لا يشك أحد أن أقصي ما بات يدفع واشنطن للاقتراب من دولة جنوب السودان، وإصرارها على تلطيف المناخ بين الدولتين هو بقائها بقرب آبار النفط الى المدي الذى تريده أو الى ان ينضب معين السائل الأسود لتعود وتبحث عن آبار وحقول أخري. و ليس سراً فى هذا الصدد ان حرص واشنطن على تلطيف المناخ بين الدولتين والذى كان أظهر دليل عليه توجيهها الصريح لحكومة جنوب السودان بالكف عن دعم الحركات المسلحة الناشطة ضد الخرطوم ليس بالطبع لسواد عيون الخرطوم، فالدولة العظمي التى ارتبطت بسلسلة مطولة من الأزمات مع الخرطوم ليست مهتمة مطلقاً بأمن واستقرار السودان إلا بالقدر الذى يتيح لها الاستفادة القصوي من موارد المنطقة، وهو ما تبين بجلاء على إثر فتح وزارة الخزانة الأمريكية المجال للشركات الأمريكية البترولية – قبل أسابيع – للعمل فى دولة الجنوب عبر إجراءات معقدة جراء العقوبات الاقتصادية المفروضة على السودان منذ سنوات، والتى كانت بالطبع تشمل جنوب السودان حتى انفصاله عن السودان مؤخراً. كما ان الشركات الأمريكية والإسرائيلية سعت عقب إقرار الانفصال – وبسرعة – لحجز أماكنها فى الدولة الوليدة وتناقلت وكالات الأنباء – قبل أسابيع – إنهماك هذه الشركات فى شراء أراضي جنوبية شاسعة بلغت نسبتها من جملة أراضي دولة الجنوب نحواً من 9% بأثمان زهيدة اقرب الى الرمزية! هذا الواقع فيه إشارة لا تخطئها العين البتة، أن ملف النفط لم يعد ولا ينبغي له ان يهم دولة الجنوب وحدها. وما حكومة الجنوب فى هذا الصدد سوي واجهة لابُد من وضعها هكذا خطوة بخطوة الى حين إمكان السيطرة على الوضع لاحقاً، ويلاحظ فى هذا المنحي ان واشنطن تلتزم الصمت – منذ أسابيع – رغم ما تراه من تعقيد فى الملف وهو أمر مألوف فى سياسيات واشنطن الخارجية حيث تدع الأمور تتفاعل وتصبح شائكة وترتفع درجة السخونة فيها وحينها تتدخل لمصلحتها وليس لمصلحة أى من الطرفين. وليس بعيداً فى هذا الصدد الدور (الخفي) الذى يقوم به المستشار الخاص لحكومة جنوب السودان (روجر ونتر) الأمريكي الجنسية والذى تبدو لمساته ظاهرة للعيان بحيث يستطيع كل من عرف الرجل وطريقة تفكيره إدراك ذلك سواء من طريقة تعامل الوفد الجنوبي فى الملف بإقحام قضايا بعيدة عنه، أو من خلال الخطوة التصعيدية (ذات الطابع الاستفزازي) التى قامت بها حكومة الجنوب بمصادرة وتأميم شركة النفط السودان (سودا بت)، فطريقة اللعب هنا تعتمد على رمي الكرة باتجاه قريب من شباك الخصم وليس داخل الشباك مباشرة بما يجعل الخصم أكثر شعوراً وحماساً برد الكرة فى هجمة مرتدة لإحراز هدف . هى لعبة شديدة التعقيد ومحسوبة بعناية ولكن ما ينقصها حقاً -هو ما ظهر فى محادثات أديس أبابا الأخيرة- ان الجانب الجنوبي يبدو غير قادر على إبراز مهاراته ،إضافة الى انه يتعامل دائماً على اعتبار ان الطرف السوداني ليست لديه المهارة الكافية . إن من المفروغ منه فى هذا النزاع ان هنالك من يريد وضع يده علي النفط بكامله بحيث لا ينال الطرفين شيئاً منه ولا تبدو حكومة الجنوب عابئة كثيراً بهذا الامر، فهي طالما كانت فى حمي القوى العظمي – بحسب اعتقادها – فإنها لا تخشي شيئاً فى حين ان الجانب السوداني يبدو قد التقط من الوهلة الأولي حقيقة اللعبة، وهو السر فى الازمة كلها، فهي أزمة سياسية ذات عناصر وقشرة خارجية اقتصادية مخطط لها بعناية شديدة.