طالب البرلمان السوداني – الاثنين الماضي – بضرورة تبني الحكومة السودانية لإستراتيجية شاملة لكيفية التعامل مع دولة جنوب السودان وذلك عبر توحيد الرؤى الوطنية حيال الأزمة السودانية الجنوبية مع إعطاء الأولوية في التفاوض للقضايا الأمنية، وضرورة تحديد هوامش للوفد التفاوضي يسير على هداها في المفاوضات المرتقبة. والواقع أن الحكومة السودانية ما تزال تعمل على بلورة إستراتيجية واضحة بشأن كيفية التعامل مع دولة جنوب السودان، وبالطبع ربما يستغرق الأمر وقتاً، كما ربما لا تمنح مجريات الأحداث وتصاعداتها فرصة كافية لبلورة هذه الإستراتيجية، ولهذا فإن من الضروري هاهنا أن نستشِف ملامح هذه الإستراتيجية من خلال الخطوات التي إتخذها السودان في الأشهر الثلاثة الحاسمة الماضية، والتي شكلت في مجملها وبصورة واقعية أكبر متغيِّر في علاقات الدولتين. ويمكن القول في هذا الصدد إنّ المتغير الرئيسي الذي بدأ ينخر في أساس علاقة الدولتين، هو القرار غير الموفق بإجماع المجتمع الدولي الذي اتخذته جوبا بوقف ضخ نفطها وتصديره عبر السودان. القرار الجنوبي لم يكن مبرراً مطلقاً وكان واضحاً أن الحكومة الجنوبية قصدت من ورائه إيذاء الاقتصاد السوداني بشتي السُبل، ومن ثم العمل على إضعاف السودان وتغيير نظامه الحاكم. كانت تلك أول إشارة واضحة أن الدولة الجنوبية عازمة على الدخول في مواجهة في الميدان الاقتصادي مع السودان علي أمل أن تنتهي إلى ميدان سياسي. ولما لم ينجح الأمر وتبيّن أن الضرر الأكبر وقع على دولة الجنوب، لم تحتمل جوبا ذلك، ولذا سارعت بإحتلال منطقة هجليج مركز إنتاج النفط السوداني تحت زعم أنها تتبع لحدودها! كان واضحاً أن احتلال هجليج بمثابة استكمال لحلقة (الخنق الاقتصادي) التي بدأتها جوبا بوقف تصدير نفطها عبر السودان، فما دام أن ذاك القرار لم يُحدِث الأثر الاقتصادي والسياسي المطلوب إذن فلتتم عملية تدمير لمنشآت النفط السوداني الرئيسية في هجليج، عسي ولعل إن تنجح ويتحقق ما أرادته جوبا. لقد إتضح من تسلسُل الأحداث وهذه الوقائع أن جوبا تنتهج نهجاً عدائياً صارخاً وأن النزاع لم يعد نزاعاً حول قضايا خلافية أو حدود، أو ملف النفط أو غيرها من ما بات يُعرف بالقضايا العالقة ؛ الأمر في الواقع أكبر بكثير جداً من كل ذلك لأنّ التفاوض الذي انعقدت له جولات شتي كان كفيلاً بحلحلة هذه القضايا بسهولة لو كان الموضوع كله ينحصر في مجرد قضايا خلافية عالقة. من هنا جاء التفكير السوداني في ضرورة رسم إستراتيجية شاملة تكون بمثابة خارطة طريق إذا صح التعبير، يعمل السودان على هُداها على إدارة علاقته بجوبا. من أولي ملامح هذه الإستراتيجية، تقديم معالجة الملفات الأمنية على ما عداها من ملفات وذلك لأن الملف الأمني في الواقع هو عصب الأزمة برمتها، وهو الذي يتسبّب في حالة التوتر الحدودي المتصاعد، والهجمات العسكرية، والضربات المتبادلة؛ بل أن الملف الأمني اذا جرت معالجته معالجة حقيقية جادة ربما يتكفل بحل الأزمة بكاملها، بحيث تبدو القضايا العالقة بعد ذلك مجرد ملفات مبسطة سهلة الحل، لأنّ الملف الأمني يحل مشكلة الفرقتين (9) و (10)، وهجمات الحدود، وقضايا الحدود ويفتح الباب لإستقرار مُتبادَل بين الدولتين هما في أمسّ الحاجة إليه بدرجات متساوية. الملمح الثاني، إبعاد العناصر التي تؤجج الصراع بين الدولتين، علي الأقل في الوقت الراهن وفي مقدمتها واشنطن نفسها، التي تبيَّن أنها عازمة على إذكاء روح الحرب بين الدولتين نظراً لمصالحها الخاصة وقد يبدو ذلك عسيراً ومستحيلاً، ولكن من الممكن في ظل وجود لاعبين آخرين مثل الصين وروسيا المحاولة في هذا الصدد؛ تماماً كما جرى بين تشاد والسودان وأسهمَ منذ أكثر من عامين فى توفير درجة عالية جداً من الاستقرار الأمني على حدودهِما المشتركة. الملمح الثالث، ترسيخ مبدأ المعاملة بالمثل بقدر كبير جداً من الجدية والدقة، إذ ليس هنالك من عامل فاعل أسهم في خلخلة المعادلة بين الدولتين أشد من تهاون السودان في تعامله بالمثل مع دولة الجنوب. هناك شعور خاطئ لدي جوبا، أن السودان يخشي حلفاء جوبا ولذا فهو يتعامل معها واضعاً في إعتباره هذا العامل، الأمر الذي جعل جوبا وبإستمرار تخرق الاتفاقات، وتطالِب فتُجاب، وتريد فتلقي، وربما كان خير من عبَّر عن هذه الإستراتيجية الرئيس البشير في مخاطبته مؤخراً لإتحاد عام عمال السودان، فقد أكد على ضرورة إمضاء سياسة المعاملة بالمثل في كل الأحوال وكل الظروف لأنها السياسة الوحيدة التي تعد قادرة على وضع الحكام الجنوبيين أمام مسئولياتهم. وهكذا، ومع وجود ملامح إضافية أخرى، فإن ما أشرنا إليها تمثل جانباً رئيسياً مهمَّاً من الإستراتيجية المطلوبة، فالأمر هنا لا يتصل بنظام حكم معين هنا أو في جوبا، ولكن الأمر يتصل بحقائق واقع بين دولتين علاقاتهما في طور التأسيس والبناء، ولكي يكون الأساس متيناً والبناء قوياً، لابُد من مواد بناء إستراتيجية صلبة لا يتطرق إليها الضعف!