بصرف النظر عن ما قد تتخذه الحكومة السودانية من قرار بشأن الدخول في تفاوض مع قطاع الشمال بالحركة الشعبية - قبولاً أو رفضاً- وبصرف النظر عن طبيعة الموضوعات التى من المقرر أن تتفاوض معه حولها، سياسية كانت أم أمنية أم محض قضايا إنسانية الهدف منها معالجة الأوضاع الإنسانية فى ولاية جنوب كردفان فإن فكرة التفاوض فى مجملها لا تبدو فكرة سديدة. فقطاع الشمال هو الآن جزء لا يتجزأ، بل جزء أصيل من مكوِّنات ما يسمي بالجبهة الثورية، وهى جبهة أهدافها المعلنة هى محاربة الدولة السودانية بشتي السبل والوسائل وتسند ظهرها فى هذا الصدد على جدار حكومة جنوب السودان. ولعل أسوا ما فى قطاع الشمال –ونحن هنا نتحدث بمقياس وطني مجرد– إرتباطه الوثيق، عقائدياً وسياسياً ولوجستياً بالحكومة الجنوبية لدرجة ان التراتبيّة التنظيمية تجعل من القطاع ملتقي لتعليمات وتوجيهات الحركة الشعبية الحاكمة في الدولة الجنوبية، وهو أمر –بداهة– يتعارض كل التعارض مع السيادة الوطنية للدولة السودانية، ولم يعرف التاريخ الوطني السواني حديثاً أو قديماً إرتباط منظومة وطنية بدولة أجنبية ويتم إفساح مجال لهذه المنظومة داخل الساحة السياسية السودانية. اذا فتحت الحكومة السودانية باباً خطيراً كهذا فهي تضع أساساً لسابقة سياسية ذات أبعاد كارثية مهلكة، لن ينجو منها السودان لا حاضراً ولا مستقبلاً، بما يجعل منه (حديقة خاصة) لدولة أجنبية مجاورة وتلك أقصي وأقسي نتائج سياسية يمكن ان تلحق بدولة ذات سيادة . من جانب آخر فإن مجرد وجود قطاع الشمال داخل حظيرة ما يسمي الجبهة الثورية وهو بمثابة رأس الرمح فيها يجعل منه (مجرماً سياسياً) لا يستحق أن يحجز له مقعد سياسي داخل الدولة، ويكفي فى هذا الصدد أن نشير فقط الى ان ما يسمي بالجبهة الثورية تضع ضمن أهدافها أهدافاً شاذة ليست مألوفة تماماً فى الشأن السياسي فهي وحسب آخر إجتماع عقده قادتها فى كمبالا فى التاسع والعاشر من يوليو الجاري تهدف الى تدمير المشروعات التنموية والخدمية فى السودان كهدف تعتبره مشروعاً، وتهدف أيضاً الى قطع الاتصالات، وتوسيع نطاق الفرقة بين المكونات السياسية، وتقرّ صراحة -دون أدني مواربة- بأنّ قوي المعارضة السودانية ومن تطلق عليهم الأحزاب التقليدية ليسوا جديرين بأن يكونوا بديلاً للسلطة الحاكمة الحالية، وهذا يعني أنها تستهدف كافة مكوّنات البيئة السياسية السودانية على نحو مباشر وصريح. والأكثر سوءاً ان مداولات إجتماع ما يسمي بالجبهة الثورية تناولت بإستفاضة فى إجتماع كمبالا المُشار إليه التمويل ومصادره المتعددة وإتضح ان فرنسا قدمت حوالي 3 مليون دولار وإسرائيل قدمت حوالي 2 مليون دولار وهناك دعومات مالية أخري قادمة بما يشير الى أن المال الاجنبي الذى يستخدم من قبل قطاع الشمال وما يسمي الجبهة الثورية الهدف منه هدم أركان الدولة السودانية سعياً لإقامة دولة جديدة وفق رؤي قادة القطاع ومن يقفون خلفهم. التفاوض مع القطاع وهو يجرّ خلفه كل هذه الذيول الطويلة الثقيلة ما هو إلاّ إضافة أعباء سياسية وأمنية جديدة للساحة السياسية السودانية هى فى غني تام عنه، ولعل أخطر ما فى الموضوع أن تكون قد فتحت (النافذة) بمحض إرادتها لتدخل الحركة الشعبية الحاكمة فى جنوب السودان وتصبح حاكمة فى دولتين، وهو ما إستحال عليها تحقيقه بالسلاح لعقود خلت فهل تسهم حسابات الحكومة السودانية المعقّدة فى تسهيل هذه المهمة؟ أم أنّ الأمر يتم إخضاعه لعملية حسابات أكثر دقة وتمحيصاً؟ الأمر يبدو صعباً وعصياً على النظر والتدقيق!