مع بداية العام الجديد يلح السؤال حول سير العالم ومآله: إلى أين المصير؟ لا شك أن العالم تغيّر عما كان عليه قبل عقود، بل هو يتغيّر بصورة مفاجئة ومتسارعة، سواء في نظامه وخريطته أو في مفاهيمه وقيَمه أو في أدواته ومؤسساته، فضلاً عن محركاته وقواه واللاعبين على مسرحه. وهكذا نحن إزاء تحولات بنيوية هائلة، تقنية واقتصادية وسياسية ومجتمعية وثقافية، تنخرط معها البشرية في واقع كوني جديد. هناك عوامل عديدة تضافرت وتداخلت لصنع هذا الواقع. يمكن الإشارة إلى بعض المحطات والانعطافات البارزة: الانهيارات الأيديولوجية والسياسية، كما تمثلت في سقوط المعسكر الاشتراكي وتفكك الاتحاد السوفييتي، وما تلا ذلك من تداعيات تجسدت في سقوط جدار برلين بين شطري أوروبا، وفي زوال الثنائية القطبية بين أميركا وروسيا، الأمر الذي أتاح للولايات المتحدة أن تتصدّر قيادة العالم أو أن تنفرد بإدارته، بما عناه ذلك من انتصار عقيدة السوق وهيمنة الليبرالية بشكلها الجديد المعولم ومنطقها الأحادي. الموجة الحضارية الجديدة، كما تمثلت في ثورة المعلومات والاتصالات التي تفجرت معها أُطر الزمان والمكان، بما يشبه فتحاً كونياً لا سابق له؛ إذ أصبح بالإمكان نقل المعطيات من العلامات والصور أو الرموز والنصوص، من مكان إلى آخر، بسرعة الضوء والفكر؛ فضلاً عن تزايد إمكانات الانتقال والاتصال والتبادل بين البشر، بعد تآكل الحدود بين الدول والمجتمعات. بذلك تنتقل البشرية من عالمية المجتمع الصناعي والإنتاج الثقيل، إلى عولمة الزمن الرقمي والإنتاج الإلكتروني، الأمر الذي حوّل الكرة إلى قرية واحدة أو إلى سوق واحدة أو ساحة واحدة، على الصعد الإعلامية والاقتصادية والأمنية. الطفرات المعرفية والتحولات الفكرية التي تغيرت معها الرؤية إلى العالم وطريقة مقاربة الأشياء. تمثل ذلك في مقولات جديدة في قراءة المجريات العالمية، مثل نهاية التاريخ، صدام الحضارات، ما بعد الإنسان، الليبرالية الجديدة، النَسوية الجديدة، مجتمع المخاطرة، الحداثة السيّالة، مجتمع الشبكة، الفوضى الخلاقة، عقلنة الكوارث، وسوى ذلك من الأفكار والمفاهيم التي تغيرت معها النظرة إلى الإنسان والثقافة والهوية والمجتمع، أو إلى الحياة والطبيعة والكون.. صعود الأصوليات الدينية على المسرح، كما تمثل ذلك في قيام الثورة الإيرانية، وفي وصول بعض الأحزاب الإسلامية إلى الحكم في غير بلد. ومن لم يقبض منها على السلطة بات قوة فاعلة في صنع هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته. الأحداث المحلية والإقليمية أو العالمية، كما يحدث في أفغانستان والعراق ولبنان، أو في غزة والصومال والسودان. وهكذا نحن إزاء عودة للدين بعقائده وفتاواه ومنظماته ودعاته ورجاله الذين يحتلون الشاشات والساحات.. هذه أحداث كبرى أسهمت في صنع المشهد الكوني الراهن، الغني بإمكاناته والمفتوح على احتمالاته الإيجابية والسلبية. بالنسبة إلى الإيجابيات، يمكن الإشارة أولاً إلى انكسار منطق الأحادية القطبية التي أعقبت انهيار الثنائية القطبية بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفيتي، بما عناه ذلك من انفتاح الأفق نحو عالم متعدد القوى والأقطاب والتكتلات. هذا ما تجسّد في صعود الدول الناشئة على المسرح الكوني كقوى سياسية واقتصادية، كالصين والهند والبرازيل، الأمر الذي عنى كسر المركزية الغربية ممثلة بأميركا وأوروبا. ولادة فاعل بشري جديد مفتوح على تعدد الأنماط والنماذج. هذا ما تجلى خاصةً في نشوء هويات جديدة، هجينة ومركبة متعددة الجنسية والإقامة أو اللغة والثقافة، الأمر الذي أدى الى كسر المنطق العنصري. ومن شواهد ذلك انتخاب أوباما، الذي هو صاحب هوية خلاسية، رئيساً للولايات المتحدة. تزايد إمكانات التحاور والتواصل بين الدول في مواجهة المعضلات والتحديات المالية والبيئية والأمنية، على نحو ترتسم معه، بصورة لم تُعهد من قبل، وحدة المصير البشري، في ما وراء صدام الأفكار وصراع المصالح. يتجلى في ذلك في نسج علاقات جديدة بين الأقطاب الثلاثة: أميركا والصين وروسيا، تقوم على التباحث والتعاون، بالرغم من الاختلاف والتنافس. مقابل هذه العوامل التي تشتغل لصالح مفاهيم الانفتاح والاعتراف والشراكة الكونية والقوة الناعمة، هناك عوامل سلبية هدامة مضادة، تشتغل لمصلحة الانفراد والاحتكار أو التعصّب والإرهاب، وكل ما يصنع المآزق والأزمات. ولا مبالغة، فمع نهاية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، تغرق البشرية في أزماتها على غير صعيد، وأخطرها وأشدها فتكاً، بالطبع، أزمة مثلثة الرؤوس؛ وجهها الأول هو الانهيارات العقارية والبنكية، التي أسهمت في صنعها حرية السوق المطلقة وهيمنة رأس المال المالي على بقية القطاعات الاقتصادية. ومن المفارقات في هذا الخصوص، أن الأزمة المالية الراهنة تعني نقصاً في سيولة الأموال، في عصرٍ يوصف بأنه عصر الحداثة السيّالةِ في المعلومات. أما وجهها الثاني، فيتمثل في التلويث والتصحير والتبديد، في ما يخص العلاقة مع الأرض والحياة والطبيعة والمجال الحيوي. فبعد عشرين عاماً من عقد أول اجتماع لتدارس هذا الخطر المحدق بالمصائر، ازدادت المخاطر الناتجة عن الانبعاث الحراري والاستهلاك الفاحش المُفضي الى نضوب الموارد. من هنا كان الاجتماع الأخير في كوبنهاغن لتدارك الكارثة الآتية، والذي شارك فيه أكثر من مائة دولة. وكان من الطبيعي أن تواجه القمة بالاحتجاجات أو برفع المطالب، من جانب الأجيال الشابة والمقبلة التي باتت تخشى على مستقبلها ومصائرها من الأجيال الفائتة والفاشلة الممسكة بالمقدرات. والوجه الثالث، هو العنف الذي يتصاعد ويتعمم ويتعولم، بعد صعود الأصوليات المتشددة على المسرح بآلهتها ونجومها وأبطالها وجزاريها. وبالطبع فالإرهاب قد استدعى الحرب عليه، من جانب القوى العظمى والدول الفاعلة، وخاصة من جانب الولاياتالمتحدة التي ضُربت في عقر دارها، ممن كانوا حلفاء لها أو ممن أسهمت في صنعهم ودعمهم في مواجهة الاتحاد السوفييتي، فارتدوا عليها، والحصيلة هي تواطؤ الضد مع ضده، على إحداث كل هذا العبث والخراب على الساحة الكونية. وهكذا يترجح العالم بين فتوحاته وأزماته، بين منجزاته وكوارثه، مما يعني أنه لم يعد بالإمكان إدارة شؤون الكوكب، في ضوء التحولات وعلى وقع الأزمات، بالعدة الفكرية السائدة، فكل شيء آخذ في التغيّر، الدين والدولة والمجتمع والهوية والمعرفة والعمل. من هنا الحاجة إلى استراتيجيات جديدة في التفكر والتدخل والتدبر: الاعتراف في ما يخص العلاقة بالآخر، التداول في إدارة الشأن العام، الشراكة في إدارة الشأن الكوكبي، الرعاية في ما يخص الطبيعة والأرض، الاقتصاد والتعقّل بخصوص الإنتاج والاستهلاك، وإلا فالكل هالك وسط هذا السباق المجنون على الحطام. نقلاً عن البيان الاماراتية 4/1/2010م