بالنظر الى الإستراتيجية الواضحة التى يتبعها السودان فى نزاعه المتطاول مع دولة جنوب السودان فإن القضايا الخلافية الناشبة بين الدولتين ليست بلا نهاية. ربما اعتقدت جوبا وفق حساباتها وخططها أن تكتيكاتها التى تحولت الى إستراتيجية فى نزاعاها مع السودان ستظل كذلك ما ظلت الحركة الشعبية تحكم دولة الجنوب. فمن بين القادة الجنوبيين من لا يزال يعتقد أن بالإمكان العودة الى الحرب لحسم هذه القضايا لا سيما أولئك القادة الذين يمثل الجنوب لهم – رغم كل مساحته الشاسعة وموارده – منطقة واحدة متنازع عليها بين الدولتين، إذا لم يتم حسم تبعيتها للجنوب فلا بد أن تنشب الحرب. القيادي دينق ألور وإدوارد لينو ود. لوكا بيونق جعلوا من قضية الخلاف العادي المتوقع بين دولتين بينهم انفصال، ومن الطبيعي أن يثور نزاع بينهما، قضية خاصة بهم، والحرب بالنسبة لهم لم تنته طالما أن تبعية أبيي ليس فقط لم يحسم النزاع حولها؛ ولكن لم يُحسم لصالح الدولة الجنوبية. ولعل هنا مكمن تفسير ما قاله المبعوث الأمريكي برنستون ليمان حول اعتقاد الحركة الشعبية أنها تعيش فى غابة وأنها حركة تحرير وفي أيّ وقت يمكن أن تعود للحرب. ليمان كان يعرف بالضرورة طبيعة ما يدور فى أذهان هؤلاء القادة. على الجانب الآخر يبدو السودان مدركاً لهذه الحقيقة فليس الأمر هنا أمر حل الخلافات ولكن الأمر مرتبط ببقية أجندة لم تحققها الحرب السابقة، ويريد هؤلاء تحقيقها عبر التفاوض، أو إذا دعا الحال عبر حرب جديدة أخرى! غير أن السودان فيما يبدو راهن على بُعد استراتيجي مغاير تماماً؛ إذ على الرغم من أن الجانب الجنوبي يعتمد تكتيك عرقلة الحلول إلا إذا حققت أجنداتهم بالكامل، ويستقوي فى ذلك بالولايات المتحدة، والولايات المتحدة لن يضيرها الأمر فى شيء طالما أنها بهذه الطريقة تنال من السودان وتضعف مواقفه وتشعره بأنه سيظل فى هذا الموقف، لا هو حل مشاكله، ولا استراح من عملية الانفصال، إلا أن القادة الجنوبيين أسقطوا من حساباتهم فرضيات عديدة ربما تسببت عاجلاً أو آجلاً فى إفساد تكتيكاتهم هذه. لقد أسقط قادة الحركة عنصر الوقت وهو عنصر مهم إذ لابُد من أن يحل أجل الاستحقاق الانتخابي بعد عام أو عامين فى دولة الجنوب، فالسياسة لم تعد ترحم ولم يعد بالإمكان أن يستمر نظام حكم دون ممارسة ديمقراطية حتى ولو كانت نظرية أو شكلية. القادة الجنوبيين نسوا ذلك تماماً ولكن واشنطن بالطبع لن تنسى وستعمل على تذكيرهم بذلك حالما تقتضي الأمور ذلك. الفرضية الثانية أن واشنطن وحال تعاملها مع أيّ حليف، خاصة من دول ما يسمى بالعالم الثالث، لابد أن تضيق ببعض من يعرقلون استراتيجيها. وضيق واشنطن بهؤلاء قد يقودها أحياناً الى (تغيير جياد العربة) وهو أمر شائع فى أفريقيا إذ أنها إما أن تنشط فى دعم متمردين ضد هؤلاء؛ أو أن تجبرهم على إقامة استحقاق انتخابي لتحرجهم سياسياً. من المؤكد أن واشنطن ستمارس هذا الأسلوب عاجلاً أم آجلاً. هناك أيضاً فرضية ثالثة وهي فرضية الخلافات؛ حيث من الممكن أن ينشب خلاف داخل مكونات القيادة الجنوبية ويحدث اضطراباً، أو يخلخل بنيانها السياسي وتقع أزمة ثقة، وفي هذه الحالة فإن فقدان التماسك السياسي يُضعِف الى حد كبير تكتيكات الحكومة الجنوبية، ويجعل جزء منها يمضي باتجاه حسم الأزمة مع السودان وجزء آخر يزايد عليه؛ وهكذا، ففي المحصلة النهائية تهتز القيادة. قلنا كل ذلك على اعتبار أن الحكومات تخضع لعوامل الزمن وظروفه وتطالها ما يطال الفرد العادي من تغيُّر وتبدل ولهذا فإن كل من يعتقد أن تكتيك جوبا الحالي سوف يمضي الى الأبد، مخطئ دون شك، وهو ما يجعلنا نعتقد أن المباحثات التى تجري بين الرئيسين كير والبشير على طريق الحل النهائي الشامل لهذه الخلافات لم يتم اللجوء إليها مع وجود وفدين متفاوضين إلا لهذه الاعتبارات. اعتبارات المصالح العليا البالغة الحساسية للدولتين، والتي تتطلب نزع ملفاتها من أيدي الوفود التى بعضها متأثر بمصالحه وأجنداته، الى رحابة الرئاسة حيث النظر الاستراتيجي والأبعاد الحقيقية للأزمة، وهو ما يُفهم منه أنه ومن اللحظة التى بدأت فيها القمم الرئاسية بين البشير وكير، بدأت فى الواقع الأجزاء الأولى للفصل الأخير. فإذا قسّمنا مراحل النزاع بين الدولتين من حرب طاحنة، الى اتفاقية سلمية، ثم فترة انتقالية، ثم تقرير مصير، ثم انفصال، ثم قضايا ما بعد الانفصال، لوجدنا أننا فى الواقع وصلنا الآن الى نقطة النهاية فى المرحلة الأخيرة، وهي قضايا ما بعد الانفصال، حيث لابُد من معالجة كافة الخلافات وإقامة علاقات متوازية لخير الدولتين ولمصلحة المنطقة. الرئيس البشير والرئيس سلفا كير طويا أجزاء عديدة – عبر اللقاء المباشر بينهما – من المرحلة الأخيرة ويمكن القول أنهما الآن فى الجزء الأول من الفصل الأخير باعتبار أنهما الآن وصلا الى قناعة بمعالجة الخلافات بقرارات مباشرة منهما عبر القمم، وعبر مصفوفات وخارطات طريق، فهذا هو المدخل لإنهاء النزاع.