خلال ثورتي مصر وتونس تضافرت سائر القوى الشعبية من أجل الإطاحة بنظامي الحكم، وتمكنت هذه القوى في آخر الأمر من إطاحة نظامي بن علي ومبارك، إلا أنها وقفت بعد ذلك في حيرة ماذا تفعل في غياب تصور كامل لما ينبغي أن يكون عليه الحال بعد هاتين الثورتين، وأخيرا بدأنا نسمع أن سبعين حزبا ظهرت في تونس وذلك ما يثير القلق في بلد مثل بريطانيا ما زالت تخضع لسلطة ثلاثة أحزاب فقط، أما مصر فقد أعلن فيها المجلس العسكري ومجلس الوزراء أنهما بصدد وضع دستور فوقاني دون استفتاء شعبي عليه، ولا يدري أحد ما حاجة مصر لمثل هذا الدستور إذا كانت لم تهيىء نفسها لنظام حكم جديد في وقت نعلم فيه أن الأمور في بريطانيا تسير على ما يرام حتى مع عدم وجود دستور مكتوب في البلاد. وبصفة عامة فقد أثار هذا الاتجاه في مصر قلق التيارات الإسلامية وخاصة جماعة الإخوان المسلمين التي هي أكثر الحركات الدينية والسياسية تنظيما في البلاد وهي ترى أن أي دستور يخالف توجهاتها قد لا يكون ضروريا. وفي ظل هذا القلق المتزايد تمد الولاياتالمتحدة يدها لحركة الأخوان المسلمين في مصر بعد عقود طويلة من العداء مع سائر الحركات الإسلامية على مستوى العالم، وبالطبع ليس ذلك بدافع المودة أو التآلف بل بكون الولاياتالمتحدة توقعت أن يكون للإخوان المسلمين نفوذ كبير في مصر بعد الثورة وهي تقدم مبادرتها من أجل أن تحقق تقديرا لدى القوى الصاعدة في المنطقة، ولا يختلف هذا الأسلوب البراغماتي عند الولاياتالمتحدة عن الأساليب التي ظلت تمارسها منذ زمن طويل، فهي لا تريد أن تظهر بأنها تدعم سياسات معادية تسبب الأضرار لكثير من الشعوب العربية، وذلك ما جعل العلماء الأمريكيين أخيرا يقولون إن الثورات العربية والكساد الاقتصادي في العالم هما بسبب انفجارات في كوكب الشمس وانبعاثات جيومغناطيسية أوجدت حالة من الغضب في منطقة الشرق الأوسط دون أن تحدد الولاياتالمتحدة لماذا يكون الغضب في منطقة الشرق الأوسط وليس في غيرها من مناطق العالم، ودون أن تقول إن مديونياتها ومواصلتها طبع كميات كبيرة من الدولار هي المسؤولة عن حالة الفوضى السائدة. ويبقى السؤال المهم هو هل توقعات الولاياتالمتحدة بأن يكون للقوى الإسلامية دور قيادي في منطقة الشرق الأوسط هي توقعات يمكن أن يدعمها منطق يستند إلى الواقع السياسي في منطقة الشرق الأوسط؟ لا شك أن الكثيرين يقارنون بين عالم عربي تسود فيه الحركات الإسلامية وبين الواقع الأوروبي الذي يصنف على أنه واقع عالماني، لكن المقارنة في معظم الأحيان قد لا تكون صحيحة بكون الفصل بين الدين والسياسة في العالم الغربي قد لا يكون كما يتصوره الكثيرون خاصة في منطقة الشرق الأوسط، ذلك أن المجتمعات الغربية تحترم عقائدها الدينية إلى درجة كبيرة، لكن قدرتها على تطوير نظمها السياسية جعلتها تتبع أسلوبا لا يفصل القيم الدينية ولا يقلل من شأنها في الممارسة السياسة، ويرى الزائر للدول الغربية في الوقت الحاضر وجودا ظاهرا للكنائس ودور العبادة في معظم المدن الغربية كما تستمد النظم السياسية في الدول الغربية مبادئها من القيم الدينية بل إن كثيرا من الأحزاب المتنفذة كما هو الشأن في ألمانيا تسمي نفسها بأسماء ذات مدلولات دينية، والسؤال في هذا الواقع هو لماذا يجد الدين مجاله بأسلوب سلس في العالم الغربي بينما تدخل الحركات الدينية في العالم العربي في صراع مع السلطة عند ممارسة نشاطها المعتاد؟ هنا لا بد أن نعترف بوجود اختلاف بين العقائد الدينية في الغرب والعقائد في الشرق الأوسط، ذلك أن الغربي يمكن أن يؤمن بعقائد أو مبادىء دينية دون أن يداخل بينها وبين النظام السياسي السائد في البلاد، وبالتالي لا يحدث احتكاك بين النظام السياسي والعقائد، أما في العالم العربي فإن العقيدة هي أسلوب حياة يمارسه الناس في سلوكهم اليومي، وتظل معظم التنظيمات الدينية محصورة في هذا الجانب ولا تحاول تطوير نظم سياسية تخدم الجانب المدني للحياة ولا تتناقض مع هذا الجانب، ونتوقف هنا مع بعض التنظيمات الفاعلة في العالم العربي، وأولها جماعة الإخوان المسلمين التي أسسها الشيخ حسن البنا في مصر كحركة شبابية عام ألف وتسعمئة وثمانية وعشرين ثم أصبحت تنظيما في عام ألف وتسعمئة وأربعة وأربعين وبعد ذلك انتشرت وأصبح لها فروع في مختلف البلاد العربية، وكانت الفكرة الرئيسية التي انطلقت منها حركة الأخوان المسلمين هي تطبيق الشريعة الإسلامية، وتعتبر هذه الحركة أكثر الحركات الإسلامية حضورا في العالم العربي، وتتباين علاقات الدول معها، بحسب الأهداف المعلنة، ومن عمق هذه الحركة نشأت حركة حماس الفلسطينية التي تأثرت تأثرا خاصا بالظروف الفلسطينية الخاصة، وواجهت ظروفا صعبة مع المجتمع الدولي بسبب وضوح موقفها بالنسبة للقضية الفلسطينية. أما حركة الجهاد الإسلامي وذراعها العسكرية سرايا القدس فقد اتخذت المقاومة خيارا وحيدا لتحرير فلسطين، وهي حركة في مجملها سنية غير أنها تأثرت إلى حد كبير بثورة الخميني في إيران. هناك أيضا حركة السلفية الوهابية وتعتمد على مبادىء وتعاليم الشيخ محمد بن عبد الوهاب التي تستهدف تنقية العقائد من الخرافات والبدع والتمسك بمحور التوحيد. وتدعو إلى مرجعيات السلف في القضايا الدينية، وأما السلفية الجهادية فهي تتجلى في توجهات تنظيم القاعدة الذي أسس لنفسه وجودا في عدد من الدول العربية والإسلامية. وإلى جانب هذه التنظيمات السنية هناك أيضا تنظيمات تنسب إلى المذهب الشيعي مثل تنظيم حزب الله والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق والتيار الصدري والتيار الخالصي. وإذا نظرنا إلى معظم هذه التيارات وجدنا أنها ترتبط بمفهومات محددة تتعلق بالعقيدة ولا تتجاوزها إلى بناء النظم السياسية، ووفق هذا الواقع يصعب فهم الأهداف الحقيقية التي ترمي إليها هذه الاتجاهات، هل هي تسعى لإقامة منظومات لتطبيق العقائد الدينية فقط أم هي تسعى لإقامة نظام سياسي تحافظ فيه على القيم الدينية وحدها، وإلى أي مدى يختلف هذا التوجه عما هو سائد الآن حيث يوجد قانون مدني في مختلف الدول العربية وإلى جانبه قوانين شرعية تحافظ على القيم الدينية بحسب ما نص عليه الشرع، كما أن كثيرا من الداعين للاتجاهات الدينية بحاجة إلى أن يقنعوا مجتمعاتهم بأنهم قادرون على القيام بأعباء الدولة وفق المتطلبات التي درج العالم على تأسيس الدول عليها. ولا يعني ما ذهبنا إليه أن هناك فجوة بين المدني والديني لأننا قد أوضحنا من قبل أن هناك انسجاما بين الديني والسياسي في مختلف الدول الغربية ،وما هو مطلوب في العالم العربي أن تكون هناك خريطة لمثل هذا الانسجام حتى يتبين الجميع الطريق الذي يسيرون عليه، وإذا كانت كثير من الاتجاهات المدنية لا تجد صعوبة في تحديد معالم الدولة التي تريد السير على منوالها فإن المطلوب في هذه المرحلة من سائر الحركات الدينية أن ترسم معالم واضحة لطبيعة الدولة التي تريد أن تؤسسها حتى يمكن أن ينشأ حوار حولها، لأنه لا يكفي التحدث عن دولة الشريعة في وقت لم يبذل فيه جهد كاف لتحديد معالم تلك الدولة، خاصة أن معظم النماذج التي يدعو إليها أصحاب هذه الدعوة تعتمد على أسس نظرية بسبب عدم وجود أنموذج حقيقي يمكن الاعتماد عليه، ونعلم جميعا أن جسر المسافة بين الديني والمدني في العالم العربي ضروري جدا لأن مجتمعات الشرق الأوسط لا تستطيع أن تعيش بغير عقائدها، وأن هذه المسافة لا يمكن أن تكون مسافة صراع في الوقت الذي يمكن التفاهم حولها من أجل مصلحة المجتمع وخيره. المصدر:ا لقدس العربي 18/8/2011