فى جانب من تبريرها لرفض مشاركتها فى إعداد الدستور تقول قوى المعارضة السودانية إن مشاركتها لن تعدو كونها تزيّين لمائدة الوطني وهو فى النهاية سيفعل ما يريده ويرغب فيه. فى جانب آخر من تبريرها تقول إنها حتى ولو شاركت وإقترحت وناقشت فإن البرلمان الذى يحوز الوطني على أغلبيته، هو الذى سيقوم بإجازة الدستور من ثم لا نفع من أىّ مشاركة طالما أنها فى الحالتين لن تؤثر. الرأى الاول قال به أبو عيسي والمهدي والشعبي، فى حين ان الثاني قال به القيادي بالاتحادي الأصل د. على السيد المحامي. وكان واضحاً ان خلاصة رأى المعارضة هو عدم المشاركة. الوطني من جانبه أشار عدة اشارات بمعني واحد أن المشاركة وفق المعطيات الماثلة تاريخة وأن متغيرات عديدة طالت الساحة السياسية السودانية وينبغي ان تفتح قوى المعارضة صدرها وقلبها لهذه الدعوة، فهي مختلفة وبالغة الجد والعمق. والأمر بهذه المثابة يكشف عن هوّة عميقة من عدم الثقة ربما كان مبعثها تجارب سابقة ولكن فى السياسة فى الغالب لا تتكرّر المواقف بمثل هذه الدقة، كما أن لغة السياسة يمكن فهمها فى كل الظروف بحسب الظرف السائد والمتغيرات والمعطيات، والأمر فى كل الأحوال يحتاج الى إحساس عميق بالمفردات واللغة وطبيعة الظروف. الأمر المثير للقلق هنا هو ليس فى عدم الثقة هذه، فالسياسة لا تعرف الضمانات؛ وأيّما سياسي يدخل الملعب السياسي باحثاً عن ضمانات أولاً وقبل ان يلعب، هو سياسي قليل حيلة وسيضيِّع وقته كله دون أدني فائدة. الأمر المثير للقلق هو ان قوى المعارضة السودانية فقدت الثقة فى نفسها، وهو أمر نتجَ عن إخفاقات عديدة مرت بها لدرجة أنها قضت أشهراً طوالاً مطلع العام الماضي فى لقاءات وإجتماعات فقط بغرض الخروج برؤية سياسية أسمتها وثيقة البديل الديمقراطي! مجرد ورقة محشوة بأحلام سياسية ورؤي لمستقبل لم تعمل له جيداً، لم تستطع ان تتفق عليه بسلاسة وسهولة ودخلت فى خلافات وعراك وأحياناً شتم سياسي وغير سياسي فقط لإجازة ورقة تحمل تصوراً لا أحد يدري متي تترجم لواقع وكيف؟ إذن الأزمة ليست أزمة ما بينها وبين الوطني كما تزعم؛ هى أزمة ما بينها وما بين بعضها، والذى يعجز عن الاتفاق على صعيد واحد وفي صف واحد لا يمكنه أن يتفق مع خصمه. كما أن تاريخ هذه الاحزاب إبان العهود الديمقراطية السابقة كله حافل بالخلافات والمشاكسات والضحيج العالي الذى لا يسمن ولا يغني من جوع . إنهارت كل نظم الحكومات الديمقراطية السابقة (ثلاثة مرّات) بسبب هذه الخلافات وأدركت الجماهير بذكائها المعروف ان هذه الاحزاب لن تنجز لها شيئاً. إن أردنا التشخيص فإن هذه هى الأزمة، فقدان هذه القوى للثقة فى نفسها وإفتقارها للإرادة السياسية وعجزها عن أن تصبح بديلاً حتى ولو بصورة افتراضية مؤقتة. لهذا كان من الطبيعي ان ترفض دعوة الوطني للمشاركة فى إعداد الدستور، وقد فضّلت بدلاً عن المشاركة الهروب الى أحلامها الخاصة بأنها سوف تفصّل دستورها (الخاص) بعد إزاحة الوطني وإسقاطه من السلطة! وهى إحدي أهمّ صفات العاجز حين يرفض الواقع المتاح علي علّاته أملاً فى أحلام وردية بعيدة لا تنقصها الاستحالة تماماً كما قال أبو الطيب المتنبئ قديماً: وإذا خلا الجبان بأرضٍ ** طلب الطعن وحده والنزالا! إن قضية المشاركة فى الدستور كانت سانحة لقوى المعارضة لتؤدي عملاً وطنياً خالصاً تفاخر به وتحاجج به جماهيرياً. لقد إنقضت أكثر من عشرين عاماً وهذه الأحزاب تدور فى موقف واحد لا تستطيع منه فكاكاً. كما أننا حتى ولو إفترضنا جدلاً أن جهدها الذى ستقوم به لن يرَ النور فما ضير فى أن تشارك وتوثق مشاركتها بالرؤي والمقترحات وتدع النتيجة للظروف، فالعبرة فى العمل السياسي الوطني بالعمل والأداء الجيّد المتجرد والنتيجة ليست من شأنها. ثم من أين تستقصي قوى المعارضة إفتراضاتها السهلة بأنها ستكون زينة للمائدة؟ وما الضير فى أن تحاول وتجتهد وتخلِص لتري ما سيحدث؟ أليس ذلك أفضل من الجلوس فى الطرقات والرصيف والتمنِّي؟ ولعق التاريخ الماضي؟ لماذا تضع قوى المعارضة نفسها دائماً فى ضع المُضاف ولا تتطلع لدور الجار وتكتفي بالمجرور؟