتخاذل من الاعتداءات الإسرائيلية على قطاع غزة ورفضه تخصيص بند مستقل في آلية عمل مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة لمناقشة أوضاع حقوق الإنسان في فلسطين، وكذا إدانته المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي، ووصفه إياها بالأعمال البربرية والإرهابية في حين أكد حق الأخيرة في الدفاع عن نفسها؟ وحين وقع العدوان على غزة في نهاية ديسمبر 2008 ساوى بين الهجوم الوحشي والدموي للاحتلال وبين هجمات المقاومة التي هي رد فعل للاحتلال الإسرائيلي؛ إذ حمل حركة «حماس» المسؤولية الكبرى بدلاً من أن يدين المجزرة، ويحمل إسرائيل مسؤوليتها، بل إنه ومنظمته قبلا أن يحملا عار التقاعس عن محاسبة إسرائيل على جرائمها حين تجاهلا تقرير لجنة «جولدستون» ووضعاه في أدراج النسيان تحت تأثير الضغوط الأمريكية والصهيونية. والأكثر من ذلك، أنه مازال يغض الطرف عن اعتقال آلاف الفلسطينيين معظمهم من دون محاكمة وإجراءات تهويد الأراضي الفلسطينية وطرد أهاليها، ولا يطالب بتنفيذ قرارات الأممالمتحدة ذات الشأن، كأنه لا توجد هناك أراض فلسطينية أو شعب فلسطيني يعاني ويلات الاحتلال منذ أكثر من 6 عقود. وليست فلسطين فحسب، إذ لم يكن موقف «كي مون» من الوضع في العراق منفصلاً عن موقف الولاياتالمتحدة التي مدحها في حديث صحفي في يوليه 2007 بقوله: «إنها لعبت دورا مهما وانه يقدر التضحيات التي قدمتها» - مع أنها هاجمت العراق من دون تفويض من الأممالمتحدة أو مجلس الأمن - وهو موقف غير مفهوم ويتجاهل ما تسببت فيه أمريكا من دمار لهذا البلد وقتل أكثر من مليون عراقي وتشريد 4 ملايين آخرين. الشيء نفسه بالنسبة إلى أزمة دارفور، حيث التزم الأمين العام بالموقف الأمريكي بإلقاء المسؤولية على الحكومة السودانية عما يجري في الإقليم واتهمها بإحلال الفوضى وممارسة الإبادة الجماعية، فضلاً عن إبدائه حماسة واضحة بشأن مسألة محاكمة الرئيس السوداني «عمر البشير» رغم أن مذكرة المحكمة الجنائية الدولية بتوقيفه تدور حولها الشكوك، وثمة شبه اتفاق على وجود دوافع سياسية وراءها. تلك النماذج للمواقف المنحازة ل «بان كي مون» حيال القضايا العربية هي غيض من فيض، ويضاف إليها فشله حتى الآن في تحريك أزمة الصحراء الغربية (المغربية)، علاوة على فشله والمنظمة على مدار 4 سنوات في إيجاد حلول لقضايا الفقر ونقص الغذاء والتغيرات المناخية، وهو ما يجعل إنجازاته ومواقفه كأمين عام ضئيلة ومتراجعة مقارنة بمن سبقوه في هذا المنصب، ويكفي (على مستوى المواقف) وعلى سبيل المثال لا الحصر أن سلفه «كوفي عنان» حاول الاستقلال بالمنظمة بعيدًا عن السيطرة الأمريكية ورفض (بجانب فرنسا وألمانيا) أن يصدر قرارًا جديدًا عن مجلس الأمن يسمح لأمريكا وبريطانيا بشن الحرب على العراق وله مواقف إيجابية عديدة تجاه القضية الفلسطينية لا مجال لذكرها هنا، كما رفض سلفه «بطرس غالي» أيضًا الصمت على جريمة إسرائيل في مايو 1996 ضد قرية «قانا» بجنوب لبنان، وقام بنشر التقرير الذي يدينها ويحملها مسؤولية المجزرة التي ارتكبتها. ومثل هذه المواقف جاءت من منطلق المسؤولية التي تفرضها الطبيعة الحيادية لمنصب الأمين العام للأمم المتحدة.. ولم تكن تحكمها اعتبارات شخصية أو تبعية لقوة كبرى. إن كل ما سبق من مواقف يكشف وبدرجة كبيرة فشل الأمين العام الحالي حيال كثير من القضايا العربية، وبالتالي فإن موقفه الأخير من البحرين، قد لا يبدو مستغربًا رغم أن ما حدث في هذا البلد من مظاهرات أسفرت عن بعض الأضرار لم تكن الحكومة سببًا فيها.. ولعل السؤال الذي يوجه إلى السيد «بان كي مون» هو: ما الذي كان بوسع الحكومة البحرينية أن تفعله ولم تفعله حتى لا تصل الأمور (أو الأزمة) إلى ما وصلت إليه؟ لقد تعاملت القيادة بقدر كبير من الحكمة والعقلانية مع الأزمة منذ بدايتها.. بدليل أنه حينما سقط بعض الضحايا في بداية المظاهرات بادر الملك المفدى إلى تقديم الاعتذار والتعازي إلى ذويهم، وأعلن الحداد على أرواحهم، وأمر بتشكيل لجنة للتحقيق في الأحداث رفضت المعارضة حتى هذه اللحظة التعاون معها.. ثم كان تكليف العاهل لسمو ولي العهد الأمير «سلمان» بإدارة حوار مع جميع القوى والتيارات الوطنية من منطلق أن عرض مطالب المعارضة ومناقشتها لا يتمان إلا من خلال الجلوس إلى مائدة الحوار وليس من خلال الشارع. وتوازى مع تلك الدعوة إلى الحوار خطوات أخرى مشجعة لها كسحب قوات الأمن والجيش من دوار مجلس التعاون إلى ثكناتها لتسهيل عودة المظاهرات السلمية.. بيد أن كل هذه الخطوات لم تقابل بالاهتمام الذي تستحقه من جانب المعارضة، بل إنها لجأت إلى وضع الشروط المسبقة لقبول الحوار (كإقالة الحكومة وتغيير الدستور) ورفعت من سقف مطالبها بالمطالبة بتغيير النظام. إن كل تلك التطورات التي اكتنفت المشهد السياسي البحريني والوقوف على حقيقة موقف كل طرف من الطرفين كان من المفترض أن يكون الأمين العام للأمم المتحدة على علم بها أولاً بأول من خلال ممثله الإعلامي المقيم بالبحرين، ثم ما الذي كان يجب على الحكومة البحرينية أن تفعله، وهي ترى أمن البلاد يتعرض للخطر واقتصادها يتعرض للشلل بسبب إصرار المعارضة على التصعيد؟ لقد أعلنت على الدوام التزامها بالحوار.. وحين انتقلت المظاهرات من دوار مجلس التعاون إلى مجلسي النواب والشورى لتعطيل اجتماعاتهما ثم إلى مبنى مجلس الوزراء وبعده إلى وزارة الداخلية تعاملت معها الحكومة باللين والنصيحة، وبدلا من الاستماع إلى دعوات الحوار والتسامح تجاوز منظمو المظاهرات الحدود وانتقلوا في تظاهرهم إلى محيط القصر الملكي ومع ذلك أمر جلالة الملك بعدم التعرض لهم. هذا الحرص من جانب الدولة على إبداء أقصى درجات ضبط النفس ظل هو النهج المتبع مادامت عند الحد الأدنى من الضرر، ولكن عندما تمادى المتظاهرون ووصل بهم الأمر إلى افتراش الشوارع الرئيسية ومنع الناس من الذهاب إلى عملهم، ونصب الخيام أمام المرفأ المالي ونقل الاعتصام إليه - وهو العصب الاقتصادي للمملكة - ومن ثم تعطيل شركات ومؤسسات ومتاجر عن العمل أياما عدة وإغلاق الكثير منها، كل ذلك دفع الناس والمتضررين إلى مناشدة الدولة حماية مصالحهم من التدمير. والمثير أن كل ذلك يحدث تحت سمع وبصر كل السفراء والدبلوماسيين المعتمدين بمن في ذلك الممثل الإعلامي للأمين العام. ولكن مع ذلك يفاجئنا «بان كي مون» باستنكاره على الحكومة البحرينية حقها في العمل على استعادة أمنها واستقرارها وحماية مواطنيها والمقيمين على أرضها وإنقاذ اقتصادها بفض الاعتصامات، بل إنه يحذرها ويتوعدها، ويصف ما قامت به من إجراءات ضد المخاطر التي تتهددها بأنها تتضمن انتهاكًا للقواعد الإنسانية، في مزايدة واضحة على مواقف بعض الحكومات الغربية التي ثمنت منذ البداية دعوة القيادة في البحرين إلى حل الأزمة من خلال الحوار، ودعت المعارضة من خلال البيان الصادر عن الاتحاد الأوروبي إلى التوقف عن ممارسة كل ما من شأنه إثارة الفوضى والتجاوب مع دعوات الحوار .. وهو موقف يدحض تصريحات الأمين العام. تلك المحاولة المغلوطة لتحميل الحكومة البحرينية مسؤولية ما يمكن أن تسفر عنه المواجهات مع عناصر خارجة على النظام والشرعية وتهدد وحدة الوطن وتضربه في مقتل، هي محاولة فاضحة تكشف عوار الأممالمتحدة وأمينها العام، وكذا سياسة الكيل بمكيالين التي يتم انتهاجها في عهد هذا ال «كي مون» الذي يحاول أن يمتطي صهوة حقوق الإنسان في البحرين في الوقت الذي يغمض فيه عينيه عن جرائم إسرائيل اليومية في حق الفلسطينيين. إن المطلوب الآن هو عدم السكوت عن هذا الخطأ الدبلوماسي الذي وقع فيه الأمين العام للأمم المتحدة.. ولا يكفي قيام سفراء دول مجلس التعاون الخليجي بتوجيه رسالة إلى بان كي مون لشرح موقف البحرين - كما ذكر بعض الصحف الخليجية - بل يتطلب الأمر تقديم احتجاج شديد اللهجة باسم دول مجلس التعاون الخليجي إلى الأمين العام للأمم المتحدة يتضمن الأدلة الدامغة التي تثبت انحياز الأمين العام.. حيث إن مثل هذا النوع من التصريحات غير المتوازنة لا ينبغي أن تمر من دون تصحيح، خاصة أنه يمكن أن يستند إليها كمرجع ممن يريدون التعرف على الحالتين الأمنية والسياسية في المملكة. وخلاصة القول إنه لا يمكن وصف موقف «كي مون» سوى بأنه موقف غير أمين، ويؤكد الشكوك في نزاهة مواقفه حيال ما يخص قضايا العالم العربي وخاصة القضية الفلسطينية، تلك المواقف التي سبق التدليل عليها آنفًا، والتي تفضح انحيازه بحيث أصبح من الممكن وصفه بأنه أقل أمناء الأممالمتحدة حيادًا وأكثرهم تبعية. المصدر: اخبارالخليج 29/3/2011