وزير الداخلية يترأس لجنة ضبط الأمن وفرض هيبة الدولة    حملة في السودان على تجار العملة    اتحاد جدة يحسم قضية التعاقد مع فينيسيوس    إيه الدنيا غير لمّة ناس في خير .. أو ساعة حُزُن ..!    (خطاب العدوان والتكامل الوظيفي للنفي والإثبات)!    خطة مفاجئة.. إسبانيا تستعد لترحيل المقاول الهارب محمد علي إلى مصر    مشاهد من لقاء رئيس مجلس السيادة القائد العام ورئيس هيئة الأركان    من اختار صقور الجديان في الشان... رؤية فنية أم موازنات إدارية؟    المنتخب المدرسي السوداني يخسر من نظيره العاجي وينافس علي المركز الثالث    الاتحاد السوداني يصدر خريطة الموسم الرياضي 2025م – 2026م    وزير الصحة المكلف ووالي الخرطوم يدشنان الدفعة الرابعة لعربات الإسعاف لتغطية    إعلان خارطة الموسم الرياضي في السودان    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    ترتيبات في السودان بشأن خطوة تّجاه جوبا    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    تحديث جديد من أبل لهواتف iPhone يتضمن 29 إصلاحاً أمنياً    شاهد بالفيديو.. لاعب المريخ السابق بلة جابر: (أكلت اللاعب العالمي ريبيري مع الكورة وقلت ليهو اتخارج وشك المشرط دا)    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    ميسي يستعد لحسم مستقبله مع إنتر ميامي    تقرير يكشف كواليس انهيار الرباعية وفشل اجتماع "إنقاذ" السودان؟    محمد عبدالقادر يكتب: بالتفصيل.. أسرار طريقة اختيار وزراء "حكومة الأمل"..    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    "تشات جي بي تي" يتلاعب بالبشر .. اجتاز اختبار "أنا لست روبوتا" بنجاح !    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    أول أزمة بين ريال مدريد ورابطة الدوري الإسباني    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    بزشكيان يحذِّر من أزمة مياه وشيكة في إيران    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    مصانع أدوية تبدأ العمل في الخرطوم    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    الشمالية ونهر النيل أوضاع إنسانية مقلقة.. جرائم وقطوعات كهرباء وطرد نازحين    شرطة البحر الأحمر توضح ملابسات حادثة إطلاق نار أمام مستشفى عثمان دقنة ببورتسودان    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السودان و"مسمار جحا"
نشر في سودان سفاري يوم 11 - 09 - 2011

تعشق السياسة السودانية “مسمار جحا"، في كل قرار وتسوية ومصالحة، يبدو مسمار جحا، بنداً خفياً، لا يقفز إلى السطح الا بعد فترة زمنية، ليكتشف الجميع خطل أو خطأ ما اتفقوا عليه، فمنذ خمسينات القرن الماضي، ظل مسمار جحا، بنداً يتلاعب بالأحداث السياسية السودانية، فاتفاقات جوبا وأديس أبابا وكاودا، وأبوجا ونيفاشا، والدوحة، وعدد من العواصم الأوروبية والعربية والإفريقية، كلها احتضنت بقصد أو من دونه، مسمار جحا، والذي يبدأ عقبة في الوصول إلى اتفاق، ثم يلجأ الطرفان إلى تسوية، ثم يلهثان إلى اللحاق بموعد ضرب أصلاً لتوقيع اتفاق، ويقفز الجميع فوق البند العقدة، ليأتي لاحقاً مشكلاً “مسمار جحا" الذي ينسف الاتفاق .
ويبدو “مسمار جحا" أكثر وضوحاً في اتفاقيتي نيفاشا للسلام بين الشمال والجنوب في العام ،2005 ومخلفات اتفاقات فرعية، ليعاني السودان طوال أعوام ستة، بعد ذلك، ويلات بنود قفز عليها بتسوية أو إرضاء لمراقبين أو جهات دولية أو إقليمية، وكذلك الحال في اتفاق أبوجا، ثم الدوحة، كأشهر الاتفاقات التي يقهقه جحا ممسكاً بمسماره، انتظاراً لما تثيره خلافات حول اتفاق سابق .
يأتي اتفاق أديس أبابا الأخير، الذي حوى قضايا معلقة، كعواصف تقتلع سكينة مؤقتة، اعتقد السودانيون أنها غشيتهم عقب إعلان دولة الجنوب في التاسع من يوليو/تموز الماضي، لتبرز قضيتا جنوب كردفان وداخلها آبيي، وقضية ولاية النيل الأزرق التي تفجرت الأسبوع الماضي، بما يشبه الحرب الشاملة بين شمال السودان والجنوب، وكان زنادها هذه المرة اتفاقاً لم يلحق به “مسمار جحا"، حيث وقع اتفاق “كاودا" الأخير، بواسطة قطاع الشمال، الذراع السياسية للحركة الشعبية لتحرير السودان، التي ذهبت جنوباً مع دولتها، وبقي قطاعها الشمالي يصول ويجول تحت بصر ورعاية حكومة الشمال ودستورها .
وليس هناك ما يوضح “مسمار جحا" مثل قطاع الشمال ، الذي أثار جدلاً كثيفاً عقب إعلان دولة الجنوب، ولا يزال . فالطبيعي والمنطقي، كما يقول رجل الشارع، أن تذهب الحركة بقطاعاتها كلها من شمال وشرق وغرب وجنوب، إلى دولة جنوب السودان، التي أعلنت رسمياً في التاسع من يوليو/تموز الماضي، لكنها بقيت تثير جدلاً سياسياً واجتماعياً وقانونياً، وكما يقول قانونيون بعدم شرعية حزب قطاع الشمال بالحركة الشعبية عقب انفصال الجنوب إلى جانب ارتباط عملية تسجيل الأحزاب بأحكام ونصوص قانونية ودستورية بموجب المادة (40) من دستور السودان الانتقالي للعام 2005 . وأخيراً، عقب وقوع الفأس في الرأس بأحداث ولاية النيل الأزرق، أبلغ مسؤولون في الحكومة السودانية قطاع الشمال بحظر أنشطته وطلبوا منه عدم المشاركة في أي عمل سياسي باسم الحركة الشعبية لتحرير السودان .
كلعنة سياسية، يبرز “مسمار جحا" في بند “المشورة الشعبية" المنصوص عليها في اتفاقية السلام لتجري في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، وتعني استفتاء ومشورة أهل الولايتين في الحكم الذاتي أو الانضمام إلى إحدى الدولتين، وهو الأمر الذي أصبح وبالاً على الطرفين، وأشعل الحرب من جديد، ومن الغريب أن يجري القتال في الولايتين بطريقة مماثلة، وبفارق زمني قصير . و"المشورة الشعبية" هي الآلية الوحيدة المتفق عليها، كخروج من عقبة وضعية الولايتين، ويتم القفز عليها، بذات الطريقة المعهودة، لتخرج لسانها ساخرة من المتفقين، وتشعل النار من جديد .
المشورة الشعبية
بينما تعتقد الحركة الشعبية وحكومتها في الجنوب لاحقاً، أن أحداث النيل الأزرق الأخيرة مكملة لانقلاب سياسي وعسكري على اتفاقية السلام الشامل والمشورة الشعبية في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، ترى الحكومة السودانية خلافاً لذلك، ويقول الرئيس السوداني عمر البشير، في توضيح للقوى السياسية حول أحداث ولاية النيل الأزرق، إن الشمال التزم باتفاقية نيفاشا وبروتوكولاتها المختلفة، وصبر على كثير من الانفلاتات والتجاوزات التي تقوم بها الحركة الشعبية، بهدف بناء الثقة بعد معركة الحرب والتفاوض وتحقيق السلام، ونفّذ كل بنود الاتفاقية بما فيها الاستفتاء على تحقيق المصير والقبول بنتيجته وهي انفصال الجنوب وقيام دولته .
ويمضي البشير سريعاً إلى “المشورة الشعبية"، وهو يشير إلى البروتوكول الخاص بها، مع منطقة آبيي وجنوب كردفان والنيل الأزرق، لكنه يعود ويوضح معقباً على متحدثين في الخصوص، أن “المشورة الشعبية" قطعت شوطاً كبيراً، والنتيجة لم تكن على هوى والي النيل الأزرق مالك عقار، الذي ينادي بحكم ذاتي للولاية . ويشير البشير إلى أن “المشورة الشعبية" هي أن يقوم المجلس التشريعي للولاية بإجراءاتها، وهي مشاورة واسعة للمواطنين، ويبلغ الرئاسة (المركز) برأيهم، وإذا قبل به تكون المشكلة انتهت، وإذا لم يقبل يحول الأمر إلى مجلس الولايات ليبت في الأمر .
لكن حسب البشير، فإن مالك عقار لم يكن مع الرأي العام والمجلس التشريعي، الذي رفض الحكم الذاتي، وطالب بمزيد من الخدمات والتنمية، فعمد إلى تعطيل القرار . كما يشير البشير إلى مقاطعة الحركة الشعبية لعملية الإحصاء السابقة للانتخابات، ولما لم يفز مرشح الحركة الشعبية عبدالعزيز الحلو في جنوب كردفان لجأ إلى الحرب منفذاً عبارة “النجمة أو الهجمة" أي رمزه الانتخابي أو الحرب، وكرر مالك عقار الأمر في النيل الأزرق رغم توليه حكم الولاية مع معطيات عدم فوزه مقارنة بالفارق الكبير جداً، حيث كانت الغلبة للمؤتمر الوطني . وما لم يقله البشير، حسب مراقبين، هو استخدام سياسة “مسمار جحا"، حيث يعتقد على نطاق واسع أن المؤتمر الوطني سحب مرشحه أحمد كرمنو، وعمل على فوز مالك عقار ممسكاً بعصا الموازنات والترضية والرهان على عقار لإبقاء الولاية ضمن الشمال سلماً .
الترتيبات الأمنية
وبجانب “المشورة الشعبية"، تأتي معضلة الترتيبات الأمنية، ويقول الرئيس عمر البشير في ذات اللقاء، إن الترتيبات الأمنية مع الحركة الشعبية تلزم بتصفية القوات المشتركة وتسريحها، ليصبحوا مواطنين عاديين، ويقول “كنا نتوقع أن يسلموا سلاحهم ويمنحوا حقوقهم، وتجري معالجة خاصة حتى لا يكونوا “خميرة عكننة جديدة"" . ويضيف أن القوات المسلحة السودانية شكلت لجنة لحصر هؤلاء الشباب وتصنيفهم واستيعاب من يصلح أو تسريحهم في إطار الدمج .
ويحمل البشير الجنوب خطأ ترك القوة بكامل عتادها والدفع بها إلى المناطق التي التهبت مؤخراً، ويقول “كنا مع ذلك التزمنا بما يلينا، وشاركت معنا لجنة الرئيس الجنوب إفريقي ثامبو أمبيكي، لتجميع هذه القوات في معسكرات محددة، واستلام أسلحتها، لتتم معالجة كاملة لهذه القوات، لكن الحركة الشعبية رفضت هذه الترتيبات، وكلنا نعلم ما جرى في جنوب كردفان، وكان أمراً مدبراً ومخططاً له، فقد تم تسريب أعداد كبيرة جنوب حدود 1956"، ويؤكد البشير أنه حتى الذين تم استيعابهم في الشرطة كانوا رصيداً كبيراً للحركة الشعبية وقاتلوا ضد القوات المسلحة .
لكن البشير يكشف تحسب الحكومة حتى لا يتكرر ما حدث في جنوب كردفان، حيث كان متوقعاً أن تستغل الحركة الشعبية إعلان وقف إطلاق النار عقب زيارة الرئيس الإثيوبي ملس زيناوي، وفي معيته مالك عقار والي النيل الأزرق، لكن بعد ذلك أكدت المعلومات أنه يتم التحضير لعمل مماثل في النيل الأزرق، وتحسباً تم إرسال قوات للولاية، مع تعليمات واضحة ألا يبدأوا إطلاق النار، وألا يستجيبوا للاستفزازات، ويضبطوا أنفسهم، إلا أن خطاب مالك عقار الأخير كان دعوة للحرب . وهذه خطورة أن يكون لحزب جيش أو قوات مسلحة، حيث يمنع قانون الأحزاب ذلك .
وما انتهى إليه الرئيس البشير كان مادة للجدل السياسي طوال الفترة التي سبقت الأحداث الأخيرة، فوجود قطاع للجنوب في الشمال عقب التاسع من يوليو/تموز الماضي، أمر غير دستوري لأن قانون الأحزاب، الذي شاركت الحركة الشعبية قبل الانفصال، في صياغته يحتوي على جملة من الشروط لتسجيل أي حزب سياسي، منها عدم وجود تشكيلات عسكرية للحزب إلى جانب التخلي عن أي فرع سياسي خارجي، فضلاً عن تكوين عضوية وأفراد مدنيين .
وبالعودة إلى أحداث ولاية النيل الأزرق، فهي تبعاً للمراقبين نتيجة حتمية لجدل في غير مكانه، حتى إن مسؤولين في الاتحاد الأوروبي، حذروا من تسارع وتيرة الأحداث، وأبدوا رغبة في القيام بوساطة بين طرفي النزاع (الحكومة والحركة الشعبية) . وأكدوا سعيهم عبر بعثتهم في السودان لحث الطرفين على ضبط النفس والتوقف عن العنف . وقال المتحدث باسم الاتحاد الأوروبي، مايكل مان “هناك عمل عبر بعثتنا وعمل مواز في إطار الأمم المتحدة، ولكن الاتحاد الأوروبي ما زال يؤكد على استعداده لمساعدة الخرطوم وجوبا على حل الصراع والعيش في إطار سلمي" .
اتفاق كاودا
ولا ينفصل تسلسل الأحداث، إذا اصطحبنا اتفاق كادوا، فهذا الاتفاق كان مؤشراً واضحاً لمسيرة الأمور نحو الاقتتال، فهو اتفاق بين حركات مسلحة في دارفور وقوات مسلحة في مناطق النيل الأزرق وجنوب كردفان، وأطلق عليهم “جبهة المقاومة الوطنية"، وهي مشكلة من حركة تحرير السودان جناحي عبدالواحد وأركو مناوي وقطاع الشمال، وعقدت المجموعة اجتماعاً في جوبا قبيل نحو شهر من تطور الأحداث الأخيرة بحضور جيمس هوث رئيس هيئة أركان الجيش الشعبي، وعدد من قيادات الجيش الشعبي في جنوب كردفان والنيل الأزرق، وبعض قادة مناوي وقائد ثاني العمليات بحركة العدل والمساواة . وقرر ذلك الاجتماع إنشاء قيادة الجبهة العسكرية لهيئة أركان الجيش الشعبي، وأوكلت مهمة القيادة الميدانية لقوات الجبهة إلى حركة العدل والمساواة، وترك الدعم اللوجستي لحركة عبدالواحد، فيما أُسندت قيادة الدعم الفني والإشارة وسلاح المهندسين لحركة مناوي .
وعلى الرغم من أن أكثر المتشائمين بولاية النيل الأزرق، كما يشير مراقبون، لم يكن يتوقع اندلاع مواجهات بين القوات المسلحة وجيش الحركة الشعبية، بالرغم من أن نذر الحرب ظلت تلوح في سماء الولاية منذ فترة طويلة، مع انتشار وتواجد مكثف للجيش بالولاية تحسباً لإفرازات انفصال الجنوب، ورغم تداعيات رفض تنفيذ اتفاقية أديس أبابا الإطارية من قبل الحزب الحاكم، واستبشار كثيرين باللقاء الذي جمع البشير وزناوي وعقار كتجاوز عملي للازمة ونزع فتيلها، إلا أن ما حدث مطلع سبتمبر/أيلول الحالي، يؤكد أن هناك أجندات وقوى إقليمية ودولية تسعى إلى عودة الحرب، واقتطاع جزء آخر من جسد السودان، لتشتعل الحرب في ثالث أيام عيد الفطر المبارك، كأنما الأعياد مناسبة وفرصة ذهبية للحرب، حيث تكرر السيناريو قبل سنوات خلت في عدد من دول الجنوب إبان الحرب بين الطرفين وحتى بعد توقيع اتفاقية السلام .
اتفاق أديس أبابا
ويعود المراقبون إلى اتفاق أديس أبابا الإطاري الذي رفضته الحكومة المركزية بعد توقيها عليه، ويبدو أن الحكومة فطنت هذه المرة إلى مقلب “مسمار جحا"، فرغم أن الذي وقعه هو مساعد رئيس الجمهورية ونائبه في الحزب ويعد من أقوى رجال الرئيس، إلا أن الرئيس نفسه كان أول من رفض الاتفاق لتبدأ حالة الاحتقان تسيطر على المشهد السياسي بين الشمال والجنوب مختزلاً في ولاية النيل الأزرق، وعودة عدم الثقة بين الحكومة والحركة الشعبية . واعتبر المراقبون أن ما حدث بالولاية هو امتداد ونتاج طبيعي لما ظل يحدث بين الحكومة والحركة الشعبية منذ توقيع اتفاقية السلام الشامل قبل أكثر من ست سنوات .
مسمار تاريخي
ومن المفارقات، ان تنادي أصوات عديدة بالعودة إلى “مسمار جحا"، ومنحه هذه المرة اعتباره التاريخي، حيث يرى كثيرون في تنفيذ بنود بروتوكول المنطقة وعلى رأسها “المشورة الشعبية"، كما نصت الاتفاقية، حلاً لكل المشكلات بين الطرفين، فالمشورة التي اختبأت بين بنود الاتفاقية طوال تلك السنوات، كانت سبباً في حالة الاستقطاب الحادة التي لازمت مراحلها، وأسهمت في تعثر إكمال خطواتها . ومن المعروف أن اتفاقية السلام الشامل (نيفاشا)، خصت كلا الولايتين، النيل الأزرق وجنوب كردفان، باستفتاء شعبي تعارف عليه بحق “المشورة الشعبية"، وبحسب أطراف الاتفاقية وضامنيها فإن الهدف من ذلك الحق هو معرفة ما إذا كانت الاتفاقية الموقعة في العام 2005 قد لبت أشواق وتطلعات أهالي الولايتين . وفيما شهدت عملية استطلاع السكان في النيل الأزرق جدلاً محتدماً أوصل بعض مناصري الحركة الشعبية للمناداة بالحكم الذاتي، كانت محصلة ذات العملية (المشورة الشعبية) في جنوب كردفان صفرية، إذ قطع تمرد القائد عبدالعزيز الحلو احتجاجاً على نتائج الانتخابات الطريق أمام استفتاء الأهالي . فكلا الولايتين وبسبب الحرب جمد فيها حق المشورة الشعبية .
فرصة ذهبية
الرد الحاسم والقاصم لظهر قادة الحركة الشعبية في ولاية النيل الأزرق، يرى مسؤولو الخرطوم ضرورة فرضتها تداعيات الأحداث، مشيرين إلى أن تدخل الجيش جاء لبسط السيطرة وإعادة الأمن إلى الولاية ومدينة الدمازين، وما اسقاط الشرعية من مالك عقار إلا لتمرده على الدولة . فيما يرى آخرون أن الحكومة نصبت مكيدة لمالك عقار وجماعته للتخلص منهم بشرعية الدفاع، مشيرين إلى ان الحكومة كانت تبحث عن ذريعة للقضاء على الجيش الشعبي ومالك عقار لإسكات صوته المطالب بحقوق مشروعة لمواطني الولاية، ويجب إيقاف الحرب وتطبيق “المشورة الشعبية" لحل الأزمة .
ويستند أصحاب هذا الرأي إلى تصريحات مسؤولين في الجيش والحكومة، فالناطق الرسمي يقول إن القوات المسلحة كانت تتوقع ذلك خلال التعبئة السياسية والعسكرية التي قام بها مالك عقار لقواعده، وظلت ترصد تطورات الأوضاع طوال الفترة الماضية، فيما يقول الدكتور كمال عبيد وزير الإعلام إن الحركة الشعبية قطاع الشمال كانت تخطط منذ فترة لعمل عسكري مصاحب لانفصال الجنوب وبالتنسيق مع حكومة الجنوب وذلك بجمع فصائل التمرد في جنوب البلاد، ويضيف أن كل المعلومات التي كانت ترد إلينا واستوثقنا منها تؤكد أن مالك عقار رئيس الحركة في الشمال كان منسقا لهذا التجمع، الحركة بدأت تتحرك في النيل الأزرق في جنح الظلام إلا أن القوات المسلحة عطلت هذا التحرك وفق ترتيبات أمنية محكمة .
الأوضاع بالنيل الأزرق كانت مأزومة وقابلة للانفجار تحت أي ظرف منذ اندلاع أحداث جنوب كردفان، مروراً بالاتفاق الاطاري وتمديد فترة تطبيق “المشورة الشعبية" فأصبح الوضع أشبه بالتمرد، كأن السودان أصبح دولة ميليشيات وليس دولة مؤسسات . وهو تلخيص للازمة السودانية ليس في النيل الأزرق فقط، بل في جنوب كردفان وآبيي ودارفور ومناطق أخرى مرشحة لمثل هذه الانفجارات، ربما تنتظر أيضا إعلانها منطقة طوارئ وتغيير ولاتها بقرارات رئاسية، هي نفسها من عينتهم مع فارق رقم القرار الأول والأخير .
ومثلما للجنوب مزاياه التي أثارت أطماع الآخرين وسحبته إلى الانفصال، فإن ولاية النيل الأزرق تشتهر بالغابات ويشقها النهر الأقوى الذي أخذت منه اسمها، وتضم خزان الروصيرص لتوليد الطاقة الكهربية، ومشروعات زراعية ضخمة تنتج الذرة والسمسم وزهرة الشمس، فضلاً عن الصمغ العربي (6 ملايين فدان صالحة للزراعة من جملة مساحتها البالغة 8 ملايين فدان ومعدل هطول أمطار يقدر ب800 ملليمتر فى العام)، ووفقاً لدراسات جيولوجية، فإن ولاية النيل الأزرق من أثرى ولايات السودان بالمعادن .
ويقول اللواء الركن متقاعد محمد عباس الأمين المحلل العسكري والخبير الاستراتيجي، إن ما يحدث في ولاية النيل الأزرق يعد مخططاً استعمارياً يستهدف ثروات السودان . ويشير إلى أن الصراع الدائر حالياً في البلاد يدور في أثمن مناطق السودان موارد وثروات، مؤكداً وجود سيناريوهات متعددة تستهدف السودان، وذلك عبر خلق بؤر توتر في أطرافه، وأن بعضها ليست هناك استحالة في تحقيقها خاصة مع غياب الدعم العربي الإفريقي للسودان، ووجود الدعم الخارجي للتمرد، فالنيل الأزرق وجنوب كردفان ودارفور هي السودان الجديد الذي تسعى القوى المعادية لتطبيقه على أرض الواقع .
آلاف من سكان الدمازين “يقدرون ب30 ألفاً"، نزحوا نتيجة القتال، إلى ولايات سنار والجزيرة، وقالت المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة إن ما يصل إلى ثلاثة آلاف شخص فروا إلى إثيوبيا، ما يعني أزمة إنسانية جديدة، وتدخلاً دولياً، ودارفور أخرى، دفعت وزارة الخارجية للمسارعة وبعثت شكوى لمجلس الأمن باعتداء جيش الحركة الشعبية المماثل تماماً لما حدث بولاية جنوب كردفان، قائلة “هذه ليست حركة سودانية، ما حصل في النيل الأزرق كان هجوماً على السودان"، وطلبت من مجلس الأمن أن يتحمل مسؤوليته ويباشر مهامه .
المصدر: الخليج 11/9/2011


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.