في الوقت الذي كان متاحاً فيه للحكومة الجنوبية حلحلة قضاياها الخلافية مع الحكومة السودانية عبر مفاوضات أديس أبابا طوال الفترة المنصرمة والتي شارفت علي العام إلا أن الحركة الشعبية الحاكمة هناك أهدرت كل تلك الفرص والسوانح وظلت–وبإصرار غريب- تعرقل جولات التفاوض الجولة تلو الجولة تارة بالخروج عن أجندة المفاوضات وإقحام موضوعات غير مطروحة وتارة بتقديم مقترحات تعلم سلفاً أنها غير قابلة للتفاوض. وقد كان هذا المسلك شديد الوضوح حين ترأس وفد التفاوض أمين عام الحركة باقان أموم أحد أبرز وأضعي العراقيل بين الدولتين وأكثر الساسة الجنوبيين تطرفاً وتصلباً في المواقف ولو كانت حكومة الجنوب حسنة النية وتجيد العمل السياسي وتنظر الي مصلحة مواطنيها وتستشرف المستقبل فقد حصلت في آخر جولة تفاوض عقدت في مارس الماضي وتحديداً في الثالث عشر منه علي إتفاق نادر ليس من السهل الحصول عليه وهو إتفاق الحريات الأربعة. ذلك الإتفاق الإستراتيجي الذي كان كفيلاً بوضع أقدام الدولة الجنوبية علي عتبات الإستقرار السياسي والإجتماعي والإقتصادي وكان من الممكن أن يشكل أرضية صالحة لبناء أقوي وأمتن علاقة بين الدولة الجنوبية والسودان قوامها مصالح البلدين المشتركة وآمالها وتطلعاتها وليس هنالك دولة في الدنيا تريد أكثر من ذلك. لقد كانت المفاجأة صادمة للغاية حين ركلت الحكومة الجنوبية هذا الأساس المتين وخلخلت بنيان العلاقة بين البلدين بهجومها الغاشم واحتلالها لمدينة هجليج وإلحاقها لأضرار متعمدة بالنفط والمنشآت النفطية السودانية كان عملاً أخرقاً مثيراً للإستغراب لأنه غير مبرر وغير مجدي وأساء الي سمعة الدولة الجنوبية محلياً وإقليمياً ودولياً، ليس ذلك فحسب فقد عبأت الحركة الشعبية بهذا المسلك مواطني السودان تعبئة ليس لها مثيل ليقفوا ضدها ويلتفوا بقوة حول خصمها اللدود الحزب الحاكم في السودان المؤتمر الوطني، لقد تسبب هذا الموقف في إغلاق الباب أمام عملية التفاوض في وجه جوبا تحديداً ولهذا كان الثمن المباشر الذي سرعان ما إضطرت جوبا لدفعه من جيبها هو البحث عن وسيط ليعيدها الي مائدة التفاوض! وبدا الأمر غريباً حقاً، كيف لحكومة تهيل التراب علي مائدة تفاوض متاحة وسهلة وسلسة بعمل أرعن ثم تعود لتبحث عن مائدة بوسيط جديد؟ والأكثر غرابة أنها إضطرت للجوء الي بكين فالحكومة الجنوبية تدرك ان كل من واشنطن وغيرها من دول الغرب الحليفة لها ليسوا وسطاء نزيهين لأنهم في صفها وشركاء معها في الخطوات التكتيكية الفاشلة التي إتخذتها. ما من غباء سياسي كغباء الحركة الشعبية الذي جعلها تغلق أنابيب نفطها بيدها ثم تهيل التراب علي اتفاق الحريات الأربعة وكافة المبادئ التي أمكن الحصول عليها ثم تعتدي علي السودان عدواناً صريحاً عسكرياً وتخرب منشآت وأبار نفطه ثم تبحث بعد ذلك عن وسطاء لإيجاد حل! كما أن حلفاء جوبا سواء في واشنطن أو في تل أبيب وقفوا في مقاعد المتفرجين تاركينها لكي تواجه مصيراً مظلماً!! إنه سوء التدبير وسوء إدارة الأزمة وسوء الاستعانة بخبراء من الخارج هم آخر من يريدون مصلحة الجنوب. ان الصين مهما كانت درجة استجابتها للإلحاح الجنوبي فهي دولة عظمي تدرك الأمور إدراكاً دقيقاً ولهذا فليس من المتصور علي الإطلاق أن توجه الصين ضغوطاً علي السودان لإرغامه دون رغبته وإرادته للعودة الي مفاوضات انطوت صفحاتها فقد اشترط السودان من منطلق حق شروطاً لابد من استيفائها في مقدمتها معالجة المترتبات الأمنية قبل أي شيء آخر وحسم قضية الفرقتين (9) و(10) في جنوب كردفان والنيل الأزرق وإقرار جوبا بخطئها وجرمها في هجليج والتزامها بسداد التعويض اللازم ثم بعد ذلك ينظر السودان في القضايا الخلافية العالقة، لقد لفَّت الحكومة الجنوبية لفّاً شاقاً ومطولاً بغير داعٍ وهذا ديدن العاجزين الذين لا ينقصهم الغباء!!