في عام ألف وتسعمئة وأربعة وستين بدأت ثورة شعبية في الخرطوم قادها طلاب الجامعة وبعد ذلك تسلمت قيادتها جبهة الهيئات التي كانت تمثل منظمات المجتمع المدني في البلاد في ذلك الوقت، وكانت الثورة موجهة ضد نظام الحكم العسكري بقيادة الفريق إبراهيم عبود، ولم يكن نظام الرجل عسكريا بالمعنى الشمولي الذي عرفناه في أنظمة حكم كثيرة سادت في المنطقة العربية في تلك الحقبة، ذلك أن الفريق إبراهيم عبود لم يفكر في القيام بإنقلاب عسكري بل استدعاه رئيس الوزراء في تلك الفترة عبدالله خليل وطلب منه استلام السلطة بسبب خلافات بين التيارات السياسية في البلاد في ذلك الوقت، وبالتالي حين ذهب زعماء جبهة الهيئات إلى الفريق عبود يطلبون منه التنازل عن الحكم لم يجدوا منه معارضة بل أقصى ما طلبه هو أن يسمحوا له بتقسيط مبلغ اقترضه من البنك الزراعي بلغ نحو خمسة الاف جنيه، وكان غريبا أن يحكم رجل البلاد ست سنوات ثم يخرج من الحكم ليقترض ستة الاف جنيه. ولم يكن الفريق عبود نسيجا وحده في هذه النزاهة، فأنا أعرف بصورة شخصية الرئيس جعفر نميري الذي حكم السودان ستة عشر عاما وخرج من الحكم صفر اليدين، وأذكر بعد خروجه من الحكم جاء إلى العاصمة البريطانية لندن وقابلته في أحد المنازل في شارع إنفيرنيس، وأخبرني في ذلك الوقت أنه يعاني من مرض في القلب وطلب منه الأطباء في الولاياتالمتحدةة أن يأتي لزيارتهم كل عام ولكنه على مدى سنتين لم يتمكن من الذهاب، وعندما سألته عن السبب قال إنه لا يملك تكاليف الرحلة إلى الولاياتالمتحدة. هذا نمط من السياسيين الذين حكموا السودان في تلك الفترة، فهم على الرغم من قصورهم في الرؤية السياسية كانوا يتميزون في الوقت ذاته بدرجة عالية من النزاهة وطهارة اليد التي تعكس الأخلاق السودانية في تلك الفترة، ولكن حدث التحول السياسي بمجيء ثورة الإنقاذ في عام ألف وتسعمئة وتسعة وثمانين، وهي الثورة التي قادها الرئيس عمر البشير وأعلنت منذ يومها الأول أنها بصدد إقامة مشروع إسلامي في السودان وهو مشروع لم يتحقق حتى الآن ،وبعد مرور أكثر من عشرين عاما من وقوع الانقلاب، وخلال هذه الفترة بدأت تظهر كثير من المظاهر التي لم تكن معهودة في بيئة السودان. ونظرا للتطورات الخطيرة التي تواجه السودان في الوقت الحاضر فسوف أتوقف لقراءة المشهد السوداني في صورته الكاملة بعد انفصال جنوب السودان. ويمكننا أن نرى في ضوء ذلك ثلاثة اتجاهات واضحة: أولا: اتجاه حكومة الإنقاذ التي تسيطر على الحياة العامة من خلال حزب المؤتمر الوطني، وهو حزب لا يريد أن يقدم أي تنازلات بشأن السلطة، وكل ما يستطيع أن يقدمه هو أن يفسح المجال للأحزاب السياسية التقليدية لتتآلف معه من أجل دعمه وليس من أجل إعطائها فرصة في الحكم وذلك ما ترفضه تلك الأحزاب ثانيا: اتجاه الأحزاب التقليدية مثل حزب الأمة والاتحادي الديموقراطي والحزب الشيوعي وغيرها وهي في مجملها تأسست على أسس طائفية أو أيديولوجية وكانت سببا في وصول العسكر إلى الحكم أكثر من خمسة وأربعين عاما في مدة حكم لا تزيد عن ستين عاما منذ الاستقلال. ثالثا: هناك الاتجاهات الجهوية والإقليمية التي بدأت تطور ثقافة جديدة كان من نتائجها انفصال جنوب السودان والآن تعمل هذه الاتجاهات من أجل تقويض وحدة السودان وإشاعة الفوضى والحرب في داخله. ونظرا لأهمية هذا الإتجاه الأخير وما سيتمخض عنه فأرى أن نتوقف عنده قليلا لنرى مكمن الخطر في نموه. كشف مالك عقار رئيس الحركة الشعبية في قطاع شمال السودان وهي الحركة التي حققت انفصال الجنوب عن تشكيل ما يسمى بالجبهة الثورية المكونة من أربع حركات في غرب السودان، وهي جبهة تستهدف إسقاط نظام الخرطوم بالقوة المسلحة، وحتى لا يوجه النقد لهذه الجبهة فهي تقول في الوقت ذاته إنها ستفتح بابا للحوار إذا كان ذلك ممكنا وسوف تستوعب المعارضة السودانية التقليدية إذا كان هناك مجال للتعاون المشترك، وقال مالك عقار إن هذه الجبهة ستواجه نظام الخرطوم بوسائل الحرب التقليدية أو بوسائل حرب العصابات أو بتحويل الخرطوم إلى جبهة قتال ينتفي فيها الأمن. وقللت الحكومة السودانية من أهمية هذه الجبهة الجديدة واتهمت حكومة جنوب السودان بأنها تقف خلفها، وذلك ما حاولت حكومة جنوب السودان نفيه كما ورد على لسان زعيم الأغلبية في المجلس الوطني التشريعي في الجنوب أتيم قرنق. ويبدو أن بعض قادة المعارضة في الشمال لم يتنبهوا لخطورة هذا التطور الجديد وحاولوا فهمه من خلال موقفهم التقليدي من نظام الحكم القائم، وذلك ما وضح في تصريحات السيد فاروق أبوعيسى الذي قال إن السودان سيكون مسرح الثورة الشعبية التالية بسبب الغضب الشعبي على نظام لحكم والأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تضرب البلاد، وقال فاروق أبو عيسى إن القمع الحكومي في السودان أسوأ مما كان عليه الحال في مصر في زمن الرئيس مبارك وأدى إلى الثورة الشعبية التي أطاحت بنظامه وانتقد فاروق أبوعيسى بعض قادة الحزب الحاكم الذين يقولون إن السودان لن يواجه ظروف الربيع العربي وتساءل كيف يكون السودان استثناء إذا كان يواجه الظروف نفسها التي اندلعت فيها تلك الثورات خاصة مع إتباع سياسة القمع وعدم الاحترام لحقوق الإنسان بحسب قوله، وذلك ما أدى إلى سيل من الاحتجاجات الشعبية في العاصمة الخرطوم وشرق البلاد على الارتفاع في تكلفة المعيشة. وأما الصادق المهدي فقال في ندوة سياسية في واشنطن أنه حان الوقت لتغيير النظام وليس مجرد إسقاطه، كما يحدث في بقية دول العالم العربي، ويبدو أن ما هدف إليه الصادق المهدي من ذلك هو أن إسقاط النظام قد لا يأتي ببديل مقبول شأن الدول العربية التي اندلعت فيها الثورات والأفضل هو أن يبدأ الناس في التفكير في صيغة جديدة تجنب البلاد تكرار صيغة الماضي، وانتقد الصادق المهدي اتفاق 'كاودا' الذي أفرز الجبهة الثورية التي اعتبر أن نجاحها لن يؤدي إلى شيء سوى تقسيم السودان إلى دويلات، وقال الصادق المهدي إن حزبه يرفض التعاون مع حكومة البشير لأنها لا تفكر في التحول الديمقراطي الجدي في البلاد. ومهما يكن من أمر فالواقع أن هناك مناخا سياسيا جديدا في السودان وهذا المناخ يستوجب إعادة نظر شاملة من جانب نظام الحكم، ويجب ألا تستند إعادة النظر هذه على محاولة استيعاب المعارضة في داخل عباءة الحكم، لأن الواضح تماما هو أن نظام الحكم فشل في تحقيق المشروع الذي برر إنقلابه من أجله، ووضح أن الفساد المالي والسياسي في السودان الآن بلغ حدا لم يكن معهودا من قبل، وأن الضحية هم المواطنون العاديون الذين لم يعودوا قادرين على التعامل مع السلطة كما كان شأنهم دائما في بلادهم، ولاشك أنه في ظل المناخ الذي يسود العالم العربي الآن فإن السودان ليس بعيدا عن هذه التطورات وفي ظل غياب تصور متكامل للتغيير فإن الفرصة ستكون سانحة للجبهة الثورية من أجل أن تزحف إلى الخرطوم لتحول أمنها جحيما، وهنا لا بد أن يدرك نظام الحكم الأخطار المحدقة بالبلاد من هذا الاتجاه وبالتالي يجب أن يعمل نظام الحكم من أجل تفكيك بنيته حتى يجعل الفرصة سانحة للآخرين للقيام بدورهم الوطني لأن هذا هو الأسلوب الوحيد لوقف تطورات الصراع في مرحلة لاحقة ليس فقط لأن الجبهة الثورية ستشعر بالارتياح لهذا التطور بل لأن المضي في طريق الثورة سوف يكشف عن الأهداف العميقة التي تستهدف الوجود السوداني بأسره وذلك ما سيحتم التعامل مع التطورات بأسلوب آخر. المصدر: القدس العربي 15/12/2011